الجمهور وقصدية التلقي/ الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

يتمركز عمل المسرح منذ نشأته الاولى عند الاغريق على استقطاب الجمهور سواء كان في الأماكن المفتوحة كما في المسرح الإغريقي ، او المغلقة كما في مسرح العلبة الإيطالي . وهذا الجانب من الحضور الجماهيري تطورت لديه الرؤية بمرور مراحل تطور العمل المسرحي ، والمكان المسرحي ، وعناصر العرض المسرحي ، إذ شكل الجمهور منذ القدم الركن الأساسي في العملية المسرحية ، لأن المسرح بدون جمهور لا تكتمل صورته الحقيقية ، على اعتبار ان العرض المسرحي بكل ما فيه يقدم اساسا لجمهور يتجمع خصيصا لمشاهدته ، وبدون هذا الجمهور تصبح الظاهرة المسرحية نفسها لا وجود لها لأن هذا الجمهور هو الذي يمنحها الخصوبة والحياة من خلال ذلك اللقاء الحي المتجدد بين إنسان بلحمه ودمه (الممثل) على خشبة المسرح ، وبين انسان اخر بلحمه ودمه هو (المتفرج) في مكان واحد ، هذه الخاصية المرتبطة بالعرض المسرحي لا وجود لها في الحقول الفنية التعبيرية من إذاعة وتلفزيون وسينما .
والجمهور المسرحي عبر العصور فرض معادلة على المبدع جعل فيها ضرورة التنوع والاختلاف عن ما هو سائد يميز المنجز الإبداعي كأساس لجذب المتلقي الى العرض المسرحي ، ويعد استقطاب الجمهور هو اهم ما يفكر به القائمين على العمل المسرحي ، لذلك تنوعت الاساليب والرؤى الاخراجية ، وهو ما جعل الجمهور يتواصل مع العروض المسرحية ، لأن لو كان المنجز الابداعي في شكل ومضمون واحد لما تواصل الجمهور معه ،فالتغيير سمه اساسية ونقطة مهمة في جذب المتلقي للعرض المسرحي ، والتنوع في الصور المسرحية هو الذي يحاكي العقل البشري من خلال استفزازه بما هو مختلف ، لذا فإن المتلقي عندما يشاهد صوراً فيها ما يشاكس تفكيره ويطرح اسئلة حول وجوده وكيانه كمخلوق له التأثير والتأثر تبدأ عملية انجذابه نحو هذه المعطيات التي يحاول بناء علاقة تتصف ببعدها الجدلي للوصول الى ما هو مطلوب ، والمطلوب هنا ليس الصور بقدر ما ينتج عنها فالصورة ليست هي الشيء ذاته ، بل هي مجال التقائنا به ، وبعبارة اخرى: إن عالم الصور هو العلاقة القصدية المباشرة بين الوجود والعقل بوصف هذه العلاقة: عقلا يستهدف موجودا ،وموجودا يستدعي عقلا. والعقل ليس صندوقا مغلقا ، بل هو فاعلية نشطة مفتوحة ، إنه ضوء يسلطه الناضر على الاشياء ،فلا يكون له وحده فضل إضاءة الوجود ، بل ان الوجود له فضل وقصدية التلقي لدى الجمهور تأتي من كون العرض المسرحي يتميز بمواصفات تخاطب مجموعة من الناس لما يحتويه من مكونات جمالية في منظومته وغايات اجتماعية ونفسية تفرض على المتلقي التواصل ، وهنا ليس بمعنى تطابق الرؤى بين طرفي العملية التواصلية، بل عملية الإختلاف تفرض على الجمهور التساؤلات التي ينتجها افق التلقي للعرض ، والتي يكون المتلقي فيها مهيأ مسبقا لهذه التجربة من حيث المعرفة بإطارها العام . كما يكون للتبادل فيما بين العرض والمتلقي نتاجات اخرى تشكل أبرز ملامح التكوين للمعنى في ذهن المتلقي والذي يأتي عن طريق ” مظاهر الخيال المسرحي ، وذلك على اعتبار ان المتلقي ــ قبل ان يشرع في مشاهدته للعرض ــ يقوم بأستدعاء الشفرات الجمالية ، والتاريخ، والحبرة الاجتماعية التي تسبق تجربة العرض نفسها ، بالرغم من ذلك فإن لكل اتجاه من الاتجاهات المسرحية المعاصرة اسلوبه الحاص في تحديد دور المتلقي ، وشكل التلقي في العرض المسرحي ، والذي يتوقف على درجة التفاعل التي يسعى اليها هذا الاتجاه او ذاك، مما يجعل لكل طريقة او اسلوب مسرحي ، مريديه من الجماهير التي يفرضها العرض والتي تشابه مصطلح (القارئ الضمني) عند ( فولفغانغ ايزر) والتي تفترض ،أو تتوقع حضور متلق دون ان تحدده بالضرورة: ان هذا المفهوم يضع بنيه مسبقه للدور الذي ينبغي ان يتبناه كل متلق على حده ، وهنا ركز (ايزر) على الفردية في التلقي او القراءة ،بينما يركز القائمين نظرية العرض المسرحي على الجماعية في التلقي المفترض ، من خلال ما يصمم ويأطر عليه العرض المسرحي وذلك عن طريق بناء منظومة معرفية تتشكل عادة من رؤية المؤلف في النص وما يحويه من علامات يقوم المخرج مع مصممي العرض من تمثيل ومصممي ازياء وديكور وموسيقى ومؤثرات صوتية وبصرية ….الخ ، وايصالها الى الجمهور المفترض ، وهنا يأتي دور الجمهور في توجيه بوصلته نحو العرض المسرحي من خلال قصدية التلقي لهذا النوع او ذاك ، فالوعـــــــي عند المتلقي لا يبصر الاشياء دون دافع قصدي كما يرى (هوسرل ) في فينومينولوجيته فالمنجز الابداعي يؤثر بشكل متبادل بذات المتلقي الواعية ، والتي تركز على التبادل والتوافق بين الذات المتلقية والعمل المسرحي .
ان عملية التأثير التي يفرضها العرض تكون نابعة من ما يفترضه المرسل من تأثير في المتلقي والذي يحدده ( امبرتو ايكو) بسمتين لهما تأثير في عملية التلقي عند الجمهور وهما: الاولى فهي عملية تكوين العلاقة المسرحية فوق خشبة المسرح ، تلك العلاقة التي لا تمثلها اللغة كما نجد في النص المكتوب ، لكن يمثلها شيء او شخص حقيقي ، يرتبط بعملية تشكيل العلامة ، ووعي الجمهور باعتباره ممثلا ، الامر الذي يعمل طوال الوقت على ابراز حقيقية ان عالم خشبة المسرح هو عالم مخلوق متخيل ، اما السمة الاخرى المميزة للعرض المسرحي فهي عملية التغذية المرتجعة (feed back) ، فالمتفرج عندما ينظر الى السكير قد يضحك عليه او يسبه او قد تبدر منه ردود افعال أزاء ردود افعال المتفرجين المحيطين به، ومن ثم فإن الرسائل المسرحية تتشكل هي الاخرى بواسطة عملية التغذية المرتجعة التي ينتجها الطرف الاخر من عملية الاتصال .
وخلاصة القول ان قصدية تلقي الخطاب لدى الجمهور يعطينا الاتي:-
أولا:- يعد التلقي للعرض المسرحي من الخطوات المهمة والضرورية التي تجعل المنجز الإبداعي يكتمل وفق الية التكوين والبناء التي لا تتم من خلال انجاز وبناء العرض المسرحي ، بل لا بد من وجود الخطوة الختامية التي تتمثل بعملية التلقي للعرض المسرحي .
ثانيا:- تفترض الية بناء العرض المسرحي متلقين مفترضين يبنون عملية المشاهدة وبناء فعل المشاهدة في عملية تلقي العرض المسرحي ، والذي يكون مفترضا ايضا في وعي الجمهور المسرحي . فعملية التلقي هي عملية افتراضية في بناء وتلقي وحسب ما موجود من تبادل او بناء تبادل مفترض في العرض وكذلك المتلقي.
ثالثا:- بما أن العرض يفترض وجود جمهور في صورته الافتراضية ويكون هذا الجمهور محدد ومقصود ، كذلك تكون عملية التلقي عند الجمهور عملية قصدية اتجاه عرض مسرحي يثير انتباه الوعي الحضوري عند المتلقي .
رابعا:- قصدية التلقي تتشكل عند الجمهور قبل بدء عملية المشاهدة وتنتهي بعملية التغذية الراجعة التي تساهم في تشكيل المعنى في ذهن المشاهد.

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *