إنَّ العمل على إعادة انتاج الهوية الثقافية يأتي من خلال البحث والتقصي للامساك بناصية التهميش المفروض عليه، ويجعل من التهجين والتوفيقية مصدراً لإعادة التعريف الأدبي والثقافي. ان نصوص ما بعد الكولونيالية بإفراطها في تدوين ظرف ( الآخرية ) إنما تؤكد مدى تعقيد( الاطراف ) المتقاطعة بوصفها المادة الفعلية للخبرة لكن النضال الذي يقتضيه ضمناً هذا التأكيد – ( إعادة تعيين موضع ) نص ما بعد كولونيالية – يتمركز على محاولة الأطراف السيطرة على عمليات الكتابة التي يمكن أن تعيد صياغة الخطابات الكبرى ،وهنا الكتابة لا تقتصر على التدوين في الصفحات والنقش على المطويات ،بل تأخذ الكتابة بعداً أخر بحسب مفهوم ( جاك دريدا ) لها فهي تدخل في أشكال الحياة الابداعية ومنها السينما والمسرح والتلفزيون وغيرها ،لأن معنى الكتابة هو ما يسطره المبدع من أعمال يريد بها أعادة كتابة تاريخ الاشياء ،فالكتابة اخذت بعداً أكبر من بعدها التدويني في الصفحات .
إنَّ مجالات ما بعد الكولونيالية متعددة ومتنوعة البحث في الآثار الكولونيالية على الشعوب ،وهذا التعدد في المجالات جعل من خطابات المغايرة تأخذ أبعاد أوسع في مناقشة الظاهرة الكولونيالية ، وهنا يرصد(دوغلاس روبنسون ) هذه المجالات في كتابه (الترجمة والإمبراطورية) وكما يأتي :
1. دراسة مستعمرات أوربا السابقة منذ استقلالها ،أي كيفية استجابات شعوبها للإرث الكولونيالي ثقافياً .
2. دراسة مستعمرات أوربا السابقة منذ أستعمرها ،أي الكيفية التي استجابت بها الشعوب المستعمرة للإرث الكولونيالية ثقافياً .
3. دراسة جميع الثقافات / المجتمعات / البلدان / الأمم من حيث علاقات القوة التي تربطها بسواها من الثقافات ،أي الكيفية التي أخضعت لها الثقافات المفتوحة لمشيئتها .
ومن خلال هذه المجالات الثلاثة يصف ( دوغلاس ) حقول العمل فيها بحسب رأي المشتغلين فيها الى ثلاثة أنواع من الدراسات ما بعد الكولونيالية وهي : (دراسات ما بعد الأستقلال) من خلال دراسة التاريخ القريب لثقافات ما بعد الكولونيالية معينة ، و ( دراسات ما بعد الاستعمار الاوربي ) من خلال مقاربة تفيد الأوربيين المناهضين للهيمنة، و( دراسات علاقة القوة ) من خلال دراسة رأي المنظرين الثقافيين الذين يتركز اهتمامهم على إبراز علاقات القوة بين المستعمِر والمستعمَر.
إنَّ هذه الأنواع الثلاثة من الدراسات ما بعد الكولونيالية شكلت القاعدة الفكرية لخطابات المغايرة ضد الأفعال والممارسات التي قامت بها السلطات الكولونيالية ؛إذ أخذت هذه الخطابات بالبحث في أغلب مجالات المواجهة والمجابهة الثقافية ،ومن هذه المجالات التي نركز عليها في هذا كتابنا هي الفنون ، وخاصة الفنون الأدائية التي لها مدخليه مهمة في نقد الفكر الغربي بصورة عامة والفكر الثقافي الكولونيالي بصورة خاصة ، من خلال مقاومة الأفكار التي أتجهت في جوانب مهمة من العمل الفني على التمركز الغربي ثقافياً وفنياً ، وهنا يرى ( سعد البازغي ) في كتابه (الأختلاف الثقافي) أن التيارات الثقافية في العالم التي استهدفت التمركز الثقافي الغربي إنصب أهتمامها على ثلاثة محاور هي :
1. التمركز الأوربي ( الغربي ) في مفاهيم مثل التنوير وغيرها التي ساهمت في توسع التغلغل الثقافي ،وهذا النقد أتى من مفكري مدرسة فرانكفورت ( أدورنو و هوركهايمر ).
2. فكر ما بعد الحداثة ونقد للحداثة التي أوجدت مشكلات عدة على المستويات الأقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها .
3. النقد ما بعد الكولونيالي والذي صدر من مفكري ونقاد الحركات الثورية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وبعض الدارسين في اوربا من هذه اصول .
