مقالات عن مؤلفات الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي كتاب الرد بالجسد وخطابات اخرى / أ.د حسن عبود النخيلة

إنَّ المتفحص الدقيق لكتاب ( الرد بالجسد وخطابات أخرى) لمؤلفه أ. د. محمد كريم خلف الساعدي ، سيكون ازاء منجز واع في تأسيس الموضوعات الرئيسة التي تشكل مثابات الخطاب الكولونيالي ، وفي عملية محاورتها واستنطاقها وتفكيك مفاهيمها وعرض اشتغالاتها .

فالمنجز يذهب الى متابعة الظروف والمحركات والاغراض التي بني الخطاب على اساسها ليتخذ مساره الممتد حتى يومنا هذا في فرض وجوده وتغلغله في صميم تجربتنا الحياتية ودفعها باتجاه الإفراغ من الذات وتعبئتها بهيمنة الأنا الترنسندنتالي الذي ما عدنا ندرك الا وجوده المسير لكل مفترقات الحياة ضمن اساليب الغائية تهميشية تدفع دوما الى المحو والانتقاص والاستهداف الذي يتصدر بهويته المتعالية كل شيء ينظر اليه باستصغار .

هذه الثنائية ما بين السيد والعبد وما بين المركز والهامش ، وما بين الأنا والغير وما بين الحضور والغياب ، وغيرها من المفاهيم تشكل مرتكز رئيساً لهذا الكتاب ، الذي يسعى الى تأسيس صورة بارزة للضد الكولونيالي.

وهو يشتغل في هذا المضمار على سبل تأسيس الهوية والدفاع عن الإرث واستعادة الذات مستعيناً بتجارب واعية يتساوق في طرحها على وفق ما يقدمه من نظريات اشتغلت عليها الدراسات الكولونيالية ، ليجد لها معطيات الرد التي تكفّل بها الفكر الفلسفي والاجتماعي والمنجز الفني – متمثلاً – بتجارب المسرح الهادف على المستويين العالمي والعربي .

ولذلك فان ميزة هذا الكتاب تكمن في ارتباطه بصميم الدراسات الثقافية ، وهو يضيف صورة واعية تدعم تطلعات النقد الثقافي في كشف الانساق المضمرة ، من خلال التأكيد على آلية فضح هذه الانساق من خلال النقد الكولونيالي الذي يمارسه المسرح .

في ضوء ذلك تتجلى جملة من الاشكاليات الرئيسة التي يطرحها الكتاب ، تتمثل بمفاهيم متعددة لمنهجية التصعيد الكولونيالي ، ومنها مفاهيم تعمل على فضح الذات الكولونيالية عبر قراءة المضمر المتصل بها ، ويمكن إجمالها بالآتي :

1- اسطرة الشرق : اي اعادة بناء الشرق بعيداً عن واقعه وعلى وفق مسلمات ذهنية غريبة عن ذلك الواقع ، يراد لها ان تحتل موقع الحقيقة الواقعية ، مستبعدة الواقع التاريخي والنفسي للأمم الشرقية مستبدلة اياه بصورة خيالية . ابتكرتها مخيلة الانسان الغربي ، معيدة بذلك ترتيب الوقائع والاحداث بالطريقة التي ترضي غروره واحساسه بالفوقية .

2- الثبات : اي احلال معنى الصلابة والنظام الذي لا يتغير ، فتعيين الهوية يتمثل فيما هو (في مكانه على الدوام) .

3- التهجين : ويعني بناء شخصية المستعمَر(بفتح الميم) بأسلوب يجعلها شخصية تعاني من التهجين والغموض والتذبذب والخوف والطاعة . وبالتالي يصبح الهامش بمثابة مكون فاعل في بناء واقعه الاجتماعي .

4- الانزياح الثقافي : يعمل الخطاب الكولونيالي على كبح العودة الى التراث والاثر الثقافي المحلي ، وبالتالي يصبح الارث المحلي من الثقافة والسلوكيات التي تحدد هوية الانتماء الى الاصل بعيداً عن واقعه بسبب الانزياح الثقافي .

5- الانكماش الثقافي : وهو ما يستند في المفهوم الاستعماري على سيادة القطب الواحدة المرجح لذاته على باقي الاقطاب في الحضارة ، منصباً نفسه قائداً ومانحاً لغيره صفة التبعية له دون اعتراف بثقافة الاخر . ومن ثماره ثقافة التمايز اللوني ( دليله مسرحية عطيل التي تستعرض اخلاقيات المجتمع الشرقي مجسدة بشكوك عطيل ووحشيته التي لا تنسجم مع تركيبة المجتمع من حوله ).

6- الاقصاء : مفهوم كولونيالي يتحقق عبر السطوة والتغيير الديموغرافي من خلال رسم الحدود الجديدة من اجل التجزئة لتسهيل عملية السيطرة .

ويمكن تحديد مفاهيم اخرى (تبين ايديولوجيا الخطاب الكولونيالي ) او تعمل على الضد منه .

فقد طرح فوكو مثلاً مفهوم ( السلطة على الجسد) : على وفق عمليات الاستثمار والتقنيع ، والترويض ، والتعذيب ، والجبرية على تنفيذ الواجبات واقامة الطقوس وارسال العلامات .

فإذا كان هذا الخطاب يعكس ايديولوجيا الخطاب الكولونيالي ، فعلى الضد منه يأتي مفهوم ( سلطة الجسد) فهو يمثل الجسد الثوري المعارض للسلطة على الاجساد وقد مثل القطبان الصراع المستشري حتى يومنا هذا ما بين الاعلى والادنى ، حتى اوصل هذا المنظور ، ادورنو وهوكهايمر الى القول بالجسد الشرير ، اي ان الاجساد المضطهدة والمهمشة وضعت ضمن تصنيف الاجساد الشريرة المتهمة بكل تخلف وجنون ، وعين للأجساد المُهمشة موضع الخير.

وضمن سياقات الدفاع ضد الخطاب الكولونيالي ، او الرد بالجسد عليه ، يستعرض المؤلف مصطلح ( الوعي الادائي) بوصفه تصنيفاً يقع بين النص والمتلقي ، فهو الاداة المهمة للاختلاف الثقافي ، لأنه خارج تصنيف التبعية ، وهو اداة التنسيق بين الفكرة والتعبير عنها ، فهو وعي جاد ، شديد التناقض ، يرفض ان يكون مقيداً داخل نسق ثابت من الاشارات .

اما على صعيد (دراماتيك الاستشراق) :

فيأتي الاستشراق بحسب ما يطرحه المؤلف ليشكل واحداً من المفاهيم الرئيسة التي تكشف عن اسلوب التفكير الكولونيالي الذي يقوم على التمييز الوجودي والمعرفي بين ما يسمى (الشرق) وبين ما يسمى (الغرب) .

وقد عمل في هذا الجانب (ادوارد سعيد ) على تفكيك الخطاب الاستشراقي وفضحه من خلال التركيز على بنيته والادوار التي يلعبها على وفق المناهج الاساسية التي حددها سعيد بـ : الانا ، الاصلاني الصامت ، الجغرافية المتخيلة الشرقية ، التمثيل الغربي .

وقد عدّ ( الخطاب النقيض ) من المصطلحات التي ظهرت ضمن ما بعد الحداثة في حقل البحث ما بعد الكولونيالي .

وقد تجلى هذا الخطاب ( في غربنة ثقافة الاخر) من اصولها وجعلها واقعة في دائرة المحو الثقافي للآخر ، من خلال تقدم الجيد المتقدم .

والغربنة هذه ، بدعوى ، ان هذه الشعوب لا تمتلك تاريخاً ولا ثقافة ،،، إذ يتم املاكها ثقافة جديدة على وفق سياسة العقل المتحضر الغربي .

في هذا السياق برز كتاب مهم بعنوان (روح الانوار ) قدمه تزفيتان تودوروف اكد فيه : ان الانوار تقر بوحدة الجنس البشري ، فهي اذن تقر بكونية القيم .. ولما كانت الدول الاوربية مقتنعة بانها تحمل قيماً ارقى من القيم السائدة عند غيرها من الامم اعتقدت ان من حقها حمل حضارتها الى الذين هم اقل حظاً منها . ولكي تضمن تحقيق اهدافها كانت تعمل على احتلال المناطق التي يسكنها هؤلاء .

