يبدأ الكاتب المسرحي الواقعي في بناء النص المسرحي من منطلقات فكرية جاءت مع ظهور المنهج الواقعي والذي دعا إلى خلق نظام جديد مبني على اكتشاف علاقات جديدة بين الإنــسان بأبــعاده المختلفة وخصوصـاً النــفسي منها وبين الواقع، حيث جاء هذا المنهج بمعايير فكرية مناهضة اكتسبت عمقها الذهني من وعي الإنسان بواقعه وهذا هو الوعي الذي تتصالح فيه القوى الخارجية والداخلية للمجتمع ، وكذلك ينطلق من امتلاك فهم للواقع الإنساني أولاً وتغييره ثانياً، لذلك فقد عمل على إعادة النظر في تركيب الواقع وفي الطبيعة الداخلية والخارجية باعتبارها النموذج المطلوب في الفن تصويره ، لذلك لم يسعى الكاتب المسرحي الواقعي فقط للتصوير الخارجي للواقع بل البحث في مضمونه الداخلي (الروحي والنفسي) لأفراده وإعطائه الصورة الجديدة المبنية على واقع فني جديد لا يقوم على المحاكاة بل على خلق نموذج مغاير، لذا عمل الكاتب المسرحي في الواقعية على إبتكار أشكال فنية تتجاوب مع مثل الكاتب ونظرته الجديدة للحياة الإنسانية .
يسعى الكاتب المسرحي الواقعي إلى تأكيد العلاقة بين الخاص والعام في نصه، باحثاً من خلاله في كيفية تصويره لشمولية الإنسان والأشياء معاً وإرتباط الأحداث بالمصائر الفردية للشخصيات ، فهذه العلاقة هي علاقة إندماج بين ما هو عام وخاص، أي إن العام يبدأ لديه في الأشياء الشديدة الخصوصية .
يعد ( تشيخوف ) من الكتاب الذين قدموا لنا أسلوباً خاصاً في تقديم الشخصيات المسرحية فلقد صور تصويراً واقعياً العالم النفسي المعقد المتناقض لأبطاله المنحدرين من وسط الانتلجنسياً وقد ساعدته الرؤيا الواقعية لا على إستخدام الألوان الظاهرة في الوصف السيكولوجي فقط بل على الإحاطة بجميع النغمات والمنعطفات غير المرئية فمهد له ذلك تصوير الواقع تصويراً كاملاً وموضوعياً.
يضع ( اندريه مورو ) يده على نقطة مهمة ميزت أسلوب ( تشيخوف ) عن الكتّاب المسرحيين الواقعيين هي البساطة ومشابهة الواقع فليس هناك بطل مسرحي بالمفهوم التقليدي ولكن هناك مجموعة من الناس وشريحة من الحياة ومواقف في غاية العادية والبساطة تكشف عن أغوارها هذه المجموعة المختارة من البشر عن طريق اصطياد حاذق للملاحظات العرفية المفاجئة التي تبديها هذه الشخصيات ولا تلقي هذه الملاحظات العفوية والتلقائية دفعات من الضوء على أعماق الشخصيات فحسب، بل تقدم إلينا الكثير من هموم روسيا ومن طبيعة الموقف الدرامي الذي تتضمنه المسرحية.
فالبــعد النفسي ودوافع الشخصيات الدرامية لا تأتي من الأحداث الخارقة بل أن تشيخوف كرس ملكته للتعبير عن المألوف في الحياة اليومية لأنه وجد مسيرة الحياة وحركتها في التيار الحياتي اليومي والمشاعر الاعتيادية وذلك عندما لا يحدث أي شيء خارق، ولم يكن النظام الحياتي اليومي بالنسبة لتشيخوف مجرد – حالة – أو واجهة للانتقال منه إلى الأحداث، بل كان هو الجو الحياتي نفسه والموضوع الجوهري لأبداعه الفني ، والذي تميز في رسم الملامح النفسية لشخصياته المسرحية ودوافعها التي عانت دوماً ” من إحساس حاد بكينونتها، ليس بالمعنى الوجودي للكلمة ولكن بالمعنى الذي يتيح لنا تفهم وجودها الشخصي كمحصلة للظروف الحضارية التي تعانيها، تلك الظروف التي تبدو في أغلب الأحيان قاسية مملة ومحبطة لكل محاولات الشخصيات للتخلص من قبضة هذا الدافع الدامي المرير، فأغلب الشخصيات تحس بولوغها في حمأة هذا الواقع وتصبوا لتجاوزه والأرتفاع عليه، ولكن قسوة الحقائق أقوى من نعيم الأمنيات.
تميزت الشخصية الدرامية الواقعية عند تشيخوف بأنها تحمل في داخلها التمرد والاحتجاج وعدم الرضا عن ما وصلت إليه الأمور في مجتمعها فهي شخصية يتداخل فيها جانبان، جانب مادي ظاهري وجانب نفسي، وتصنف شخصياته إلى نوعين : شخصية محورية تدور حولها الأحداث خالقة عنصر الصراع من خلال دوافعها النفسية المحركة لأفعالها، وشخصيات مساعدة لها، كما أن المرتبة التي تحتلها الشخصية الرئيسية جوهرياً تنبع من درجة وعيها بمصيرها، وقدرتها على الارتقاء الواعي بما هو شخصي وخاضع للصدفة في مصيرها إلى مستوى معين من العمومية كما تكون للظروف المحيطة تأثيراً كبيراً في مسار الشخصية وحركتها، فهي شخصية غير منسجمة مع واقعها الاجتماعي وتحمل دائماً سراً أو لغزاً يكشف عنه في النهاية مما يؤدي بها أما أن تعزل نفسها عن المحيط أو تهرب منه .
سعى ( تشيخوف ) وبصورة دائمة إلى رسم صوراً تعبر عن موقف اجتماعي شامل وأن يغزل خيوط هذه الصورة من خصائص فردية لا حصر لها، ومن ملامح نفسية متفاوتة تنبض بالمرارة والحياة وأن يعمق من خلال هذا الجو العام المتميز والفريد شخصية مسرحية روسية واضحة المعالم ، تعبر عن شمولية الحياة في روسيا وما آلت إليه تلك الحياة المثقلة بالروتين القاتل والحياة المملة التي أصبحت من مميزات الشخصية الدرامية عند تشيخوف .
إن شخصيات تشيخوف تفصح عن نفسها من خلال العمل أو من خلال الأفكار والعواطف المتصلة اتصالا وثيقاً بهما، فهو لا يعرض لنا في هذه الشخصيات انفعالات مصطنعة بل يصدر من هذا المزاج الداخلي الذي يؤلف بين حقائق الحياة في ريف روسيا ، وبين دوافع تشيخوف ومثله العليا مزيج واضح لتلك الانفعالات الصادقة التي أصبحت السمة البارزة والواضحة في ذلك الرسم النفسي في شخصياته وانفعالاته ودوافعها النفسية .