إنَّ فهم الحياة على وفق التصورات المختلفة التي لا تخرج عن دائرة الفن ساهمت في أعطى الإنسانية أمكانية اكتشاف مساحات أخرى من المعرفة، سواء أكانت المساحات متفق عليها في التوجهات، أو مختلف عليها في رسم الملامح المستقبلية للفرد. كون الفن ساعد في تدوين التاريخ منذ البداية في الحضارات الأولى ، وكذلك ساعد الإنسان في تجميل حياته منذ قدم العصور الأولى والى الآن، فالرسم على جدران الكهوف وتدوين شكل الحياة بزخارفها وما يبتغيه الإنسان في البدايات الأولى ، أصبحت البداية مهمة في تشكيل الوعي لدى الإنسان من أجل إنتاج معرفة أولى تلتها مكملات أخرى أضافة لهذا الوعي منافذ أخرى أنتج من خلالها الإنسان صور للتفكير بما هو آت من مستقبل حاول فيه توظيف كل ما أضافه الفن . فالفن نتاج فنان أسهم في أيجاد المعرفة في بعدها التاريخي ،فإذا كان التدوين لدى الإنسان بمختلف مسمياته وتصوراته صنع التاريخ بوصفه مفهوم جامع للأحداث والوقائع ،فإن الفن صنع للإنسان أدوات مهمة في إنتاج التاريخ أسهمت في تدوينه أيضاً . فالفن دخل في كل تفاصيل تشكيل الحياة الأولى وما تبعها من حيوات متقدمة في مجال الفكر الإنساني . فالملاحم فن ، والطقوس فن والحياة المعيشية كانت قائمة على الابتكار الأول للأواني ، والفخاريات فن أيضاَ ، والانتصارات الأولى رسمت بالفن على جدران الحضارات التي زينت بالفن أيضاً.
إنَّ الفن في مضمونه يركز على الغرض الذي يقول فيه ” أن الإنسان يستجيب لشكل الأشياء القائمة أمام حواسه وسطحها وكتلتها ، كما ينتج تناسق معين متعلق بسطح وشكل وكتلة الأشياء ، وينتج في صوره أحساس بالمتعة ، بينما يؤدي الافتقار الى مثل هذا التناسق الى خلق شعور بعدم الارتياح ،أو اللامبالاة ، أو حتى عدم الرضا ،أو النفور . إنَّ الإحساس بالتناسق الممتع هو الإحساس بالجمال والإحساس المضاد هو الإحساس بالقبح” (1)، ومن هذه الثنائية بين الجمال والقبح دوّن الإنسان حركة التطور لديه من خلال البحث عما هو جميل وممتع ،وإبعاد ما هو قبيح وممل . إنَّ بحث الإنسان عن التناسق والإحساس به هو من دفعه الى أن يرى الأهرامات بشكلها الشاهق متناسقة ، وبوابات بابل بألوانها المتأنقة التي تبعث المتعة والإحساس بالجمال كونها جاءت على وفق تناسق لوني مع الأشكال الفنية المرسومة ، وهذه الحركة في الرسم والنحت والفخار ، وحتى في إنتاج الطقوس العبادية المصاحبة للموسيقى كلها تدوين للجمال من أجل أن تسهم في إمتاع الروح والنفس لدى الإنسان صاحب الحضارات الأولى الذي أبدع التجربة والابتكار الأول في الفهم والوعي لأهمية الفن في حياة الإنسان ، الذي أبدع تدوين التاريخ في حياته ، وأصبح من الشواهد الداعمة في حياته المستقبلية . فملحمة كلكامش وبحثها عن الخلود ، أو ملحمة الفراعنة في بناء الأهرامات وبحثهم عن الخلود بطريقة أخرى لحياة ما بعد الموت ، أي خلود موتاهم من الملوك والقادة من أجل تخليد منجزاتهم ، وتعد الأهرامات خير دليل عن هذا الخلود في الحضارة المصرية ، من خلال بث الحياة في نتاجاتهم التي أصبحت فيما بعد خير دليل على إبقاء ذكرهم مستمر الى الآن . إنَّ البحثين عن الخلود وتدوينه في الحضارتين العراقية القديمة والمصرية القديمة هو فن وتدوينه يعد تاريخاً مصوراً لكلاهما. إنَّ من خلال الفن من الممكن أن نفهم التاريخ الذي دوّن بطرق تحمل معها ملامح خفية قام بها الأنسان بابتكارها من أجل تسطير صور حياتنا على مر المراحل وخصوصاً الأولى التي تخلو من وسائل التدوين وتقنياتها المتقدمة كما هو الآن .