وكانت لطروحات نيتشه ودريدا عبر تفكيكيته الاثر المهم في فضح نوايا العقل الغربي ، مثلما فعل ادوارد سعيد في تبيانه ان الاستشراق : هو اكبر حملة يقوم بها الغرب للسيطرة على الشرق ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا ودينياً . وتاتي نظرية (التابع) لـ (سبيفاك) لتكشف عن التعالي الامبريالي وتصغير الاخر وقياده والتسيد عليه ، وفي موضع اخر تتبدى اهمية مصطلح (الهجنة الثقافية ) عند هومي بابا … وتتبدى كذلك فاعلية الخطاب النقيض عند بيسكاتور وبريخت وبيتر فايس والمسرح الحي الامريكي .

يحتل ايضاً مفهوم (الغيرية والاشتغال الثقافي) موضعه المهم من الكتاب .

وتتحدد هذه الغيرية كما نرى من افادة المؤلف من تصنيفات (لاكان) في كتابه : اللغة ، الخيالي ، الرمزي . فكما هو ملاحظ ان المؤلف يقدم الصورة الغيرية على وفق ثلاث مستويات :

1- الاخر الغيري الضدي : الذي يرى بانه يقع تحت الانتقاص والتقليل من قبل الذات الآنوية واعلاء قيمتها الثقافية امامه .

2- الاخر الغيري المشهدي : الذي يعمل على صناعة صورة مثالية مكتملة ومسيطر عليها ( هذا الاخر يتواشج مع المرحلة المرآوية عند لاكان في تحقيق الذات )

3- الاخر الغيري الرمزي : الذي يحقق كينونته من خلال (القول) في استخدام نظام تمثيلي يسبق وجوده الفعلي …

وقد كان لهذه المعطيات شأنها بان يؤسس عليها المؤلف رؤيته في تأكيده على مصطلح (المسافة الغيرية) التي تمثل الرؤية الاخراجية التي يتم في ضوئها تحريك الاحداث التي يقع عليها فعل التهميش والاخفاء من حيث اثبات ما هو مغيب في دائرة العرض .

والمرتكز الرئيس في هذا الامر يتحقق في العملية الاخراجية عبر قلب المعادلة بين الدال والمدلول ، لتتحول من صيغة الاتفاق ، الى صيغة الاختلاف .

ان الانطلاقة الواعية للمخرج وقصديته في التوجه نحو فجوات الاختلاف ، تتفاعل لتحقق استفزاز ذهنية المتلقي بشكل مستمر ، ويفيد المؤلف في هذا الجانب من تنظيرات جيل دلولوز التي تحمل في عمقها مسارات ما بعد الحداثة ، فالتنظير للانا والغير عند دولوز يتاسس من خلال الاختلاف والتكرار ، وهو هنا اختلاف انتقالي من حالة الافقي ( التكرار) المرتبط بالانا الى العمودي المرتبط بالغير ، ومن المادي الذي يعزز التكرار الى الروحي الذي يفعل الاختلاف ، ومن الشرط الى القطع ، ومن المساوة الى اللا تساوي ..

وهكذا يشكل الانا والغير ، في زاوية الاختلاف والتكرار (الجيل دولوزية) افعال الاستمرار المنتجة للمسافة الجمالية في العرض المسرحي .

ويكون تحقيق المنظور الغيري نابعاً من تأكيد الافعال الغيرية في العرض من اجل اعادة المفاهيم المسلوبة الى الواجهة التي غيبت عنها الآخر بفعل التهميش والاقصاء.

أ.د. محمد كريم الساعدي ، الرد بالجسد وخطابات اخرى ، الطبعة الأولى ( البصرة : دار الفنون والآداب للطباعة والنشر ، دمشق : دار صفحات للطباعة والنشر ، 2016 )

1 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *