يعد الفن بصورة عامة وسيلة من وسائل الإتصال الأكثر فاعلية في المجتمع ، لما يمتلكه من لغة تستطيع أن تحاكي المشاعر والاحاسيس الإنسانية ، التي تتشكل بفعل البعد الأنطولوجي لهذه الأشياء التي تصاغ منها اللغة ، وهذ اللغة تعمل على تحقيق الأثر في داخل المتلقي فنيا ،هدفها الفائدة الاجتماعية ،والمتعة التي تخلق في الذات الانسانية صورة متقدمة عن الحياة بوساطة الأثر الفني الذي يعد وسيلة أتصال ، ولكن على الرغم من أنه ، في الحقائق الثابتة أن النجاح في هذا التوصيل يتطلب صورة خارجية تمتاز في أن واحد بالفاعلية ، فلا جدال في أن هذه الصورة تصبح غير ذات معنى إذا نحن فصلناها عن الرسالة التي تؤديها فالصورة الخارجية ، بتكوينها الأنطولوجي ،والمضمون الداخلي الذي يتبناه العقل الانساني من الوجود المادي ، يعملان سوية في ايصال الرسائل الى المتلقي .
والمسرح بوصفه فناً ، يعد وسيلة من وسائل الاتصال التي يمتلك صفة حضورية قصدية عيانية مباشرة ،قائمة على وجودات خارجية تتشكل في سياق فني ، هدفه انتاج لغة مرئية مسموعة تشكل بنية خطاب العرض المرسل الى الجمهور ،والتي تبنى بشكل يحتوى على العديد من الشفرات ، التي عُمل عليها في حمل أفكار الخطاب المسرحي من خلال عملية اتصالية بين طرفي الإرسال والتلقي .
يحتوي البعد الأنطولوجي للخطاب المسرحي على ثلاثة أنواع من التأثيرات ، التي يفرضها الوجود الخارجي لعناصر العرض على متلقيه ، فهو يحتوي على تأثير فكري يؤثر على ذهن المتلقي ، وتأثير عاطفي يؤثر على شعوره ، وتأثير ترفيهي هدفه المتعة، وتأخذ انطولوجيا الخطاب المسرحي محتواها وطبيعتها تأثيراتها من طبيعة الفكر الانساني وعلاقاته التي تصور العلاقات في ضوء طبيعتها وبيئتها المتساوقة مع ما يريده الفرد لذلك ، مما يجعل المبدع للخطاب يتحكم في طريقة وصياغة الموضوعات المرسلة إلى المتلقي ، لأنها منبثقة من الوعي الجمعي للطرفين بشكل قصدي وفعال من قبل المرسل.
هناك نوعان من الاتصال في الخطاب المسرحي ،هما: اتصال سمعي يشتغل على صوت الممثل والمؤثـــــرات الصوتية الأخرى ، واتصال بصري يشتغل على العناصر الأنطولوجية ودلالاتها البصرية التي حددها كل من ( الين أستون ، وجورج سافانا) في كتاب ( المسرح والعلامات ) ، والكيفية التي تصنع بها الشفرات للغة الخطاب وتستلم من المتلقي ، وهي على أربع مراحل:
المرحلة الاولى:- يقوم كاتب النص الدرامي الناقل للصورة الوجودية الأولى في تكوينها الأنطولوجي داخل الخطاب النصي ، إذ يعمل بتشفير النص من خلال إدراكه لوظيفته في تأكيد البنى الوجودية الأولى ،التي يستقي منها المخرج وكادر العمل المسرحي كمخطط أولي للإخراج المسرحي ، وكما في نص مسرحية (فاوست) للفيلسوف والأديب الألماني (جيته) ،الذي ينقل على لسان شخصيته (فاوست) سياقات الصورة النصية وتكوينها الأنطولوجي على وفق تصويره الذهني (الوجود الذهني )، الذي يحاكي ما يراه المؤلف في مواقف الحياة المختلفة ليقدمها في النص عن البيئة والطبيعة الانسانية :
فاوست: أين علينا أن نذهب.
مفستوفيلس: الى حيث تهوى أنت . أنت ستشاهد العالم الصغير، وبعد ذلك العالم . الكبير ما أعظم سرورك واجزل إفادتك من قطع أشواط هذه الرحلة وأنت متطفل!.
فاوست: لكن مع لحيتي الطويلة يعوزني فن الحياة السهل . ولن تفلح معي المحاولة . أني أجهل كيف أتصرف في الدنيا. وأمام الغير أشعر بنفسي صغيراً جداً، سأكون دائما مربكاً.
هذه الصورة ذات الأبعاد الأنطولوجية ، يقدم فيها (جيته) طبيعة شخصية بطله وبعده الوجودي وصورته وماهيته في بنائها النفسي والجسدي ، بل وحتى طبيعة مواقفه ازاء العالم والأشخاص الآخرين ، وهذا يرسم بطريقة مميزة لشخصية (فاوست) وعلى لسانه هو ، من خلال ما يقوله عن نفسه أمام (مفستوفيلس). وكل هذه إشارات مهمة يستطيع المخرج والمجموعة التي تعمل معه على تشكيل صورة عن (فاوست) في هذه المسرحية .
المرحلة الثانية :يقوم المخرج بعد تلقيه للنص، وبناء الوجود الذهني الثاني بعد أن جعل المؤلف وجوده الذهني الأول من خلال النص ،ووصف فيه البناء والأنساق الثقافية والمعرفية والبيئية عن الشخصيات ، يعمل على تشكيل ماهية العمل من جديد بعد فك شفرات الماهية الأولى التي كوّنها المؤلف ليأتي المخرج ليفكك شفرة النص ويعمل على تطويره وتنمية مجموعة تصاميمه مع فريق العرض للوصول إلى الميزانسين.
المرحلة الثالثة: يبدأ بعد المرحلة الثانية ، والتي يعطي فيها المخرج رؤياه للنص وكيفية بناء العرض ،على وفق تشكيل عناصره المادية ، يبدأ الفريق الخاص بالعمل بإعادة تشفير النص لتطوير وتنمية مجموعة التصميمات في إطار القيود المالية، وكذلك المكانية والزمانية التي يقدمهم العرض .
المرحلة الرابعة: التي يقع فيها عملية الفاعل بين وجودات العرض وتلقيه كوجود ذهني في فضاء الاستقبال ، وهنا يقوم المتفرج بحل شفرة العرض، ويحدث جدل متبادل بينه وبين البعد البصري كعامل مكمل لعملية التلقي.
إن لغة الخطاب المسرحي تتكون من مجموعة العناصر المادية المكونة للعرض المسرحي ، فكل عنصر منها يدخل في تكوين المنظومة المعرفية السمعبصرية التي يأخذ منها الخطاب لغته المرسلة الى المتلقي ، فالمكان وفضاؤه المسرحي، هو الذي يعد المساحة التي يبـــني من خلالها اللغة الأنطولوجية للخطاب المسرحي وذلك لأنه (موقع العرض) يعد المنظومة البصرية والجمالية الأولى التي يصطدم بها المتلقي كي يؤسس توقعه على الأقل أو انتمائه لاشتغال منظومة العرض الفكرية التي تأتي لاحقاً . يختلف مكان العرض المسرحي باختلاف الموقع الذي يقدم فيه ، إذ يرى (جوليان هلتون ) على وفق رؤيته ، في كتاب نظرية العرض المسرحي .
إنَّ مواقع العرض على ثلاثة أنواع، هي :ـ
• المواقع المحايدة : وهي الأماكن المفتوحة والخالية التي تقدم فيها العروض المسرحية أحياناً إلى جانب النشاطات الأخرى كالألعاب الرياضية مثلاً ، وحياديتها لا تمنع من ان تكون أماكن للعروض كما كان يحدث عند الاغريق والرومان ،وفي هذه الحالة فأنها تبقى في أطارها الفرجوي قابلة للتمازج مع عناصر العرض المفترضة لتقديم وجود خارجي مكون للماهية للخطاب المسرحي وصورته الأنطولوجية في ذهن المتفرج .
• المواقع العارضة : وهي التي تقدم فيها بعض العروض المسرحية ولكن بصورة غير دائمة ،أو منظمة مثل القصور والكنائس وتصميمها الداخلي يقترب من تصاميم المسرح الفعلي مثل قاعة الدرس مثلاً ، وهذه المواقع تدلل ببعدها الأنطولوجي على تقديم عروض مسرحية تأخذ من المكان ذاته بيئته في ايجاد صورة مطابقة لبيئة العرض المسرحي ، مثل ما قدمته فرقة المسرح الحي ، التي كانت تقدم عروضها في الكنائس مثلاً,
• المواقع المخصصة أو الدائمة للعروض المسرحية : كالمسرح أو دار الأوبرا مثلاً، وهذه العروض تبني تكوينها الأنطولوجي من خلال ما يخطط له المخرج من إيجاد بيئة متناغمة مع فكرة المسرحية التي يريد تقديمها وتوظيف عناصر عرض مسرحية تحقق هذا البعد في انتاجها للعرض ، على وفق المراحل الاربعة التي تم ذكرها في السابق .
ويعد الممثل العنصر الأنطولوجي ذات الصورة الحية والمتحركة ومن أكثر العناصر الحاملة للعلامات في المسرح فهو وحدة ديناميكية لمجموعة كاملة من العلامات أنها تحمل ما يمكن أن يكون جسد الممثل وصوته وحركاته ، وأيضاً عدة أشياء من قطع الملابس حتى المنظر المسرحي إن الممثل يجعل المعاني تتمركز حوله وقد يفعل ذلك إلى حد أنه بأفعاله يمــــــكن أن يحل محل كل حوامل العـلامات Sign Carriers ، فالممثل هو العنصر الأساس في عملية تجسيد النص صورياً على المسرح وإنتاج الدلالات المسرحية التي تقع في الغالب عليه ، بوصفه العنصر الحي الوحيد القادر على نقل المعاني والأفكار إلى المتلقي .
إنَّ العلامات الأنطولوجية ،ذات الابعاد البصرية التي يقدمها لنا جسد الممثل لا تعتمد فقط على جزء واحد من أجزاء الجسد كالوجه ،أو الأيدي ،أو الأرجل بل أن إيصال هذه العلامات يعتمد على عمل أجزاء الجسد سوية ، أي أن التشكيل الجسدي لا يعتمد اعتماداً رئيسياً على تعبيرات الوجه وحدها ، وإنما يكون لهذا الوجه علاقة عضوية مع أعضاء الجسد الأخرى لينجز مهامه الجمالية حسب مقتضيات العرض المسرحي. ويختلف كل جزء من أجزاء الجسد في أهمية التعبير الأنطولوجي عن الأجزاء الأخرى ، وتختلف أهمية الجسد المتحرك عن الجسد الساكن في إيصال المعنى إلى المتلقي ، وتختلف الدلالة الأنطولوجية لحركة الجسد تبعاً لدوافع الشخصية المسرحية ، فالدوافع القوية والبسيطة تكون حركتها مستقيمة ، أما إذا تعددت العلاقات بين الشخصيات بين المسرح كانت الحركة منحنية ، وفي حالات الشك والتردد تكون الحركة متعرجة .
أما الأزياء فتعد من العلامات الانطولوجية التي تأخذ دورها كعلامة دالة وناقلة للمعلومات في اللغة الوجودية للعرض المسرحي (انطولوجيا الخطاب)، وذلك حينما يرتديها الممثل لتصبح جزءاً حياً من شخصيته ، فهي تتحكم في حركته وفي تعبيراته وتؤثر في سلوكه العام بصورة مباشرة، إضافة إلى طاقتها الإشارية التي تساهم في الإفصاح عن معاني الأحداث ودلالات الشخصيات ، وكذلك قد يشير الزي كعلامة إلى علامة أخرى ليس للزي نفسه ، وتأخذ ألوان الأزياء قوة تأثيرية دالة في عكس الصورة الانطولوجية ، وابعادها للوجودات في العرض المسرحي ، إذ يوظف المسرح ، أيضاً دلالة ألوان الملابس ومظهرها العام في الإيحاء بالجو النفسي والحالة الشعورية في مواقف بعينها ، وكذلك الإكسسوارات ، أو الملحقات المسرحية فهي أيضاً من العلامات الدالة في الخطاب المسرحي ، إذ تطلق مفردة الإكسسوارات أو الملحقات المسرحية على الأدوات والأشياء التي تستخدم في تحقيق الأحداث المسرحية في أثناء العرض ، فالقتال يستلزم وجود مسدسات ،أو خناجر ،أو سكاكين ، أو الرسائل تنتقل عن طريق الخطابات المكتوبة واعترافات الحب تدعمها الهبات الرمزية . ومن هنا كانت الخناجر والخواتم وأكياس النقود والأطعمة من أكثر المهمات المسرحية شيوعاً على خشبة المسرح وتؤثر الإكسسوارات في المتلقي لكونها تحمل دوال وجودية في مظهرها الخارجي ذات مدلولات مختلفة ، فهي تؤدي دوراً سيميائيا وذلك لأنها تحتوي على مجموعة مستقلة من العلامات التي تبرز اشتغالها بين الزي والديكور في العرض المسرحي ، وتتخلى الإكسسوارات عن وظيفتها كعلامة ايقونية لتأخذ وظائف أخرى أكثر قيمة في التعبير السيميائي ، فهي من الممكن أن تلعب دور العلامة الإشارية ، إذ تقوم بعض أنواع الإكسسوارات المسرحية مثل التيجان والأسلحة والآلات الموسيقية وأدوات الحرف المختلفة بوظيفة دلالية أخرى ، وهي إشارة إلى مهنة أو حرفة صاحبها أو مكانته الاجتماعية .
