الرد الثقافي في خطابات الضد المسرحي / الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

في مجال الإخراج ما بعد الكولونيالي والأساليب الإخراجية التي اتخذت من مناهضة الخطاب الثقافي الغربي ذات الامتدادات الكولونيالية في تمييز الحضارة الغربية عن الحضارات الأخرى موضوعا لها. حيث نشأ تيار مسرحي معارض للواقعية والطبيعية التي أغرقت المسرح بتفاصيل الحياة اليومية والتصوير الفوتوغرافي للأحداث ، دون ردة فعل تجاه ما يحدث من قتل وحروب اجتاحت أوربا والعالم ، لذلك جاء المسرح السياسي الذي عمل على توعية الجماهير ولاسيما الطبقة العاملة اتجاه الرأسمالية واستغلالها للإنسان وسيطرتها على الأمم ، حيث جاءت مسرحية (راسبوتين) التي قدمها المخرج الألماني (ارفن بسكاتور 1893 – 1966) على وفق مفهوم المسرح السياسي ، الذي دعا إليه من خلال المسرحيات التي أخرجها ، التي عدّ من أكثر عروضه نجاحاً في العشرينيات ، فان الجمهور لم يصبح مشاهداً فقط ، بل مشاركاً في الدراما العظيمة لانهيار الامبريالية ، حتى أنهم في النهاية انضموا – على نحو تلقائي – إلى الممثلين المحتشدين على الخشبة وغنوا معهم نشيد الأممية. لذلك ابتعد (بسكاتور) في مسرحه عن الجمهور النخبوي وعن مسرح العلبة ودعا الى مشاركة الجماهير العاملة في مصانعها ومشاغلها لنصب خشبة مسرح توظف فيه التقنيات الحديثة من اجل مشاركة جماهيرية اوسع ، إذ عبر عن رؤيته الإخراجية في المسرح السياسي وعن صيغة العرض المسرحي لديه بقوله: إن ما نحن بحاجة اليه ليس مسرحاً ، بل مجمعا هائلاً به جسر متحرك ، ورافعات ، واذرعه ممتدة على محاور ، ومنصات عملية معترضة ، يمكن ان تنقل اثقالاً تبلغ عدة اطنان حول الخشبة  ، وهذه التقنيات هدفها بناء مسرح مغاير للهيمنة المسرحية التقليدية ، التي كانت تمجد الصيغ الكولونيالية التي غيبت الجماهير ، كما في الواقعية المسرحية.

وكذلك شارك المسرح التسجيلي المسرح السياسي في نقده للنظام الغربي الرأسمالي ، وما خلفه من محن وويلات على الشعوب العالمية ، من انتهاكات لثقافات الشعوب واستقلالها السياسي والاقتصادي والثقافي عن الغرب ، ومن الأهداف التي ركز عليها المسرح التسجيلي ، هو مشاركة الجمهور في اتخاذ مواقف مضادة لخطابات السلطة الغربية من خلال أماكن عروضه المسرحية ، وهي المصانع والمدارس والساحات الرياضية والقاعات العامة ، ليتبنى أهداف الجماعات ذات الرؤية السياسية والاجتماعية الرافضة للأوضاع التي وصلت إليها بسبب الامبريالية العالمية ، ودعا (فايس) أيضاً إلى توظيف المواد الأرشيفية التي تستهدف إدانة ما خلفته خطابات السلطة على حياة الشعوب. ومن المسرحيات التي أصبحت عنواناً لهذا التوجه، مسرحية (أنشودة انغولا) ، وحديث عن حرب الفيتنام.

أما في التجارب المسرحية التي ظهرت في أمريكا وقدمت خطابات مناهضة للسلطة الأمريكي ، وحروبها وهيمنتها على العالم ،حيث ظهرت تجارب مسرحية عديدة منها (مسرح الجنوب الحر) الذي اتخذ من ولاية (نيو اورليانز) الأمريكية مقراً لحركته وعروضه ، وقدم هذا المسرح عدد من الأعمال المسرحية التي عرفت بعنوان (مسرحيات الغضب الزنجية) في ثورة ثقافية فنية ضد المعاناة والعبودية ، لكل أبناء الجنوب الأمريكي من الزنوج. ومن مسرحياتهم التي فضحوا بها الجرائم الأمريكية ضد الأفارقة ، مسرحية (في أمريكا البيضاء) وقدمت أيضاً مسرحية (في انتظار كودو) في إشارة إلى انتظار من يخلصهم من التبعية للأبيض الغربي الذي جعل منهم ملكية خاصة له يتصرف بها كيف يشاء.

وظهرت أيضاً حركة مسرحية ثانية كانت قد جعلت من المسرح أداة للاحتجاج على الحرب الأمريكي في الفيتنام ، وتعامل السلطات الأمريكية البشع مع أبناء الشعب الأمريكي  الذين ساقتهم إلى محرقتها في (فيتنام) ، وهذه الحركة عرفت باسم (المسرح الحي) ومؤسسيها هما (جوديت مالينا وجوليان بك) ،حيث قدم (المسرح الحي) بعد أن تعرض لمضايقات في أمريكا ، عرض مسرحية في أوربا ، التي اختارها لتقديم عروضه فيها على مدى أربع سنوات وانخرط في اهتمامات الحركات اليسارية ، مثل مسرح (الجوريللا) (الحرب الخاطفة) ، حيثما وجدت هذه الحركات – كانت ابرز نشاطاته في اضطرابات أيار 1968 بباريس – وقد أصبحت لفظة (الحي) مرادفة للسياسات الفوضوية المناهضة للحرب.

ان الرؤية الإخراجية  التي قدمتها فرقة (المسرح الحي) في عروضها المسرحية ، كانت تتبنى المنهج السياسي في مهاجمة المنطلقات الفكرية للدولة الإمبريالية الرأسمالية ، وجعلت من الفن المسرحي ثورة بدلاً من المتعة والترفيه  ، حيث قدمت الفرقة اسلوب الاستعارات المكثفة وابتعدت عن اسلوب القصة والعقدة والحبكة واحلت الأصوات المتقطع بالصمت بدل الكلمات ، واستخدام اجساد الممثلين في ايحاءات تجريدية. ومن عروضها المسرحية ، مسرحية (أسرار وقطع أخرى صغيرة) ، الذي لم يعتمد على نص مكتوب بل كان عرضاً مسرحياً مرتجلاً ، احتوت مشاهده على عدد من الإيحاءات ضد حروب أمريكا ، ومنها الموت الجماعي وانتقاد الرأسمالية من خلال أغنية كلماتها العبارات المكتوبة على الدولار الأمريكي ، والهتافات التي توضح المشكلة التي يعيشها المجتمع الأمريكي  في ظل السياسات الامبريالية ، التي تسعى إلى إخضاع العالم في استعمارها الجديد.

إن نقد السياسة الأمريكية ولاسيما في حربها ضد (الفيتنام) استمرت مع حركة مسرحية أخرى شكلها شباب يطلقون على مسرحهم (المسرح السري) ،حيث تحولت حركتهم المسرحية إلى حركة ثورية تنادي بضرورة مواجهة العقلية السلطوية الأمريكية التي أنزلت البلاء على أبنائها من خلال سياساتها التوسعية في الشرق ، واستخدم الشباب الثائر المسرح وسيلة لرفض سياسة الإدارة الأمريكية وبعد أن منعوا من تقديم عروضهم في المسارح ، قدموا أعمالهم المسرحية القصيرة على الأرصفة وفي الكنائس المهجورة والبارات وفي أماكن لا تلاحقهم السلطات الأمريكية فيها اتصفت اعمالهم بالأعمال القصيرة ،والأزياء العادية، والارتجال في التمثيل ، ومن أعمالهم المسرحية ، عرض مسرحية (رمال) وتدور أحداثها حول خمسة شخصيات، ثلاثة منها رئيسة هي (الأب والأم والسفير) ، وشخصيتان ثانويتان هما (الجندي الأول والجندي الثاني) ، وتتناول المسرحية حرب فيتنام والابن المقتول فيها، وهذه التضحيات التي لا يعرف لماذا ولأجل من؟.

