استندت نظرية ( الجشطلت ) على مفهوم رئيس ، استمدته من مصدرين أساسيين وعملت على تطويره في اتجاه محدد مخالفة ما كان قائماً قبلها في علم نفس القرن التاسع عشر . وهذا المفهوم هو ( الجشطلتGestalt ) الذي لا يقابله مصطلح في كل من الإنكليزية والعربية ، لذلك بقية هذا المصطلح جزءاً من مصطلحات علم النفس المستخدمة عالمياً ، فهو أقرب إلى عدد من الكلمات كالصيغة أو الشكل أو الهيئة أو البنية أو الكل أو الوحدة ، وكذلك يعني الكل المتكامل السابق لأجزائه ، وكل جزء من أجزائه له وظيفة محددة تتضح من خلال تفاعلها مع بقية الأجزاء المكونة لهذا الكل المتكامل .
فقد استمد مفهوم ( الجشطلت ) واقعه من مصدرين أساسيين ، الأول خالفه والثاني بنى عليه بعد أن عدل في بعض صيغه . فالمصدر الأول الذي خالفه هو اتجاه علم النفس الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر ، الذي قام على مفاهيم خاصة تعمل على التحليل البنائي للظاهرة بعد تجزئتها إلى عناصر منفصلة ، وبعد وصف كل عنصر وتحديد وظيفته ، يقوم المحلل النفسي ببناء الظاهرة النفسية المراد معرفتها ، أي يعمد إلى ترتيب هذه العناصر ويربطها بعضها ببعض لتكوين الظاهرة . وقد أستند علم النفس في القرن التاسع عشر في هذه العملية على النظرية الترابطية وبحسب هذه النظرية ـ وفي أكثر صورها منهجية ـ ينشأ الترابط من تلازم العناصر في الزمان ، ويتعزز بتكرار فرص التلازم . وكان علم نفس القرن التاسع عشر يسند هذا التصور بتجارب ترى فيها قيام ترابط وطيدة بين عناصر كائنه ما كانت ، ولكنها فحسب متجاورة في تجربة الفرد .
أما المصدر الثاني الذي بنى عليه وعدل في بعض صيغه فكان ( نظرية خصائص الجشطلت ) التي صاغها ووضع أسسها عالم النفس (النمساوي) ( فون أيهر نفلس Von Ehrenfels ) ، وذلك من خلال دراسات قام بنشرها على شكل مقال عام ( 1890 ) والذي بين من خلاله أن للكل السيكولوجي صفات فريدة غير خصائص الأجزاء التي يفترض أنه يتألف منها ـ وهذا الجزء من نظرية الخصائص ( الجشطلتية ) هو الذي بنى عليه علماء نظرية ( الجشطلت ) كمفهوم أساسي لهم ـ لكن ( ايهر نفلس ) بقي يتأرجح في تأكيد هذه الصيغة الأساسية في عمله وذلك من خلال تأكيده على ان الخصائص الكلية تأتي عن طريق الخصائص الحسية ، وبذلك ظل فكره مختلطاً ، أنه لم يرفض مفهوم الإحساس . فسلم بضربين من الحقيقة النفسية : الخصائص الحسية والخصائص الكلية ( خصائص الجشطلتات Gestalt Qualitaten ) ، وكان بالنسبة أليه حالتين متمايزتين من حالات الشعور : كانت الأولى هي الجوهر المادي Grundlage للثانية . كان بوسع الأولى أن توجد بغير الثانية ، بينما العكس غير صحيح ” . فالاحساسات التي لم يرفضها ( أيهرنفلس ) هي العناصر المتجزئة التي تتكون منها الظاهرة في مفهوم علم نفس القرن التاسع عشر . والعناصر هي المعطيات البسيطة الأصيلة ، التي يستحيل على أي جهد تحليلي جديد أن يردها إلى ما هو أبسط منها ، والتي ـ كما كان يقال ـ تجاوب في الشعور على إثارة كل عضو من أعضاء الحس . وهذه الصيغة هي التي تم تعديلها فيما بعد في نظرية( الجشطلت ) .
ولقد توصل علماء النظرية بعد تجارب عديدة إلى مسلمات أساسية انطلقوا منها في تفسيرهم لسلوك الفرد وتصرفاته ، معتبرين أن الفرد ليس آلة يفسر سلوكه وتصرفاته تفسيراً آلياً نابعاً من عمليات داخلية متكررة ، لا يمكنه تغيرها أو تطويرها إلى الأفضل . وكذلك لم ينظر أليه على أنه كائن مسير من قبل فاعل خارجي يتحكم به ، بل هو كائن حي متفاعل مع عالمه الطبيعي الذي هو جزء منه وخاضع لقوانينه ومؤثر ومتأثر فيه ، فهو عبارة عن منظومة من الأفعال الديناميكية المتفاعلة مع بيئته التي يحيا فيها .
كما ينظر علماء ( الجشطلت ) إلى أن الفرد ما هو إلا وحدة أو كل متكامل ، لا قيمة للأجزاء في حد ذاتها إلا في ضوء ما تؤديه من خدمات للكل ، وللكل مميزات وخواص ليست للأجزاء ولا نستطيع أن ندرس خواص الكل من الجزء . وبذلك اعتمدت النظرية ( الجشطلتية) في تفسيرها للظواهر التي تحدث في الشخصية الإنسانية على التحليل الوظيفي . فالشخصية لا يمكن تجزئتها إلى عناصر ، بل تعمل هذه النظرية على تغيير ” الظروف التي تحدث فيها الظاهرة ليعرف الشروط اللازمة لحدوثها ، ليعرف ما يحدث للظاهرة في ظروف مختلفة تغيرها ولا تفككها لذلك نرى أن مدرسة ( الجشطلت ) إذا أرادت أن تدرس( شخصية ) فرد من الأفراد ، لم تلجأ إلى تحليل هذه الشخصية إلى سمات وصفات ومميزات مختلفة ثم تقيس هذه المميزات كلاً على حدة ، بل تدرس سلوك الفرد بكليته في ظروف ومواقف مختلفة .
كما يرى هؤلاء العلماء الفرد جزءاً من البيئة التي يعيش فيها ، فمن الضروري عدم فصل الكائن عن بيئته لأن سلوك الإنسان في أي موقف من مواقف حياته نتيجة لتفاعل الفرد مع ما يحيط به من بيئة ومن ظروف ، سواء أكانت تلك الظروف نتيجة لاحتكاكه بالبيئة الطبيعية أو الاجتماعية . فضلاً عن أن أدراك الفرد للمنبه الخارجي نفسه عملية سيكولوجية ولا تعتمد فقط على خواص المنبه الطبيعية . إذن فالعلاقة القائمة بين الفرد وبيئته الطبيعية أو الاجتماعية ، هي علاقة بنائية لها دور أساسي في عملية تنشأت الفرد ، وفي عملية تعلمه ، وذلك لأن عملية التعلم ـ حسب الرؤية ( الجشطلتية ) ـ هي عملية ذات معنى ، أو موضوع يختص على العالم الخارجي ورحلة استكشافية مثيرة جداً يمكن لها أن تقدم استبصاراً في البنى الطبيعية المعقدة المتداخلة التي نوجهها في حياتنا اليومية. فهو معرفة للحقيقة الكاملة للموقف ومكوناته وطريقة عمل أجزائه للوصول إلى فهم البنية التركيبية للموقف الذي تقوم فيه ، وتحقيق التبصر في الجوانب الأساسية المطلوبة لكي تصبح القضية المطروحة ذات معنى ودلالة .
ويرى ( د. أحمد عزت راجح ) أن التعلم من وجهة نظر ( الجشطلتيين ) هو :ـ
1ـ ليس عملية عمياء بل عملية مبصرة .
2 ـ وأنه ليس مجرد ربط لمسالك معينة في الجهاز العصبي ، بل نشاط يتضمن الكائن الحي بأسره .
3 ـ وأنه عملية تكامل لا عملية ضم وربط وتجميع .
4 ـ وأنه يتلخص في إعادة تنظيم المجال الإدراكي بما يعين على بروز صيغ .
أن عملية تلقي المعلومات أو نظم تلقي المعرفة واكتسابها من قبل الفرد في نظرية ( الجشطلت ) تتوضح من خلال الطريق التي حددها علماء النظرية والتي توصلوا أليها عن طريق عدد من التجارب التي طبقوها على الإنسان . فقد ركز علماء النظرية أولاً على ( الإدراك الحسي Perception ) مستنتجين أن الإدراك ليس إدراكاً لجزئيات أو عناصر تجمع بعضها إلى بعض لتكوين المدرك الحسي ، وإنما هو إدراك لكليات ثم تأخذ الجزئيات تتمايز وتتضح داخل هذا الكل الذي تنتمي أليه ، وأن الكل يختلف عن مجموع أجزائه ” . أي أننا أول ما ندرك بصرياً هو الكل الذي يسبق أجزائه أي أننا ندرك من الأشياء هيأتها الكاملة التي تتضح فيما بعد أجزاؤها لنا ، وبذلك ندرك عن الأشياء أو ما ندرك صورها العامة وأشكالها لا احساسات منعزلة ناشئة منها. فقد أولى أصحاب نظرية ( الجشطلت ) للتجربة الحسية المباشرة أهمية كبرى في عملية التلقي ، فهم يرون أن العالم والصور يفرضان بنياتهما على الذات الناظرة أن أدراك صورة ما ، هو أدراك مباشر حدسي ( Intuitive ) ، أنه في الآن نفسه أدراك شعوري وحسي . كل أدراك هو كل شامل : فالذات تدرك الشكل ( Gestalt ) كمجموعة مبنية لا فاصل بين عناصرها.
وتأتي وبعد ذلك عملية أخرى تستند على الإدراك الحسي وهي عملية (الاستبصار) ، فكل من الاثنين الإدراك الحسي والاستبصار مترابطين ، والثاني يعتمد على الأول ، أي أن نظرية ( الجشطلت ) تقيم سيكولوجية الاستبصار على سيكولوجية الإدراك الحسي فالاستبصار هو عملية فهم الأشياء أو المواقف ، أي فهم بنياتها والأجزاء المكونة لها ، وفهم كيفية ترابطها مع بعضها البعض لتكوين البنى . فالإدراك الحسي ( البصري ) يعمل على إدراك الأشياء أو المواقف وصورها بشكل أجمالي ككل متكامل سابق لأجزائه ومن ثم ينتقل الإدراك من طور الأجمال إلى طور التمايز . فبالتمايز تبرز بعض عناصر الموقف ، وقد يكتسب بعضها معنى جديد أو وظيفة جديدة فيصبح وسيلة لحل المشكلة . عندئذ تتكامل الأجزاء الرئيسية للموقف في صيغة جديدة لتوصلنا إلى الفهم الكامل لبنية الشكل المتلقى . ففهم الأشياء أو المواقف يعني التوغل إلى داخل بنياتها والتعرف على أجزائها من خلال التحول من الأجمال الكلي للموقف إلى التمايز بين عناصر الموقف وأجزائه . وبعد معرفة وظيفة كل جزء أو عنصر من خلال تفاعله مع الأجزاء أو العناصر الأخرى لتلك المواقف أو الأشياء ، أي أن الفهم هنا يعني الانتقال من المواقف الغامضة التي لا معنى لها إلى مواقف واضحة ذات معاني .
ويرى علماء ( الجشطلت ) أن الاستبصار أو فهم المواقف أو الأشياء وما يكونها من الأجزاء هو المهم في تلقي المعلومات واكتساب المعرفة ، فهم ينبذون قضية الحفظ والاستظهار وما يأتي من خلالهما من معلومات ، معتبرين أن هذه المعلومات لا تستمر إلا لفترة قصيرة ثم تختفي ، بينما المعلومات التي تأتي من خلال الفهم المستبصر هي معلومات مستمرة تدوم مع الفرد لفترة أطول من الزمن ، أي أننا لا نستطيع أن ننتقل بالمعلومات المتأتية عن طريق الحفظ والاستظهار إلى مواقف جديدة بينما المعلومات المتأتية من خلال الفهم المستبصر يمكن نقلها إلى مواقف جديدة أخرى ، فإمكانية ” اكتساب مبدأ عام ما يعني إمكانية تطبيقه في أي موقف مناسب ولا يكون قاصراً على الموقف الذي جرى تعلمه فيه فحسب . وعلى النقيض من ذلك فأن ما تم تعلمه عن طريق الحفظ والاستظهار لا يحتمل أن يكون قابلاً للانتقال إلى مواقف أخرى .
ويؤكد علماء النظرية أيضاً على ( التنظيم ) وعلى ( إعادة التنظيم ) . فتنظيم الإدراك الحسي ( البصري ) يعني أن يحول الشخص المدرك الكل الذي يدركه إلى شكل وأرضية لتسهل عملية إدراكه. فالموقف الكلي الذي ندركه هو عبارة عن مجموعة من الأجزاء وهي الأساس في تنظيم الموقف الكلي الذي يحدد الاتجاه السيكولوجي للمتلقي ، وقد يتطلب أقل تنظيم ممكن لهذا الكل إذا استنفذت بعض الأجزاء للحد الأعلى لطاقتها بينما يكون مجهود البعض الأخر قليلاً ، مع ذلك فالعبرة بالتنظيم السيكولوجي النهائي لا بمجهود الأجزاء التي لا قيمة لكل منها على حدة دون التفاعل مع العناصر الأخرى . ذلك التنظيم النهائي للموقف من شأنه إبراز بعض العلاقات في مقدمة انتباه الفرد بينما تبقى العلاقات الأخرى التي ليس لها دور مباشر في حل الموقف المشكل في الظهير أو في المؤخرة .
أن عملية تنظيم الإدراك الحسي ( البصري ) تتم وتكتمل بمعاضدة قوانين ثانوية أخرى تساعد في قيامه واكتماله ، وهي :ـ
1ـ قانون التشابه ( law of similarity ) : ويعني أن الأشكال المتشابهة تميل إلى أن تتجمع في وحدة إدراكية متكاملة تكون فعالة في تكوين أنماط الإدراك الحسي .
2ـ قانون التقارب ( law of Proximity ) : ويعني أن تقارب الأشياء أو المواقف من العوامل المساعدة على إدراك المجموعات الحسية مكانياً أو زمانياً التي تساعد الفرد على تذكر تلك الأشياء أو المواقف المتقاربة مع بعضها البعض .
3ـ قانون الثبات والأقفال ( law of closure ) : ويعني اكتمال الأشياء الناقصة التي تكمل نفسها لكي تكون أثبت وأسهل في تكوين الصورة أو الصيغة في الإدراك الحسي ( البصري
4ـ قانون الاستمرار الجيد ( law of continuation ) : ويعني أن تنظيم مجال الإدراك الحسي يتم على صورة خاصة ، بحيث يستمر الخط المستقيم مستقيماً والدائرة دائرة .
5ـ قانون الخبرة السابقة ( law of Bidotropty ) : رغم أن (الجشطلتيين) لا يولون للخبرة السابقة أهمية كبيرة في تلقي المعلومات واكتساب المعرفة لكنهم لا ينكرون أثرها في إدراكنا للأشياء والمواقف .
أما ( إعادة التنظيم Reorganization ) الذي يرى فيه علماء ( الجشطلت ) أن عمله ينطوي على التخلص من كل العناصر أو الأجزاء التي لا تساهم في اكتمال الموقف وتكون عبئاً عليه ومعقدة للموقف في وجودها ، لذلك يجب التخلص منها ليكون الموقف أكثر وضوحاً بدونها ، أي أن إعادة التنظيم في صورته النمطية يعني استبعاد التفاصيل التي لا جدوى من ورائها وتصبح الملامح الأساسية للموقف بارزة وأكثر وضوحاً مما كانت عليه سابقاً .
ونصل إلى الخطوة الأخيرة التي تكتمل من خلالها عملية تلقي المعلومات واكتساب المعرفة ، وهي ( الانتقال Transfer ) إلى مواقف أخرى لتطبيق ما تم التوصل أليه في الخطوات السابقة على مواقف جديدة ، أي أن الاختبار الحقيقي للفهم هو إمكانية انتقال الاستبصار الذي تم الحصول عليه إلى مواقف أخرى تشبه في بنيتها الموقف الأول ولكنها لا تختلف عنه إلا في التفاصيل السطحية . والانتقال إلى مواقف أخرى والنجاح في تطبيق ما توصل أليه من خطوات سابقة يعني الوصول إلى التلقي السليم والتعلم الجيد لكل المواقف الجديدة الأخرى في المستقبل بالنسبة للمتلقي . وهذه الخطوات هي صلب عملية التلقي وعملية التعلم التي عمل ( الجشطلتيون ) على تطبيقها في اكتساب المعلومات وتلقيها بصورة كاملة .
أن نظرية ( الجشطلت ) تقدم مجموعة من الخطوات الأساسية التي يقوم عليها عمل التلقي وكذلك عملية التعلم ، والتي يمكن الاستفادة منها في آليات التلقي البصري وهي :ـ
1ـ الإدراك الحسي ، حيث تنطلق عملية الإدراك الحسي من الكليات إلى الجزئيات ، أي أن الإدراك الأول هو للكليات التي تأخذ الجزئيات بالتمايز والاتضاح في داخلها .
2ـ استبصار الأشياء ، أي فهم بنيتها من خلال فهم الأجزاء المكونة لتلك الأشياء ، وفهم عملية ترابطها مع بعضها البعض لتكوين الشكل الأساسي والمتكامل للأشياء ، ومن دون معرفة عمل الأجزاء داخل الكل فأن العملية ستكون فقط حفظ واستظهار لا عملية استبصار .
3ـ التنظيم ، أي تنظيم الأجزاء المكونة للأشياء المدركة وذلك من خلال تحويلها إلى شكل وأرضية ، ومن ثم استبعاد الأجزاء الزائدة التي تعرقل عمل الأجزاء المكونة من خلال عملية إعادة التنظيم .