أما الديكور المسرحي ، فهو يدخل أيضاً ضمن العلامات البصرية الدالة والداخلة ضمن انطولوجيا الخطاب المسرحي، إذ إن عمل الديكور كعلامة سيميائية في الخطاب المسرحي ذات أبعاد في تشكيل الوجود الخارجي ، إذ ينطلق من مستويين الأول أيقوني ،والثاني رمزي إشاري ، لكن في إطارها التكويني للوجود الخارجي ووضعها الاشتغالي على خشبة المسرح ، وهنا يعمل الديكور المسرحي على نقل عدد من المعلومات إلى المتلقي ، فهو يستطيع أن يحدد الموقع عن طريق المناظر والتشكيلات المركبة التي تلتزم بالدقة التاريخية في كل تفصيلاتها فيحاكي الأماكن العامة مثل البرلمان الروماني القديم أو ( كاتدرائية كانتربري ) أو دار الأوبرا الباريسية ، لكن المظاهر والشكلية الحرفية للديكور لا تمثل إلا نصف معناه ، ويتمثل النصف الآخر في المكان العام الخيالي الذي يحيط به والذي يتخيله المتفرجون مع واقع الديكور كمكان الأحداث.
أما الإضاءة فلها دور بارز في إنتاج علامات بصرية دالة على الجانب الأنطولوجي في العرض، فهي تعطي قيمة سيميائية مهمة للعرض المسرحي ، فالإضاءة هي التي تخلق صور لونية وضوئية مع عناصر العرض المادية الأخرى كالممثل والديكور لتعطيها بعداً دلاليـــــــــاً واضحاً .
أما الموسيقى والمؤثرات الصوتية لكونهما علامات سمعية ، تؤكد مجموعة من العلامات المهمة في العرض المسرحي، فالموسيقى تستطيع بوساطة الإيقاع أو اللحن أن تخلق جو الأحداث أو زمانها أو مكانها، واختيار الآلة الموسيقية له قيمة سيميائية أيضاً، فهي توحي بالمكان أو البيئة الاجتماعية أو الجو العام للمسرحية، كما يمكن أن تصاحب قيمة موسيقية معينة دخول الشخصيات أو خروجها، ومن ثم تصبح دلالة لها إن الموسيقى يمكن أن تقول ما يقوله النص، الفرح، الحزن، الخوف… الخ ، وتستطيع المؤثرات الصوتية الاشتراك مع الموسيقى في تلك العلامات، فالخوف الذي تخلقه الموسيقى في العرض المسرحي لا بد من مصاحبته لبعض الضربات والأصوات كالصراخ ،وغيرها لتأكيد دلالة الخوف، وكذلك لخلق الجو اللازم في بداية المسرحية تسهم المثيرات الصوتية مع الموسيقى بشكل أساس للإيحاء بالمكان والزمان وأشياء أخرى متعلقة بهذا الجانب ، وكل من الموسيقى والمؤثرات الصوتية ، تسهم في إيجاد التكوين الأنطولوجي في ذهن المتلقي ،من حيث دعم ما يتشكل من بناء وتكوين مسرحي هدفه خلق صورة انطولوجية للخطاب في العرض المسرحي .
إذن ، فعناصر العرض المسرحي المختلف التي ذكرناها في هذا الفصل تشكل اللغة الانطولوجية للخطاب المسرحي ،والذي هو ترجمة لما يريد كل من المؤلف والمخرج إيصاله الى المتلقي من خلال لغة مسرحية لها دلالات متعددة ومتنوعة تهدف الى نقل رسالة موحدة ومحدده الى المتلقي . فالخطاب المسرحي ينهض على نظام تعددي ، كأنه يخاطب المتلقي بأصوات متعددة ، هذه الاصوات المتعددة ليست متقابلة او متنافرة ، وإلا تحولت الى ضجيج، وإنما متناغمة، ووفرة الدلالات تعني ان كل عرض مسرحي ، كما يقول بارت ، فعل دلالي شديد الكثافة يفوق نظام اللغة ، الذي يتقوقع على رموزه ،ويمشي على مسار احادي افقي . ان المسرح يعيد انتاج الكلمة (اللغة) يثريها بالدلالات البصرية ويحفزها الى النأي عن التكرار (تكرار المعنى) .