إنَّ مقولات ( ارسطو ) عن الوجود والموجود وعن الحركة والغاية وغيرها قد تكررت عند الفلاسفة المسيحيين، وترددت في الوقت نفسه المقولات الافلاطونية في عالم المثل عند فلاسفة آخرين من الديانة المسيحية أيضاً، فأبرز من مثل الفكر الافلاطوني والفكر الأرسطوطالي ( أوغسطين ، وتوما الأكويني ) تمثلت في تبني أحد المرجعيتين المختلفتين في تفسير الأشياء ونسبتها إلى المثالية، أو المادية أي إلى الأفلاطونية ، أو الأرسطوطالية، لذلك فقد تمثلت هذه الجدلية في الفكر المسيحي بوضوح في هذين الاتجاهين، وخصوصاً في رؤيتهما للإنسان وأفكاره على وفق التصورات المنبثقة من الديانة المسيحية ذاتها، أي على وفق الرؤية الإيمانية التي جعل كل منهما الكتاب المقدس وتفسيراته محور لهذه الرؤية، وهنا يتجسد الرأي الأرسطوطالي عند (الأكويني) وتقويمه لطبيعة الإنسان إذ ” امتد إلى جسم الإنسان وهو تقويم أثر في توجيهه المعرفي (الابستمولوجي) المميز فعلى النقيض من موقف أفلاطون المعادي للمادية، الذي أنعكس على نهجه جزء كبير من اللاهوت الأوغسطيني التقليدي. نجح الأكويني في استحضار مفاهيم أرسطوطالية؛ تأكيداً لمقاربة جديدة ، لا شك أن الروح والطبيعة في الإنسان قابلتين للتمايز إلا أنهما ليستا إلا وجهين لكل متجانس: إن النفس هي شكل الإنسان والجسد مادته ” (1) ومن هذا التجانس يجعل الاتجاه نحو ما هو معاش حتى يستمر هذا التكامل أكثر من الأبتعاد إلى عالم مثالي، قد لا يتطابق وحاجياته المادية وصياغة طبيعة حياته ومتطلباته في داخل المجتمع . صحيح أن الدين يرجع في أغلب الاحيان إلى تربية الروح والتأكيد على نقاء السريرة والتفكير الصالح، لكنه يؤكد دائماً على أن الجسد هو حقل اختبار لهذه الروح، ومدى تأثيرها بالآخرين من خلال السلوكيات والتصرفات التي يقدمها الجسد في صور مختلفة، والفعل المادي يؤديه الجسد والتعذيب التي تمارسه الروح في صعودها نحو الفضيلة والنقاء، يتم من خلال الجسد وليس خارجه، أو في عالم آخر قد لا تستطيع الروح الوصول إليه خارج أطار الجسد المادي.
إنَّ انطلاق ( توما الأكويني ) في مغايرة الفكر ( الأوغسطيني )، الذي سبقه في الساحة المعرفية المسيحية جاءت في مجموعة من المؤلفات التي حاول فيها أن يخرج من الفكر المثالي الأفلاطوني الذي هيمن على اللاهوت المسيحي بتأثير كبير من ( اوغسطين )، وهنا قدم (الأكويني) رؤيته واتجاهه نحو المعالم الأخرى المغايرة في اتجاه المقابل والخروج من دائرة المثل والأفكار إلى دائرة الطبيعة والحياة الانسانية ، ومن مؤلفاته في هذا المجال التي بنى عليها فلسفته اللاهوتية هي ( وحدة العقل ) ، و ( عن خلود العالم ) ، و ( مجمل علم اللاهوت ) والأخير تبنى فيه الإنطلاقة التعليمية في المؤسسات الدينية المسيحية في( ايطاليا ) من خلال البحث في علم الأخلاق المسيحية في صورها الجديدة وكيفية البحث في الواقع المعاش حتى يكون الإنسان قادر على التعايش مع الطبيعة الاجتماعية ومتغيراتها، إذ عمل (الأكويني) على إحداث صدمة كبيرة في الفكر اللاهوتي المسيحي حتى يغيره نحو النظرة الواقعية، التي فيها الكثير من التوجهات الأرسطوطالية بعدما كانت الأفكار (الأوغسطينية) سارية المفعول ومؤثرة من خلال الأفكار الأفلاطونية، فكان تركيز (توما) حول الغائية التي يصل إليها الإنسان بوجوده في هذه الحياة بدلاً من الابتعاد عنها إلى عالم مثالي قد لا يتحقق فيه المطلوب من وجود الإنسان في هذه الحياة، لذلك أنطلق (الأكويني) على وفق المرجعيات الأرسطوطالية ” من ملاحظة المسارات الحتمية الطبيعية ويستقي من ذلك المفاهيم التي يشرح بها النشوء والفناء في هذا العالم، فالعالم يعد عنده ايضاً غائياً : أي أنه وضع نظامه لغرض وغاية، إنه عالم تنشأ فيه المادة غير المشكلة، التي هي مجال الممكن دائماً وأبداً اشكالا جديدة هي التي كانت كامنة في المادة على أنها (غرض) أو غاية، وتنبثق من هذه المادة بصورة حتمية فيها المادة يصير شكل، أي من الممكن تنبثق حقيقة : الأشكال تصنع الجوهر أي (الجوهر) لشيء ما يقابل الجوهر (العوارض): أي الصفات والخصائص المتغيرة لشيء ما “(2) . إنَّ هذه الفلسفة (الأكوينية ) أراد من خلالها أن يجعل هذا المنظور المادي للأشياء بعداً ( كونياً ) يتجاوز الجزئيات البسيطة إلى العموميات والكليات، أي أن النظرة إلى الطبيعة في حقيقتها تنطلق به نحو معرفة (الله الخالق)، وهذه النظرة التي تجعل من الأشياء المادية آثار لخلقه وتكويناً لما يريده الخالق من غايات من وراء خلق هذا الكون بكلياته وجزئياته، هو ما جعل (الأكويني) يغاير ما ذهب إليه المذهب الافلاطوني عند (أوغسطين)، وذلك بأن جعل الطريق من عالم المثل إلى الخالق وهذا الطريق الذي لا يمكن أن يتحقق بنظره كما هو رأي ( أرسطو ) في تعليقاته على المثل لدى (أفلاطون)، أتجه (الأكويني ) إلى البحث في خلق الأشياء للوصول إلى (الله) فهذه النظرة هي مغايرة للفكر الإشراقي وحتى الصوفي البحت، الذي يركز على الإلهام والماورائيات في البحث عن خالق الوجود وعلى هذا الأساس ” يصدر توما في موقفه على فكرة أساسية تتعلق بإثبات وجود الله متوسلاً في ذلك (البرهان الآتي) : ويرى توما أن العلم بالموجودات الطبيعية سوف يفضي إلى العلم بالعلة، التي هي مصدر هذه الموجودات فالمعرفة بالموجودات الطبيعية من حيث أرتقاء عللها تؤول بالإنسان إلى التأكد من وجود الله، وعلى العموم يتوقف الإيمان على المعرفة الطبيعية، إذ قبل أن نؤمن بالله يتعين أن نعلم وجود الله، وأن عقلنا كفء لهذا العلم وللعلم بأسباب الإيمان “(3)وهنا معرفة الخالق إذا أردنا على وفق نظرة ( الاكويني ) أن نبحث عنها فأنها تبدأ أولاً: من البحث في الآثار التي تدلنا عليه، وبذلك تكون عملية الإيجاد للموجود سواء أكان الموجود الأثر أم لواجده، فأنها تتم من خلال البحث في طبيعة الموجودات وآثارها التي تدل على الواجد، بينما الأفكار والمثل التي لا تضع للحقيقة الموجودة ولا للعالم المعاش اعتبار، فأنها تبقى مجرد أفكار ونظم مثالية لا يمكن أن تطبق على المستوى الفعلي؛ بل تكون ابتعاد عن واقعية الأشياء الطبيعة البشرية التي يقع جزءاً كبير اًمنها في الاشتغال المادي والتفاعل مع الموجودات الخارجة عن الجسد الإنساني والذي يبقى بحاجة إليها لتأكيد ذاته في هذا العالم .
إنَّ هذه العلاقة التكوينية بين الوجود والماهية، أو بين الوجود وجوهر الأشياء المتشكلة في هذا الوجود ، نتكلم عن الوجود الخارجي وجوهر الأشياء وليس على الماهيات المتشكلة في الوجود الداخلي أو الذهني وهذه الوجودات الداخلية هي أيضاً ارتداد لما هو في الوجودات الخارجية، فإن هذه القضية الخارجية لا يمكن فهما إلا عن طريق الكينونة والصيرورة فلا وجود من دون جوهر ولا عكس ذلك، فكلاهما مرتبطان في هذا التشكيل الذي هو وحدة واحدة (4). إنَّ هذه النظرة توضح بأنهما من المتآلفتين في بناء واحد لا يمكن الفصل بينهما لكنهما في الوقت نفسه يكونا من مختلفتين في المسميات والألفاظ .
أذن، فإن الوجود بوصفه حالة راهنية مصاحبة للموجود في حالتي القوة والفعل، تأخذ ذاتيتها في الإيجاد من الانتقال بين الحالتين، وبذلك هي من تصّير ظاهراتية الموجود كمثل الضوء الذي ينبعث باتجاه جسم متحرك، فإن انتشار الضوء حول الجسم المتحرك يعطيه وجودية على عكس من حالة انقطاع نور الضوء على هذا الجسم، فهذه النورية التي تتفاعل في زمانية ومكانية محددة هي من تعطي لهذا الجوهر المتحرك في الظاهراتية التي حولته من معدوم إلى موجود، وهذا مثال تقريبي لرسم حالة الراهنية، أو كينونة الكائن كذلك هذا المثال نضربه على عالم الإمكان وليس الوجوب، فالوجود الواجب وحسب ما تطرقنا إليه في الهامش فله مبدأ آخر، وهذا المقال يتحدد في نظرتنا إلى الكيفية التي نستطيع أن ننظر بها إلى ماهية الوجود والموجود، التي أصبحت خارج السياقات المبنية على الماهويات المبنية على الأفكار المتعالية، سواء أكانت في الوعي القصدي للأشياء، أم الموضوعات أو حتى الإنسان، فوجودية الإنسان بدأت تتشكل بحسب النظرات والنظريات التي همها الوحيد هو تطبيق الأفكار، على الرغم من أن هذه الأفكار لا تأخذ بنظر الاهتمام الموجود الواقعي وراهنيته الواقعية؛ بل أصبحت الأفكار الخارجة عن هذه الراهنية والواقعية في الإيجاد هي من تطبق في عالم اليوم والذي ابتعدنا فيه عن الحقائق التي يجب أن ترتسم فيها الأشياء بطريقة صحيحة وسليمة.
الهوامش
1. تارناس ، ريتشارد : آلام العقل العربي ، ترجمة : فاضل …. ، ابو ظبي : كلمة ، هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث ، 2010 . ، ص 219 .
2. تسيمر ، روبرت : في صحبة الفلاسفة ، ترجمة : أ.د. عبد الله محمد ابو هشة ، لندن : دار الحكمة ، 2012 ، ص 65.
3. أسبر ، علي ممد : ماهية الوعي الفلسفي ، دمشق : دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر ، ط1 ، 2010 . ، ص 93 .
4. ينظر ، رونتال ، م. ي. يودين ، الموسوعة الفلسفية : وضع لجنة من العلماء والأكاديميين السوفياتيين ، ترجمة : سمير كرم ، بيروت : دار الطليعة للطباعة والنشر ، ط 2 ، 1980 ، ص 577.