استفادت المؤسسة الغربية في تشكيل خطابها اتجاه الآخر الشرقي من آراء الفلاسفة والمفكرين ومن الدراسات الإستشراقية وآراء المستشرقين ، إذ وظف القائمون على الدراسات الاستعمارية في خطابهم الثقافي الكولونيالي جانباً من هذه الآراء المستندة الى أسلوب فكري يرتكز على التمييز الوجودي والابستمولوجي بين (الشرق Orient) و( الغرب Occident) ويتضمن ذلك بعداً إيديولوجياً وحضارياً وسياسياً يتمثل في سيطرة الغرب على الشرق واستغلال خيراته ، ويتضمن هذا البعد منطلقاً انتقائياً قائماً على التمييز الحضاري أو (الانثربولوجي) بين ثنائية ثقافية تتمركز حول الشرق والغرب. وبذلك أطلق الغرب حملة قائمة على ما سبق من آراء ومبررات أطلق عليها (الحملات الكولونيالية) ونتجت منها فيما بعد (دراسات كولونيالية) ، وهذه الحملات الكولونيالية ، حملات فرنسية قادها كولونيالات مع عدد من الباحثين والعلماء في اختصاصات مختلفة ضد شمال أفريقيا ولاسيما دول المغرب العربي ، التي كانت هدفهم الأساسي من أجل بسط ثقافة الفرنسة عليها ، وان أحد القائمين على هذه الفرق الكولونيالية وهو (الفريد لوشاتولي) الذي أطلق مقولته الشهيرة: يجب أن يكون لنا على الحدود المغربية أقل ما يمكن من طلقات البنادق ، وأكثر ما يمكن من النشاطات الاقتصادية والسياسية ، ولتحقيق المعادلة الاستعمارية كان لابد أولاً من تكثيف أنشطة البحث العلمي بشعار: المعرفة أساس السيطرة. وهذا أحد الخطابات التي تكشف الفكر الكولونيالي اتجاه(الوطن العربي). كذلك توجد خطابات أخرى صبت في نفس الاتجاه أطلقها مستشرقون استفيد منها في المنظور الثقافي الكولونيالي ، وفي تحقيق أهدافه الإيديولوجية ضد الآخر في توسع الهيمنة الأوربية على العالم ، واكتشاف بؤر الحضارات الشرقية القديمة ، كما أن القائمين على احتلال أراضي الآخرين (المستعمرون) استفادوا من دراسات المستشرقين والمترجمين ، فكانت ترجمة (مقدمة ابن خلدون) – على سبيل المثال – قد تمت لمصلحة المحتل الفرنسي ، لكي تسهل عليه إدارة شؤون الجزائر المحتلة ، وتونس بعدها ، على نحو أفضل كما استعان الأوربيون – ولاسيما الفرنسيون – على خطابات مواطنهم المعروف (ارنست رينان Ernest Renan) الخاصة بـ(واجبات العرق الأسمى (الآري) اتجاه العروق الدنيا أي (السامية) كما يظنون أو كم أرادوا أن يكون. وهناك نماذج أخرى في هذا المجال من مستشرقين قدموا من خلال دراساتهم خدمة للخطاب الكولونيالي عن طريق آرائهم التي ركزوا فيها على صياغة صور مشوهه عن الشعوب ،ومن هؤلاء (كرومر وهاملتون جيب، إذ ركز الأول على التمييز بين الأوربي ذي العقلية المتفوقة في مقابل الشرقي صاحب البلاد الجميلة مظهرياً ولكنه لا يملك عقلية جيدة مثل الغربي وقد ركز الثاني على نفور المسلمين من العمليات العقلية التي يتصف بها الغربي مع بعض الاستثناءات البسيطة عندهم. إن هذه النماذج وغيرها جعلت من الإستشراق مادة أساسية في تكوين الخطاب التمييزي ضد الآخر والتي عرفت به كل من (فرنسا وبريطانيا) اللتين قدما مثالين عن أسلوب صياغة خطابهما الكولونيالي ضد الشعوب التي وقعت تحت الاستعمار.
الأول: كان فرنسياً استند الى الأسطورة (الأمازيغية) في تقسيم الشعب الجزائري إلى (امازيغ) أخيار يسكنون الجبال وهم بذلك يحملون صفات الشعوب الشمالية وهو تقسيم جغرافي مناخي ، اي إن الشعوب في المناطق الجبلية مستقرون وديمقراطيون ، ويتزوجون مرة واحدة فقط ، وهم غير مبالين بالإسلام ، أما (العرب) فأطلق عليهم (الأشرار) وهم عرب الواحات يتصفون بالكسالى ومتعددي الزوجات ومخادعين ومتعصبين دينياً ، هذا الرأي قد وظف من قبل علماء اجتماع ومسؤولين كولونيالين فرنسيين في دراسة الشعب الجزائري ومعرفة طريقة دراسة الحياة الاجتماعية ، وكيفية تفريق وحدة المجتمع الجزائري للسيطرة عليه ثقافياً وفكرياً حتى يمكن تسويق الثقافة الفرنسية وجعل تصوراتها عن الشعب الجزائري امراً واقعاً بعد ربطها بأحداث مختلقة تدفع ابناء الجزائر الى العداء والتفرقة من اجل زعزعة الوضع الداخلي ، للوصول الى تصديق رواية المستعمر التي بثها من خلال خطابه الكولونيالي والاعتقاد بحقيقتها التي يجب ان تثبت في داخل المجتمع ، وبذلك يسهل السيطرة عليه.