وفي النقطة ثالثاً يبرز دور المفكر الأمريكي ذو الأصول العربية ( فلسطينية ) (أدوارد سعيد ) وما قدمه من مجموعة من المؤلفات التي ساهمت في نقد الفكر الثقافي الكولونيالي ومنها كتاب ( الإستشراق ) وكتاب ( الثقافة والإمبريالية ) وكتاب ( السلطة والسياسة والثقافة ) وغيرها من المؤلفات التي حملت معها قضية الفكر الكولونيالي وأثره على الثقافات المهمشة ومنها ( الشرق الاوسط ) . و( سعيد ) في مؤلفاته تناول جوانب النقد الفني لعدد من الاعمال الغربية التي كان لها دور في الترويج لثقافة التمركز الغربي ، ومن بين هذه الاعمال ( الكوميديا الالهية – دانتي ) ورواية ( توقعات عظيمة – لتشارلز ديكنز ) و(روبنسون كروزو- لدانيال ديفو) وأعمال مسرحية مثل مسرحية ( الفرس – اسخيلوس) و مسرحية (عطيل – شكسبير ).
إنَّ الفنون بمختلف أنواعها ساهمت ايضاً في حركة النقد للإرث الكولونيالي وكشف ما هو مؤثر في الحركة الثقافية الغربية على البيئات الثقافية المحلية ،ومن بين الفنون المسرح الذي استخدم من قبل المبدعين في نقد الثقافة الكولونيالية ، والشواهد في هذا المجال عديدة ومنها ما استخدم في داخل الفضاءات الثقافية الغربية ذاتها ، ومنها ما استخدام في إخراجها وقد ذكرنا في كتابنا – الذي يحمل عنوان ( الإشكالية الثقافية لخطاب ما بعد الكولونيالية / المسرح انموذجاً )- العديد من هذه المسرحيات ، ففي الداخل الغربي قدمت مسرحيات لـ( جان بول سارتر ) مثل مسرحية( الشيخ والغانية ) التي تنتقد التعامل مع ( الزنوج ) ومسرحية (أنشودة انغولا ) لـ( بيتر فايس ) ،ومسرحية ( أنظر خلفك في غضب ) لـ ( جون ازبورن ) ومسرحية ( كل أبناء الرب لهم اجنة ) لـ ( يوجين أونيل ) . أما في خارج الفضاءات الغربية فقد قدمت مسرحية( Vincent O. Sullivan ) وتتناول موضوع السكان أصلانيين في أستراليا ومعاناتهم مع المستعمرين ، ومسرحية ( ساندي لي ) وتتناول صورة الأبتزاز الجنسي ممثلاً بصورة آمرأة تمثل قارة ( آسيا) وتخضع للرجل الغربي الأبيض.
إنَّ هذه الأعمال المسرحية وغيرها كان هدفها الرد الثقافي بالضد من الخطابات الكولونيالية ، والهدف الأساسي لهذا الرد هو المغايرة الأفعال الكولونيالية وتفكيك ما هو مخفي حتى تتضح النوايا من وراء الإستغلال الثقافي للإنسان المهمش والذي وقع تحت تأثير ثقافة مؤدلجة تعمل من أجل جعل الشعوب تغادر كلما هو أصيل ثقافياً لصالح البديل الثقافي ، وما ينتجه من هيمنة تشوه المحلي لصالح العالمي وإخضاعه تحت سلطة المركزية الثقافية ، لذلك فالهدف الأسمى للمسرحيات ما بعد الكولونيالية هو كشف التعمية الثقافية التي تمارس ضد الثقافات الرافضة للمرويات الكبرى للخطاب الغربي ومركزيته ، فالمسرح كفعل درامي هدفه أيضاً إعادة هذه المرويات الكبرى ولكن بصورة مغايرة للرواية الرسمية ،أي إعادة رواية الجانب الآخر من قصة البيض الغزاة وذلك بغية مناهضة الرواية الرسمية للتاريخ والمحفوظة في النصوص الإمبريالية وكما هو الحال مع الرواية التي قدمها المستعمر Coloniser للتاريخ فان لغته ايضاً شغلت وضع السيادة وهو الوضع الذي يجب مسائلته وتفكيكه كجزء من مشروع تفكيك الاستعمار وفكر الكولونيالي ثقافياً وفنياً .
إنَّ هذا الكتاب الذي جعلنا له عنوان ( الرد بالجسد وخطابات أخرى ) وهو الكتاب الثاني بعد كتاب ( الاشكالية الثقافية لخطاب ما بعد الكولونيالية ) الذي يتناول نقد الكولونيالية ثقافياً من خلال خمسة خطابات تتناول خمسة رؤى هي (والرد بالجسد ، ودراماتيك استشراق ، وفاعلية الخطاب النقيض ، الغيرية ، والإرهاب الفكري ) وهذه الرؤى هي جزء من عالم أوسع في النقد للفضاءات ثقافية الكولونيالية ، ومن الممكن ان ندونها مستقبلاً في مداخلات أخرى في مجال النقد ما بعد الكولونيالي ،عسى أن تسهم هذه الخطابات الخمسة في رفد الدارسين في مجال الفنون المسرحية لتوسيع آليات التحليل والتفكيك ونحن نعيش في زمن استعماري من نوع آخر ، ألا وهو الاستعمار الثقافي لوطننا لعربي وتحت مسميات اخرى وأفعال كولونيالية جديدة وهي امتداد للإرث الكولونيالي القديم