إنَّ جدلية الفن والتاريخ جدلية قائمة على تبادلية الأدوار وإنتاج الوعي الإنساني الذي يعد العامل المشترك في لعب هذه الأدوار ، فالفن أنتج من خلال الفنان ، والتاريخ حفظ التجارب الفنية وغيرها من خلال المؤرخ ، أي أصبحت مواضيع الفن في هذا الإطار موضوعات تاريخية ، وموضوع للتاريخ نفسه ، لذا فإن الفن ” موضوع تاريخي ، وليس شيئاً حاضراً لا زمانياً يتمثل للوعي الجمالي الخالص ،ذلك أن العالم الفني ليس عالماً غريباً ننتقل من خلاله سحرياً الى فترة معينة من الزمان ، بل العكس في الفن نفهم أنفسنا ونتعرف اليها من خلاله . إنَّ الفن معرفة والخبرة بعمل فني تعني المشاركة فيه (…) إنَّ الفن يمثل نموذجاً خصباً للحقيقة تنتمي الى عالم الأنسان المعيش وسياقه التاريخي الذي يحيا فيه “(2).وفي هذا المجال يصبح الفن أحد أهم أسباب تواصلية الإنسان مع التاريخ والحاضر والمستقبل ، كونه من أهم مدونات الإنسان التاريخية الحية التي تسهم في نقل الخبرات المختلفة في إطار جمالي فني يحمل المتعة والسرور على الرغم من طبيعة موضوعاته المختلفة التي قد لا تخلو من بشاعة الانتصارات على حساب المهزوم ، لكن عملية التدوين في إطارها الفني تعطي للعمل المقدم قيمته الجمالية والفنية في إطارها التاريخي.
إنَّ من صنع التجربة الأولى من أجل الاستفادة منها في حاضره ومستقبله فنان مبتكر ليس بوصفه فرد عادياً، بل مبدع أبدع تجارب بشكل متعاقب حتى شكل منها حقلاً معرفياً قابلاً للتدوين والتوظيف أيضاً في قابل حقب التجارب البشرية اللاحقة جمعاء. ولكن تأتينا أسئلة لابد من أن نجد لها أجوبة تفيد المتصفح للتاريخ والفنان معاً ،أي (الفنان والتجربة المدوّنة) ، ومنها : هل أن الفنان في بداياته الأولى هو من وضع الأساس لتشكيل التجارب الفنية التي ساهمت في صناعة تاريخ البشرية في وقتها السابق وفي قادم الحقب الزمنية متقصداً ؟ ، أم أن التاريخ الذي دوّن فيما مضى دون قصد أصبح هو من يتحكم بتشكيل هذه الحقب الزمنية المتأخرة؟ ، أم أن حرية الفنان في أختيار التجارب فيما بعد هي من ساهمت في مجالات تطوره على مستوى الحياة المعاشة في حينها بجوانبها السلبية ،أو الإيجابية؟ . هذه الأسئلة التي تقع في ثلاثة خيارات متفرقة ، من الممكن أن يستغلها الفنان في وقته المعاش دون تحديد الإطار الزمني الثلاثي (الماضي /الحاضر/ المستقبل).
إنَّ علاقة الفنان بالتاريخ علاقة إشكالية من الممكن أن نتسائل في مثل هكذا إشكالية جمالية فنية وتاريخية إنسانية : هل الجمال في العمل الفني في صورته الفنية يمكن النظر اليه دون الرجوع الى ما حمله من معاني أخرى في غائيته التاريخية المتقصدة في هذا العمل ؟، مثلاً ما يحدث في هامشية الصورة من أعمال تعطي للقوة والسلطة المتفوقة في العمل الفني ملامح التفوق في العمل الفني ، ومنها على سبيل المثال: ما دونه الرسام الفلورنسي (باولو أوتشللو 1397- 1457) في لوحته عن معركة سان رومانو التي يوضح فيها الصراع على السلطة وتفوق المنتصر، وفي خلفيتها يظهر ملامح من هو خارج الصراع ويسحق من أجل الوصول الى السلطة والتفوق . وعلى وفق هذه التصورات ، هل يكون الفن شاهداً محايداً في النقل عن الأنسان ومدوّن جيد للتاريخ ، على اعتباره أداة ناقلة للمشاهد المصورة في أطار فني قصدي ، أو على العكس من ذلك يصبح الفنان مجرد باحث على لوحة يسطر فيها خيالاته التي يرى فيها مجرد محاكي لواقع يحدث أمامه دون أن يأخذ في تصوراته ما قد ينقل فيها من أشياء تدين ما يحدث دون أن يكون واعياً لذلك ، والمهم لديه التفاصيل الجمالية التي عمل عليها وساهمت في نقل ما في المشهد في أطار الجماليات الباحث عنها الرسام في اللوحة . وهل يمتلك الفنان حرية النأي عن المشاركة ويصبح محايداً وشاهداً وناقلاً للحقيقة من خلال أظهار المعاني الأخرى المخفية في إطار الصورة؟ ، مثلاً( عدو مهزوم تحت أقدام المنتصر ، أو سبية تسحب من قبل الجنود ، أو مدن تحترق ) كما في لوحات عدد من الفنانين ومنهم لوحة الرسام ( دييجو فيلاسكيز) عن (استسلام بريدا ) والمدن المحترقة في خلفية اللوحة ، أو كما في لوحة الموت للفنان (بيتر بروغل ) الذي يصور فيها الموت للمنهزم ، حتى وأن كان الذي قتل ليس له يد فيما حدث . وقد تكون بعض اللوحات التي ذكرناها وغيرها ليست لها علاقة بشكل مباشر بحادثة تاريخية معينة ،أو منقولة عن قصة حقيقية حدثت في التاريخ ، لكن أظهار طبيعة الحدث من حيث تصوير المهمشين في اللوحة وتمجيد السلطة ذات القدرات والنفوذ دون أدانة لها يعد من المسببات الواضحات على انحياز الفنان الى المنتصر صاحب القوة على حساب الضعيف في لوحته. هذه النظرة للعلاقة بين المدوّن للجميل والتاريخ الذي يرتبط بالعمل الفني ، يجب أن ترسم العلاقة في أطار الأدوار لكل منهما ، بعيداً عن كون أن التاريخ جزء من حياة شعب يفتخر بانتصاره ، أو أن العمل الفني يدوّن الافتخار ، يجب أعادة النظر في نماذج الفن التي وظفت في صناعة التاريخ وقراءتها على وفق الحيادية من أجل صياغة أخرى لتاريخها على وفق معطيات جديدة لهذا التاريخ الإنساني . وتعد هذه العلاقة هي إشكالية بحد ذاتها ، كون أن الحقب الزمنية المتلاحقة لتواريخ متقدمة كتبت وأصبحت جزء من عقائد الشعوب ومسلماتها في ترسيخ وتدوين تواريخها . وهنا نتسائل: هل التاريخ يدوّن على وفق البقاء للأقوى؟ ، والقوة هي مصدر كتابته كما هي عند (نيتشه) ؟ ، أم أصبح التاريخ وسيلة بيد من يبرره للوصول الى غاية معينة كما هو عند (مكيافيللي)؟ . هل أن أعادة الفهم التاريخي من خلال التجربة المدوّنة التي صاغها الفنان في ما يريد أن يدوّنه ، تساعد في فهم التاريخ من خلال قراءة الفنون في ضوء المعطيات الجديدة من العلاقة بين الفنان والتاريخ ؟ . وهل نستطيع أن نطرح رؤية في قراءة هذه الصور في ضوء ما نعيشه اليوم من متغيرات قد تفيد في تفسير ما قد لا نستطيع أن نراه بشكل مباشر على انه وقائع حقيقة لها الأثر الفاعل في حياتنا ؟.
الهوامش
1. هربرت ريد : معنى الفن ، ترجمة : سامي خشبة ، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1998،ص 10.
2. هشام معافة : التأويلية والفن عند هانس جورج غادامير ، الجزائر : منشورات الأختلاف ، 2010، ص37،ص38.