كما قدمت المخرجة الأمريكية (نانسي ميكلر) في مسرح (فريهولد) في إطار الاحتجاج على السياسات الأمريكية ، مسرحية (أنتيجونا) في عام 1969 ، التي استخدمت فيها اساليب المسرح المفتوح والبالية والجمباز المسرحية ، ومعتمدة بذلك على المهارات الجسدية للممثلين، كما اعتبرت هذه المسرحية صرخة احتجاج في وجه الرئاسة الأمريكية ، التي مثلتها بسياسات (كريون) ومثلت الموت بشخصية أخ (انتيجونا) الذي أبقت جثته على المسرح طوال العرض.

أما المخرج الأمريكي  (ريتشارد فورمان) ،الذي قدّم في مسرحه الذي أطلق عليه مسرح (الوجود الهستيري) ، عدداً من المسرحيات ، في ضوء معالجاته الإخراجية الرامية الى ايجاد عرض مسرحي يفكك من خلاله المنطق العقلي الغربي ، أو ما وصلت إليه الحضارة الغربية أو العقلانية الغربية ، حيث اعتمدت هذه الرؤية على الحركات الجسدية والرقص والشرائح السينمائية والعبارات المكتوبة في خلفية المسرح ، فضلاً عن المؤثرات الصوتية المختلفة مثل اصوات البوق وصوت الزجاج المهشم  والبحر والطبول والصراخ ودقات الساعة  ،ومن العروض المسرحية التي اتصفت بخطابها ضد السلطة الإمبريالية وخطابها الكولونيالي مسرحية (الصخور)التي قدم فيها رؤية تهاجم المركزية الغربية في حروبها واصفاً العقل فيها هو من “يقود إلى الحروب والمصالح والاحتكارات والعزلة وعدم الاتصال ، وهو الذي يقود إلى الجريمة والعنف والتفرقة العنصرية  إن مسرح فورمان يشكل نوعاً من الاحتجاج على ما وصلت إليه الحضارة الغربية من تصوير الشعور باليأس والإحباط.

إن العروض المسرحية ما بعد الكولونيالية لم تتوقف عند حرب (الفيتنام) بل شملت حرب (العراق) عام 2003 وما تبعها من أحداث في سجون الاحتلال الأمريكي  ومعاملة العراقيين على وفق النظرة الكولونيالية القديمة ، حيث قدم المخرج الأمريكي  (اندريا مادوكس) عرض مسرحية (ما الذي اعرفه عن الحرب) للكاتبة (مارجولي شيرمان) في مهرجان القاهرة التجريبي ، كشف من خلاله عن الخطاب الكولونيالي الأمريكي  وصورته المتعالية واستهزائه بالآخر العربي (العراق) ، حيث حاول المخرج من خلال العرض أن ينتقد الحرب الأمريكية على الشعب العراقي وتجردها من الإنسانية في معاملتها لهذا الشعب ، وفكرة المسرحية تدور حول معاناة امرأة أمريكية فقدت زوجها في الحرب، والطفل الأمريكي  الذي فقد أباه فيها. وتناولت من جانب آخر معاناة العراقيين وأطفالهم من خلال تعرضهم للإهانات والضرب ، ومعاناة المرأة العراقية المسنة لمجرد تمسكها بحقها ، وتعرض المسرحية صور من سجن (أبو غريب) والتعذيب الذي حدث فيه وانتهاك حقوق الإنسان على يد الجنود الأمريكان.

أما العرض المسرحي الثاني الذي ناقش وفضح الخطاب الكولونيالي الأمريكي  وتعامله مع الشعب العراقي ، فهو عرض مسرحية (الفالوجة) ،وهي مسرحية بريطانية من تأليف وإخراج المخرج البريطاني (جوناثان هولمز) الذي يعد من المخرجين البريطانيين المعارضين للحرب على العراق. قدمت هذه المسرحية على مسرح (ترومان) في شرق لندن ، ويعتمد المخرج في عرضه المسرحي على الإحصائيات لضحايا من الجنود والأطباء والمدنيين في مدينة (الفلوجة) في عام 2004 ، والذي كان من بينهم الناشط المعادي للحرب (جويلا وينج) والصحفي الكندي الجنسية (داهر جميل) إذ استوحى من هاتين الشخصيتين قصة مسرحيته ، لتصوير بشاعة الحرب الأمريكي ة ضد العراق.

إذن ، أمتاز الخطاب ما بعد الكولونيالي في المسرح العالمي في داخل المؤسسة الغربية  بعدد من المميزات التي أسهمت في تفكيك الخطاب الثقافي الكولونيالي، وكما يأتي :-

  1. أمتاز الخطاب ما بعد الكولونيالي في الداخل الكولونيالي بمواجهته للأهداف الكولونيالية وصورتها الامبريالية التي مارستها ضد الآخر ، كما في مسرحيات (سارتر) و ( العبث واللامعقول) و(بيتر فايس) و (ازبورن) وغيرهم ، حيث تناولت مسرحياتهم الإنسان وما وصل إليه من تدهور في مجالات الحياة نتيجة للحروب الكولونيالية والأهداف الاستعمارية والتنافس بين الدول الامبريالية على الهيمنة الثقافية ضد الشعوب ، وهذا ما حصل في الحربين العالميتين وحرب الفيتنام وحربي أفغانستان والعراق. حيث عملت هذه المسرحيات  في الداخل الكولونيالي على تفكيك مفهوم الهيمنة الثقافية الغربية وأهدافها التي حاولت من خلالها السيطرة على الثقافة العالمية ، لهذا جاء فعل المسرح كخطاب بديل ونقيض لهذه الصورة الثقافية العالمية المتمركز في الذهنية الغربية.
  2. اتخذ بعض من كتاب النصوص المسرح ، وبعض من أصحاب الرؤى الإخراجية في المسرح الغربي من تفكيك الخطاب العنصري والتمييزي ضد السود الأمريكيين ، أو في العالم الغربي من ذوي الأصول الإفريقية ، أو حتى ضد الآخر الأسيوي وغيره من شعوب العالم الثالث هدفاً لهم، حيث ظهرت عدد من الأعمال المسرحية التي سعت  الى فضح الخطاب التحريضي والتمييزي ضد هذه الفئات ، وما قام به الخطاب الثقافي الكولونيالي من تسويق لصورة مغايرة ، وفضح ادعاءاته لكونه خطاباً جاء لتثقيف الآخر الاصلاني في بلاده التي سيطر عليها الغرب، لكن هذه الأعمال كشفت عن إن الذات الغربية متمركزة على الثنائية العنصرية ضد الآخر في حضارتها أصلاً ، وهي متهمة بالعنصرية في الداخل الكولونيالي. ومن هذه الحركات مسرح الجنوب الحر في أمريكا ومسرحيات (يوجين اونيل) ومسرحيات (جان جانيه).
  3. قدمت اعمال مسرحية غربية خطاباً مسرحياً نقيضاً هدفه دحض الخطاب الثقافي الكولونيالي في الداخل الغربي ، الذي يؤمن بحرية الإنسان وتطلعاته نحو عالم مثالي يعيش فيه بقيم إنسانية دعت لها الحضارة الغربية التي تمركزت في خطابها الظاهرة ، لكن هذه الحركات المسرحية سعت الى تفكيك هذا المفهوم وتعرية الخطاب الغربي من ادعاءاته الإنسانية ، ومن هذه التيارات والحركات المسرحية مسرح (بيتر فايس) و (المسرح الحي) و (المسرح السياسي) وغيرها وكذلك نصوص (مسرح العبث واللامعقول).
  4. امتازت بعض المسرحيات والحركات المسرحية التي قدمت في الداخل الغربي بتفكيك الخطاب الثقافي الكولونيالي في الخارج الغربي ولاسيما في خطاباته المؤيدة للحركة اليهودية العالمية ومخططاتها التوسعية في فلسطين ، وكذلك في الحروب الامبريالية ضد فيتنام والعراق وغيرها من دول الشرق ، كما في مسرحيات (بيتر فايس) وفي عروض (المسرح الحي) و (عروض المسرح السري) وعروض (اندريا مادوكس) و (جوناثان هولمز) و (جون دكستر) وغيرها.
0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *