إنَّ للتاريخ فلسفة تعطيه السياق الفكري الذي يحدد ملامحه على وفق المنظور والأشتغال المعرفي لديه ، فالتاريخ الحاضنة لكل ما هو قادم من الأيام حتى يصبح في عداد الماضي ، والبوابة التي لا مفر منها التي يدخلها كل إنسان ،أو حادثة ،أو ظاهرة ، أو اختراع ، أو غيره من الأمور التي تصبح محل أهتمام ومثار جدل واختلاف ،أو أتفاق عليها . وللتاريخ ملامحه التي من الممكن أن يخوض بها الفكر الفلسفي الحديث ،أو المعاصر في فهم الرؤية التي من الممكن أن تعطينا صيغ فكرية ورؤى أخرى قد يكون الأنسان قد أغفلها في نظرته للتاريخ على الرغم من مدى أتفاق واختلاف الرؤى الفلسفية للتاريخ بين الفلاسفة أنفسهم . وهذا الأختلاف من الممكن أن نجده في هذا الإطار الفكري المخالف للرؤية الميتافيزيقية التي قدمها الفيلسوف الإيطالي( جامباتستا فيكو) في طروحاته للتاريخ ،على أعتبار أن الميتافيزيقيا تقدم من خلال ” التاريخ وصفاً لأحداث يمكن استخدامها لغرض عملي ،أو تثقيفي ما ، غير أنها لا تعني شيئاً بالنسبة للمعارف الحاسمة . ينبغي انتظار القرن التاسع عشر لرؤية آراء مناقضة تماما لهذه الميتافزيقيا التي تدعي إمكانية: جعل العالم الواقعي سهل المنال وكذلك ماهية البشر ، من دون اللجوء الى أي نوع من الأبحاث التاريخية الاساسية . غير أن (فيكو) أقر (…) بأن التفكير المنطلق من الفرد – المعتبر مستقلاً- لا يمكن أن يكون إلا محدوداً وسطحياً، ومغلوطاً بالضرورة قبل كل شيء. والمعرفة التي يمكن للناس أن يحصلوا عليها حول أنفسهم لا تتأسس إلا على تحليل للصيرورة التاريخية التي ينشط الناس داخلها”(1). أن هذا التحليل للصيرورة التاريخية يعطي بعداً أخر للنظر الى الغائية التاريخية على وفق الوعي القادر على إبعاد النظرة السابقة للتاريخ التي تعتقد بأن التاريخ فقط صورة من صور التثقيف التي لا تعد من أساسيات الحسم في التجارب الحاضرة ، وتعاكسها رؤية (فيكو) في أن التاريخ عامل حسم من خلال الأشتغال الذي ينشط بداخله المجتمع ، والذي يعد محرك ودافع مهم من دوافع تقدم الحياة من خلال أرتباط الوعي لدى الافراد والجماعات بالتاريخ بوصفه صيرورة يعتمل فيها الناس انفسهم لدعم ما يريدون أيجاده في حاضرهم ، ونظرة (توينبي) عن فكرة التمحيص للتاريخ وتقديم ما هو موضوعي وإبعاد كل الأحكام القبلية التي من الممكن أن تؤثر على فهمنا له ،تأتي في سياق هذه الصيرورة التي تشكل الوعي بالحقائق التاريخية وفهمها في أطارها السليم .
وفي نظرة أخرى للتاريخ وعلاقته بالسرد واقترانه بالفهم التاريخي للموضوعة التي تشكل صورة القصة التاريخية وكيفية صياغتها وإعادة أسسها على وفق ما تقدمه من مبررات لوجودها في السياق الخاص بالأحداث التي وقعت في حينها ، يرى (W.B.Gallie ) “إنَّ الفهم التاريخي هو ممارسة القدرة على متابعة قصة ما ، حيث يكون معروفاً أن القصة مبنية على أساس الأدلة ، وتقدم بوصفها جهداً مخلصاً للحصول على القصة “(2) ذاتها . إنَّ المتابعة التي تنطلق من الفهم التاريخي تعد ممارسة واعية في تشكيل المعنى المرجو من إيجاد القصة الخاصة بالحادثة التاريخية وإعادة صياغتها وهذه الإعادة التي تنطلق من الحيثيات الخاصة في إيجاد جهداً لا يمكنه الخروج من الواقع الذي انطلقت منه الحادثة في بناء مساراتها . والفهم التاريخي الذي ينطلق من صياغات واعية يعطي للقصة التاريخية دلالاتها الواضحة دون أن تبعد المتتبع لها عن قصديتها وفائدتها المرجوة في السياق الدلالي الخاص بها ومدى تأثيراتها على الوعي في أطار الفهم التاريخي لهذه الممارسة القائمة على صياغات قصصية متشابهة مع ما وقع من أحداث شكل صورة الحادثة التاريخية ، ” وفي رأي (W.B.Gallie ) أن الأحداث الفعلية التي حدثت فعلا في قصة الماضي تتشابه على نحو مذهل مع شكل السرد الذي ينتجه المؤرخ في نهاية الأمر (…) بينما يعتقد فلاسفة التاريخ مثل (كيث جنكينز Keith Jenkins) و(لويس مينك) و(هايدن هوايت) أننا لا نعيش القصص ولكننا فقط نحكي تجربتنا المعيشة في شكل قصصي . ويؤيد فيلسوف التاريخ الأمريكي (دافيد كار David Carr ) و(جاللي) وفيلسوف التاريخ الفرنسي (بول ريكورPaul Ricoeur ) في التمسك بأن هناك استمرارية أساسية ،أو تواصلاً بين التاريخ كما كان يعاش (الماضي) والتاريخ كما هو مكتوب (السردي)”(3). أن هذه الإشكالية في النظرة الى التاريخ والسرد والإعادة للقصة والفهم التاريخي واللحظة المعاشة سابقاً التي تقدم بشكلها السردي تصبح محل اختلاف بين فلاسفة التاريخ أنفسهم الذين ينظرون الى هذه اللحظة بمداخيل مختلفة وأطر متباينة في الرؤى للماضي وإعادة بنائه في الحاضر ، وهذا الأختلاف يحيلنا الى تحديد نقاط معينة توضح مديات البعد في الفهم التاريخي للتجربة التاريخية المدوّنة على وفق الآتي:
• الفريق الأول : الذي ينطلق من أفكار فيلسوف التاريخ (جاللي) يعطي للتاريخ صفة التشابه بين ما حدث في الماضي ، وبين الشكل السردي الذي ينتجه المؤرخ على وفق الفهم التاريخي والقدرة على تقديم هذه الحقيقة التاريخية في صورة سردية تؤسس الى إعادة تكرار ما حدث من جهة ، وتكون مشابهة لما يقدم في الإطار السردي لمقدم لها من جهة أخرى . ومن خلال النظرة للتاريخ عند الفريق الأول نطرح ما يأتي : هل أن البناء السردي وصياغاته يتشابه مع البناءات المفاهيمية وطريقة بناء الموضوعات تاريخياً مع شكل القصة التاريخية ؟ ،أم أن التشابه يكمن في الإعادة التي يريد المؤرخ أن يتتبعا في هذا الأتجاه ؟.
• الفريق الثاني :الذي ينطلق من فكر الفيلسوف (بول ريكور) ويعطي تصوراً مفاده أن التاريخ عملية تواصلية واستمرارية أساسية بين المعاش والمكتوب ، والتواصل لا يمكن أن يفصل الماضي وسرده كما كان معاش. ومن خلال النظرة للتاريخ عند الفريق الثاني نطرح ما يأتي: هل أن الحقيقة التاريخية على وفق مضمون الفهم التاريخي هي عملية تقع فيها الأستمرارية دون انقطاع بين ما هو معاش وبين ما هو مكتوب عنها ؟ ، وما مدى المصداقية التي تنطبق على هذا المكتوب وصورته المسرودة عن الماضي المعاش؟ .
من أجل توضيح الأسئلة التي طرحت لدى الفريقين ، يعطينا (هايد هوايت) مسألة التفريق بين الماضي والتاريخ وهل هذه الاستمرارية من الممكن أن تكون نفسها متطابقة بينهما ؟ ، على أعتبار أن الماضي المعاش والتاريخ المكتوب يكونان في تواصل قد يوقع البعض في فكرة التطابق ومدى تحققه بينهما ، ويفترض (هوايت) ” أن التاريخ المكتوب شكل من أشكال الأدب في أساسه ، يتناول (هايد هوايت ) أيضاً موضوع التاريخ بوصفه معرفة تعتمد على التمييز الذي لوحظ بالفعل بين الماضي والتاريخ . ولأننا لا يمكن أبداً ، بالنسبة لـ(هوايت) ، أن نعرف قصة الماضي كما كان بالفعل ، فإن معنى هذا أنه لا يمكن أن يكون هنا ماض غير مشوب بشوائب التدوين التاريخي – فالماضي لا يوجد سوى كما كتبه المؤرخون . ذلك أن التاريخ لا يوجد مسبقاً في أية مجموعة من الحقائق تتيح لنا الوصول المباشر الى الماضي الحقيقي “(4). وإذا اتفقنا مع (هوايت) بأن الماضي لا يمكن الوصول اليه كما هو بطبيعته الحقيقية كما وقعت ، فهو كلام منطقي جداً ،لأنه لا يوجد من ينتقل حرفياً أي حادثة تاريخية وقعت قبل أستخدام التقنيات الحديثة من حيث التوثيق والتصوير المباشر لها وتسجيلها كما هي ،على الرغم من أن التوثيق المباشر للحادثة التاريخية يبقى ناقصه وليس كاملاً ، كون من يوثقها لا يستطيع بالإلمام بكل جوانبها المادية ، لكن ما يريده (هوايت ) وما يريده (ريكور) يتطابقان من جهة ويختلفان من جهة أخرى :
• أما جهة التطابق فإن كل منهما يدعو الى الأستمرارية بين الماضي المعاش والتاريخ المكتوب كون لا يوجد تاريخ بدون تواصل مع حادثة تاريخية ما وقعت في الماضي .
• أما جهة الأختلاف فلكل وأحد منهما له طريقته في الوصول الى حقيقة الحادثة التاريخية المراد دراستها، فـ(هوايت) يعد التواصل معها من خلال الخلق الأدبي .
إنَّ التاريخ الذي يكون في مواجهة للماضي هو ” خلق أدبي لأنه يفسر دائماً من خلال بقايا نصية لا يمكن فهمها بحد ذاتها سوى من خلال طبقات من التفسير تعد حقائق بالنسبة للمؤرخ ، ولأن الحقائق لا ترتب نفسها تلقائياً قط لكي تقدم المعنى ، يشير (هوايت) الى أن وظيفة المؤرخ أن يفرض معنى ما بواسطة المعلومات التي تتخذ صيغة سردية ، وهو ما يتطلب أستخدام المجاز والصور البلاغية ” (5). أن الوظيفة التي تعتمد على لأستخدام الأدبي للقصة وكيفية ترتيبها هي من تجعل موقف (هوايت) من التاريخ قائم على أعادة بناء حقائق التاريخ التي قد لا تنقل كل الأشياء التي وقعت كما هي ، لكن ترتيبها وبناء صورها التي تشكلت لدى المؤرخ من خلال أعادة صياغة هذه الحقائق بواسطة المجاز والصور البلاغية وهي ما شكلت أدوات لبناء الماضي بواسطة التاريخ المكتوب لدى (هوايت).
أما (بول ريكور) فإن طريقته في الوصول الى تشكيل صور التاريخ في ما يريد ايصاله الى المهتم به تنطلق من فكرة تختلف عن الوظيفة التي أرادها (هوايت)، كون (ريكور ) أعتمد على أربعة لحظات متناسقة في فهم الحقيقة التاريخية ، وبناء نسق تواصلي بين الماضي المعاش والتاريخ المكتوب ، وهذه اللحظات هي :” لحظة الرمز ، لحظة النص ، لحظة الفعل فلحظة السرد (…) ففي ترتيب هرمي لقدرات الإنسان المتعلقة بالاستطاعة والقدرة وتحتل القدرة على الكلام المرتبة الأولى . والكلام هو : فعل الأشياء بالكلمات . ومن القدرة على الكلام نتحرك تجاه القدرة على العمل والفعل هو : القدرة على جعل حدث يحدث ، وفي المرتبة الثالثة تأتي القدرة على القص السرد ، والسرد هو : القدرة على قول شيء حدث”(6)، إن القدرات الثلاثة هي التي تشكل الوعي التاريخي باللحظات الأربعة التي يراهن عليها (ريكور) في التواصل والأستمرارية بين ما هو ماض معاش وبين ما هو تاريخ مكتوب في تشكيل الفهم للتاريخ وخلق لحظة وعي تاريخية بما كان معاش في السابق . إنَّ الأستمرارية لها منقلب وجودي في فهم التاريخ وتشكيل وعي تاريخي عند (ريكور)، على عكس نظرته للمنقلب النقدي ، فالمنقلب الوجودي جعلت من النظرة التاريخية لديه قائمة على بعد الكائن في التاريخ بصورته الأنطولوجية ، متأثراً بفلاسفة لديهم طابع مقارب له ، وهم كل من (كيركغارد و هيدغر) ،إذ يتضح ذلك من خلال قراءاته المعمقة في كتابه (الذاكرة ، التاريخ ، النسيان) . في مسألة التميز بين ما هو وجودي بين وما هو نقدي في الوضع التاريخي ، إذ يرى: أن ” على المنقلب النقدي يقوم التفكير على فرض حدود لكل أدعاء شمولاني متعلق بالمعرفة التاريخية ، وهو يستهدف بعض أنماط الغرور التأملي الذي يحل خطاب التاريخ على الانكفاء على ذاته كي ينصّب نفسه خطاباً للتاريخ ذاته يعرف ذاته بذاته (…) وعلى المنقلب الأنطولوجي يتعهد علم التأويل أن تكون مهمته ارتياد المسلمات التي يمكن أن نسميها وجودانية existentiales سواء تعلقت بالمعرفة الفعلية لكتابة التاريخ ،أو بالخطاب النقدي السابق . إنها وجودانية بمعنى أنها تبني طريقة الوجود الخاصة ، طريقة وجودنا في العالم وكوننا فيه ، هذا الوجود الذي هو كل واحد منا “(7) . إنَّ الرؤية الأنطولوجية للتاريخ يشكلها (ريكور) من خلال فهمه للقدرات الإنسانية في تمييز ما بين النقدي الابستمولوجي وبين المطلب الأنطولوجي في تشكيل الوعي التاريخي عبر اللحظات التي تشكل الوعي بما هو موجود من بعد في حقيقة الكتابة التاريخية المعبرة عن وجودنا في العالم . ويضيف (ريكور) ميزة أخرى في المعنى التاريخي لوجودنا الذي يعبر عن كل واحد منا فيه بصورة وجدانية ، وهذه الميزة هي التكرار التي مثل ما قلنا فهو قد تتبعها في جذرها الأشتغالي عند كل من (كيركغارد و هيدغر) ، بما أن أصل التكرار يعود الى (كيركغارد) ، وتطبيقاته العملاناتية في ( Dasein) ( هيدغر) الذي يختار أبطاله في عالمه الأنطولوجي ،فإن (ريكور) يرى في التكرار الآتي: ” أما بالنسبة إلينا فإن ما هو واعد أكثر بكثير جداً من ذلك هو التأكيد القائل إن التكرار ليس الترميم بعد خراب ولا إعادة التحقيق ، بل هو (الإنجاز من جديد) . الأمر يتعلق هنا بتذكر ، بإجابة وردّ ، بل حتى برفض للتراث والتقاليد ، إن القوة الخلاقة للتكرار تكمن بأكملها في هذه المقدرة على إعادة فتح الماضي على المستقبل . حين نفهم التكرار بهذه الطريقة يمكننا أن نعتبره تأسيساً جديداً انطولوجياً لعملية كتابة التاريخ ، بعد إدراكها في خط قصديتها الأعمق “(8) . إنَّ إعادة فتح الماضي على الحاضر والمستقبل يحتاج الى تأسيس جديد على وفق مفهوم (ريكور) للتاريخ وعملية إعادة كتابته أنطولوجياً من خلال قصدية في الفهم وأدراك الوعي التاريخي الذي يكون مؤسساً على البعد القصدي في البناء الأنطولوجي لحقائق التاريخ وطريقة بنائها من خلال الإنجاز من الجديد بواسطة التكرار . لكن في مفهوم البناء للمادة التاريخية من خلال القص وطريقة السرد لا تكون بريئة للدرجة التي تقدم ما هو محايد في ظل وجود الذوات التي تنحاز بطريقة ،أو أخرى لفكر أو أيديولوجيا في تفسير القصة التاريخية وتقديمها في ضوء السياقات التي وقعت فيها وخضعت لها وساهمت في تشكيل صورها في ذهن المؤرخ ، لهذا فإن للسلطة يد في تشكيل بعض من ملامح هذه الصور حسب وجهة نظر (ميشيل فوكو) ، فـ” التاريخ المكتوب يكون دائماً أكثر من مجرد حكاية قصة بريئة ، والسبب في هذا بالضبط أنه الوسيلة الأولى لتوزيع السلطة واستخدامها . ذلك أن فعل تنظيم المعلومات التاريخية في السرد بحد ذاته لا يشكل انحرافاً عن الحقيقة الصادقة ولكن إضفاء دقة غير مشروعة على الماضي يمكن أن يكون آلية ممارسة السلطة في المجتمع المعاصر “(9). التاريخ أكثر من حكاية قصة بريئة ، في هذه وجهة النظر يطلق (فوكو) مبدأ الشك في التاريخ المكتوب كون السلطات بمختلف مسمياتها (الدينية ،أو الدنيوية ) بمختلف اتجاهاتها اليمينية ،أو اليسارية تضفي على ما هو مكتوب من التاريخ الذي ينقل لنا الماضي صورة غير مشروعة وهي من ممارسات السلطة ذاتها حسب رغباتها ونواياها وما تريد أن تسرده في التاريخ المكتوب . أن وجهة نظر (فوكو) في أن التاريخ المكتوب هو من يقع في شكل التنظيمات التي تمارسها السلطة في تكوين المعلومات ودورها في تشكيل طبيعة المجتمعات المعاصرة ، فالسلطة هي ممارسة لتشكيل الوعي التاريخي على وفق رغباتها ، على الرغم من تقديم المعلومات التاريخية في أطار سياقاتها لكن هذه الدقة غير مشروعة في التاريخ المكتوب ، أي أن تنظيم القصة في التاريخ المكتوب لا تعبر بالضرورة عن وقائع الماضي ، بل تعبر بالضرورة عن البناء الذي يخدم السلطة ذاتها في تشكيل صورة الماضي وهنا يتضح مفهوم الدقة غير المشروعة عند (فوكو) .
إنَّ التاريخ في إشكالية التجربة المدوّنة التي ساهمت في جعل العديد من الوقائع التاريخية التي وصلت الى الحاضر ينتابها نوع من عدم الوضوح في الرؤية نتيجة لأفعال السلطة في تأكيدها ،أو نفي ما لا يرضيها وهذه وجهة النظر الفوكوية للتاريخ فيها تحريض ليس ضد السلطة فقط ، بل ضد التاريخ نفسه مما يجعل من مناقشة التاريخ في رواياته وأحداثه المنقولة محل شك ولابد من الخضوع الى تمحيص وتدقيق بشكل موضوعي لا يميل الى أي أيديولوجية ما تعود لسلطة ما ، وأذا لم يكن كذلك فإن التاريخ يبقى مليء بالتناقضات التي فرضتها السلطات عليه ، وحتى في بعض الأحيان إذا أراد المؤرخ أن يبحث في الدقة التاريخية التي وضعتها السلطة في المسار التاريخي ، ولابدّ من التأكد على ضرورة تبيان مدى ملائمة لحظة التطابق بين هذه الدقة التاريخية وبين لحظة حدوث الوقائع التاريخية في غائيتها ، وهل هذا التطابق هو يدلل على تساوق الأحداث التاريخية مع أهداف السلطة التي شكلت الوعي بهذا الحدث التاريخي ؟ ،أم أن هذه الأحداث لا تروي ما تريده السلطة اذا ما وضعت في السياق المطلوب لهذه الأحداث التاريخية بعد تجريدها من أهداف السلطة المدوّنة لهذه الأحداث بطريقة أخرى مع أضافة سياقات تضمن للسلطات إن الدقة التاريخية المزعومة تعدل من الحدث لصالح رؤية السلطة لها ؟.
ومن هنا تكمن الاشكالية في ثلاثة نقاط تحتوي على مجموعة من التساؤلات وهي :
1. هل التاريخ هو خلق أدبي ، ويفسر دائماً من خلال بقاياه النصية التي يمكن فهمها من خلال طبقات التفسير للحدث التاريخي ؟ .أم أن التاريخ هو ما وقع من أحداث تنقل كما هي ولا يدخل فيها جوانب أدبية وغيرها من الأشياء التي تدفع بالأفهام المختلفة التي تناقش الفلسفة التي تكمن وراء الحدث التاريخي وكيفية نقله الى القارئ الذي قد يكون هاو لقراءة التاريخ ، أو يكون مهتماً بدراسته وغير ذلك .
2. وهل التاريخ لحظات تتوزع بين الرمز والنص والفعل والسرد ؟أم هو كل قائم بذاته يجعل المتفحص له يراه بالطريقة الذاتية التي تتشكل بوعيه لحظة قراءته دون النظر الى هذه التقسيمات التي من الممكن أن تضمر بداخلها مسارات لتغلغل الأيديولوجيات المختلفة لحظة تبني كل واحدة منها لقراءته على وفق ما ترغب فيه .
3. وهل التاريخ هو تفسير سلطات غير برئية من تدوينه ؟ ،أم هو من يرغم السلطات على تشكيل مساراتها على وفق ما هو مدون فيه ؟ . ومن هي السلطة المعنية بتدوينه ؟ هل هي السلطة المنتصرة في لحظة وقوع التاريخ ؟، أم هي السلطة الآنية التي تروي وتسرد الحدث الآن؟.
المصادر
1. ماكس هوركهايمر : بدايات فلسفة التاريخ البورجوازية ، ترجمة: محمد علي اليوسفي، بيروت : دار الفارابي ، 2006، ص 81.
2. ألون مونسلو : دراسة تفكيكية للتاريخ ، ترجمة قاسم عبده قاسم ، القاهرة : المركز القومي للترجمة ، 2006، ص27،ص28.
3. نفسه ، ص28.
4. نفسه ، ص56.
5. نفسه ، ص56.
6. جنات بلخن : السرد التاريخي عند بول ريكور ، الجزائر : منشورات الأختلاف ، 2014، ص43.
7. بول ريكور : الذاكرة، التاريخ ، النسيان ، ترجمة : د جورج زيناتي ، فرنسا : دار سوي ، 2000، ص427، ص428.
8. نفسه ، ص 558.
9. ألون مونسلو: نفسه ، ص30.