أما المثال الثاني: فهو بريطاني والذي يقوم على فكرة التمثيل ، أي يجب على الشرق أن يمثل في الحضارة العالمية من قبل الغرب او من ينوب عنه على وفق صياغات أعدت مسبقاً له ، وبما أن الشعوب الشرقية لا تستطيع أن تمثل نفسها وغير قادرة على لعب ذلك دون العلوم والمعارف والثقافية الغربية ، فلا بد من خلق نموذج جديد في الشرق يحتذى به على الطريقة البريطانية وقد طبق هذا المثال في بلدان خضعت للتجربة الاستعمارية ، إذ عملت بريطانية على وفق خطابها الكولونيالي على ترسيخ أصول النخبوية في الهند ، فراح يبحث عن حليف أصغر يعضده في مسيرة النقد (الامبريالي) ، وقد صمم على خلق شريحة خاصة في المجتمع تكون هندية العرق واللون لكنها انكليزية الذوق والذهن والفكر ، بمعنى كلما اقتربت عادات الهنود ومعتقداتهم من الانكليز يحضون بالأهمية نفسها على مقياس (ماكولي) طبعاً ، تنطوي هذه المعادلة على تناقص جوهري وهو : كلما اقترب الهندي من النموذج الانكليزي ، ابتعد بالمقدار نفسه عن شعبة وثقافية التي يمثلها.
إن الخطاب الكولونيالي بشقيه الفرنسي والبريطاني لم يقتصر على فرض الهيمنة العسكرية والسياسية بل تغلغل حتى في الثقافة والأدب والفن ، وذلك من خلال خلق نخب ثقافية تكون مرجعياتها الثقافة الغربية ، وهذه أهم ركيزة في هذا الخطاب ، بحيث تصبح الثقافة الكولونيالية هي المعيار الذي يقاس عليه المثقف عن غيره في البلدان الشرقية وخصوصاً في الدول العربية التي استندت في خطابها الثقافي معيارياً على الخطاب الثقافي الكولونيالي في تحديد الجيد والمتميز في الأدب والفن عن غيره ، بحيث أصبحت الثقافة الغربية الفيصل الذي يرجع إليه تقييم المحلي بالنسبة للعالمي. وبذلك تكون العرب قد ختموا ثقافتهم بختم الخطاب الثقافي الغربي الذي أصبح متأصلاً ، حتى إن بعض الأعمال الأدبية العربية سارت في تأكيد هذا المعنى ، أي إن التقويم يجب أن يأتي من المرجع ، حتى لو تمثل بشخصية متواضعة نسبياً (عالم آثار فرنسي) مثلاً في رواية (توفيق الحكيم) (عودة الروح) ، يعرب مفتش الري الانكليزي عن احتقاره للفلاحين فيتولى العالم الفرنسي الدفاع عنهم : (شق قلب فلاح من هؤلاء وستجد سبعة آلاف عام من الحضارة) وهذه العبارة هي بالنسبة لبطل الرواية المصري (محسن) المعبر عن وجهة نظر الحكيم والمتحول لاحقاً في رواية أخرى له إلى (عصفور من الشرق) القول الفصل ، هذا القول الفصل لا يمكن للفلاح طبعاً أن يقوله لأنه ليس الطرف المؤهل لقوله.
إن الخطاب الكولونيالي القديم الذي كان موجهاً إلى الشرق كان (بريطانياً وفرنسياً) بامتياز ، والذي استمر حتى العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين ، وبعدها انتقلت الثقافة الكولونيالية بماضيها الاستعماري الى (أمريكا) بعد أن انتقل مركز الحضارة والقوة الغربية اليها، وأصبح الخطاب يطبق من خلالها في الشرق ، وذلك لما يشكله الشرق من أهمية خاصة في الفكر الكولونيالي الجديد ذات الصبغة الاستشراقية الامريكية ، والسبب يعود الى موقع الشرق الجغرافي السياسي (الجيوبوليتيك Geopolitical) من جعل الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية تكثف تواجدها وهيمنتها على الأماكن التي كانت تهيمن عليها بريطانيا وفرنسا في السابق (…) وهذا الموضوع دفع (مارتن كريمر Marten Kramar) المعروف بتحيزه لإسرائيل لان يخصص الفصل الأول ، هو بعنوان (اختراع أمريكا) من كتابه (أبراج عاجية على الرمال Lovry Towers on Sand) يقول فيه (منذ خمسين عاماً اخترعت أمريكا دراسات الشرق الأوسط لدراسة مجتمعات الشرق الأوسط التي عرفت في تاريخ أوربا بالإستشراق.