إنَّ الحاضر اليوم يميز لنا أهمية التاريخ في دعم أحداثه ووقائعه للهويات الجماعية وكيفية إسهامه في تمركزها من خلال التطابق الذي أنتجته الجماعات في ذوات استلهمت التاريخ وعملت على توظيفه لصالحها . وللتاريخ دور في طبيعة التمركز حول الذات والتمايز عن الآخر الذي أصبح جزء من عملية تشكيل وعي الذات المؤسسة وابتكاراتها وطريقة أنتاجها للتاريخ من أجل التفوق على الآخر ثقافياً .
إنَّ أستخدام التاريخ في مجال القصديات لبناء الهوية التاريخية ، فإن للقائمين على كتابة التاريخ دور في عملية صنع التمايز بين الذات لدى الجماعات التي حاولت أن تصنع هويتها التاريخية في الضد من الآخر الذي تميز عنها بالتناقض عن ثقافتها ومعارفها لذلك فقد جُعل هذا الآخر المميز للهوية وذواتها المنحاز لها في تشكيل صورة للتفرقة في ضوء الفهم التاريخي لهذا التمايز ، وهنا يتشكل التاريخ من معرفة قلقة بين الذات والآخر المناقض لها .
فالتاريخ يطابق ويناقض ، فالمطابقة تقع بين الذات وتاريخها ويتناقض تاريخها في صورته مع الآخر. ومن هذه الحركة المستمرة في العلاقية بين الذات والآخر نتجت حركة التاريخ في التمايز بينهما في ضوء معطيات هذه الحركة في اختلاف الأثنين . إنَّ الذي ينظر الى التاريخ بوصفه وقائع من الممكن أن تنتهي في نهاية وقوعها فهو في الفهم الخطأ ، لأن التاريخ في ظاهره وقائع وأحداث ومدونات ، لكنه أيضاً يد ممتدة الى الحاضر يمكنها أن تغير ، أن تصلح ، أو أن تعبث في واقعنا الحالي خصوصاً إذا كان التاريخ قد دوّن بطريقة مشوهه. فالتاريخ قد يسهم في تمزيق أمة ، أو يسهم في انطلاقها نحو المستقبل أفضل إذا ما استلهمت التجارب الحقيقية والفعالة منه . فالتاريخ ليس فقط مدوّنة ، بل أفق يمتد من الماضي الى الحاضر ، كما يرى المنظر الألماني (هانز جورج غادامير) في نظريته القائمة على أساس (الأفق التاريخي) الذي يؤكد فيه على أن الأفق التاريخي لا يكتمل ” خارج زمانية الكائن التي تسمح باندماج الأفق الحاضر بالأفق الماضي فتعطي للحاضر بعداً يتجاوز المباشرة الآنية ويصلها بالماضي ، وتمنح الماضي قيمة حضورية راهنة تجعلها قابلة للفهم “(1). إنَّ الافق التاريخي الممتد الى الحاضر فيه الكثير من ملامح عدم الأستقرار للحاضر ذاته ، إذا كان قد بني على أساس من القلق التاريخي في أبنيته صاحبة الأحداث المختلفة المتقصدة في الاستخدام ،والتاريخ القلق ينتج صوراً مشوهه وقلقة في الحاضر، والعكس صحيح أيضاَ ، لكن عملية الصراع وصور التمايز بين الذات والآخر جعلت التاريخ يقع في أطار قلق وليس مستقر مما ولّد هذا القلق صراع مستمر من أجل الهيمنة والسيطرة والإخضاع لأحد طرفي الصراع . وعملت الذات المؤسسة للفكر الغربي على إعادة إنتاج دلالات خاصة بها من أجل الوصول الى سمة التمايز المتخيل في داخلها من أجل بث روح التفاضل عن كل ما يحيط بها من اختلافات تتعارض مع هويتها المتجذرة في البناء المتمايز عن الآخر ، والسعي من أجل تثبيت هذه المرتكزات في الذهنية الغربية ، وأقامت صورة التمايز ” على إعادة إنتاج مكونات تاريخية ، توافق رؤيته ، معتبراً إياها جذوراً خاصة به ، ومستحوذاً في الوقت نفسه على كل الإشعاعات الحضارية القديمة ، وقاطعاً أواصر الصلة بينها والمحاضن التي احتضنت نشأتها ، الى ذلك تقصّد ذلك المفهوم ، أن يمارس إقصاء لكل ما هو ليس غربياً ،دافعاً به خارج الفُلك التاريخي الذي أصبح (الغرب) مركزه ، على أن يكون مجالاً يتمدد فيه ، وحقلاً يجهّزه بما يحتاج اليه”(2) إنَّ فكرة الاستحواذ على الآخر معرفياً فكرة هدفها الوصول الى بناء التفوق على حساب التعايش الحضاري ، فإن جعل كل ما للآخرين من معاني حضارية تنسب للذات المؤسسة من خلال الاختلاق التاريخي للمنجزات التي ليست للذات نفسها ، بل قد وجدت من قبلها لحضارات أخرى كما في مواضيع مهمة مثل البدايات الفكرية والفلسفية التي أعتبرها البعض ممن يدرسون التاريخ أن للإغريق قصب السبق بذلك رافضين كل البدايات الفكرية وأنواع التفلسف الأخرى في الحضارات التي سبقت الإغريق في ذلك ، هو من دلائل الاختلاق التاريخي في العقل الغربي ونسبه لحقائق هي ليست له في مجال البدء في الظهور في هذا المجال . وكذلك أنكار ما للفلاسفة المسلمين من دور في ترجمة ونقل الإرث الحضاري الفلسفي اليوناني وبث الروح فيه بعد أن كان قد أهمل من أبناء الحضارة الغربية في ما بعد الفترة الرومانية ، وكذلك أنكار العديد من الإضافات التي قدمها الفلاسفة في الحواضر الإسلامية للفلسفة وجعلها فقط للإغريق دون غيرهم ، كل هذا يدل على عملية اختلاق لتواريخ خاصة فقط بالمرجعيات الغربية والتي تعد الفترة الإغريقية نقطة التمركز لديهم في مجال التفوق التاريخي على الآخر في الحضارات السابقة. ومن هذا الاختلاق التاريخي الذي وضع في سياق جعل من خلاله كقاعدة للتمدد الحضاري للغرب على الآخرين في بقاء العالم الأخرى ، ليبرروا أن الحضارة في الغرب فقط وما هذه القاعدة الفكرية والمعرفية في الغرب الأ اشعاع فكري مبني على أسس وقواعد التفوق التاريخي الذي يميزهم عن باقي مناطق العالم الأخرى وهنا تكمن الغائية التاريخية في هذا المجال .أما باقي الحضارات فهي كانت شعوب بدائية لم تحقق ما يرجو منها قياساً لحضارة الغرب الإغريقية . وهذا ما يؤكده الفيلسوف (برتراند رسل ): ” إنَّ الحضارة اليونانية حضارة متأخرة بالقياس الى حضارات العالم الأخرى ،إذ سبقتها حضارتا مصر وبلاد ما بين النهرين بعدة ألوف من السنين . ولقد نما هذان المجتمعان الزراعيان على صفاف أنهار كبرى ، وكان يحكمهما ملوك مؤلهون ، وأرستقراطية عسكرية ، وطبقة قوية من الكهنة كانت تشرف على المذاهب الدينية المعقدة التي تعترف بآلهة متعددين . أما السواد الأعظم من السكان فكانوا يزرعون الأرض بالسخرة. ولقد توصلت مصر وبابل الى بعض المعارف التي أقتبسها الإغريق فيما بعد ، ولكن لم تتمكن أي منهما من الوصول الى علم أو فلسفة . على أنه لا جدوى من التساؤل في هذا السياق عما إذا كان ذلك راجعاً الى افتقاد العبقرية لدى شعوب هذه المنطقة ، أم الى الأوضاع الاجتماعية ، لأن العاملين معا كان لهما دور بلا شك “(3). إنَّ رؤية (رسل) أن مصر وبابل قدمت معارف لكنها لم تصل الى علم أو فلسفة كما حصل مع الإغريق الذين أخذوا المعارف ووظفوها في علومهم وفلسفتهم وأصبحت تنسب لهم دون غيرهم في مصر وبلاد ما بين النهرين الذين عملوا على اكتشافها قبلهم . ويتضح جلياً مفهوم الاختلاق التاريخي ونسب الحقائق الى غير أصحابها من خلال ممارسة الأقصاء على كل ما هو غير غربي ولا ينتمي الى الإغريق ، ويبرر الأقصاء التاريخي لأبناء الحضارات الأخرى بمسألة عدم وجود شعوب عبقرية من جهة، أو لأسباب أجتماعية دفعت أبناء تلك الشعوب للابتعاد عن دائرة الحضارة ، أو بسبب السلطة الدينية المسيطرة ومن قبل الكهنة ، أو سطوة الحكام الذين يؤلهون أنفسهم في أعين شعوبهم . وهذا ما أشار اليه (هيغل) ومن قبله (أرسطو) سابقا في مسألة الأستبداد الذي يعيشه المواطن الشرقي ، والذي ابعده عن دائرة التفوق والحرية في أنتاج معارف سامية من الممكن أن تتنافس مع الحضارات الأخرى حسب رأيهم .
إنَّ التمايز عن الآخر أصاب الذات الغربية بهوس التفوق حتى بات من الصعب توضيح التاريخ الحقيقي لتحديد هوية الذات المؤسسة التي اختلطت فيها العديد من إنجازات أخرى قد لا تكون دليلاً كافياً على مرجعياتها الثقافية والفكرية ،لأن التاريخ الغربي بات يخفي الكثير من الوقائع التي تفضح أساليبه ويغطي عليها بأمور أخرى ثقافية ذات أبعاد تاريخية غريبة عنه ،أو أخذها عن غيره كما في قول (رسل) السابق : أن بعض انجازات بلاد ما بين النهرين وبلاد مصر قد أخذتها الحضارة الإغريقية ، وتمثيلها في حضارته ونسبتها لها كما في علوم الفلك وبعض المكتشفات الأخرى في مجالات الزراعة ، أو الطب وغيرها ، والتاريخ الغربي تاريخ يخفي الكثير من انجازات الأمم الأخرى ، ” أي أن تاريخ الغرب وكيفية تشكله يخفيان في طياتهما خبايا كثيرة ، وجب فحصها ونقدها ، لكشف التسترات التي قامت بها الذات الغربية وفضحها ، وقصد ملامسة حقيقة الغرب ،أو على أقل تقدير الاقتراب منها. (…) ولما كان الغرب مفتتنا بمفهوم القدر التاريخي الفريد الذي يراه في نفيه ، كما كان مفتتنا بفكرة السيطرة العالمية والتوسع ، قام بعملية تمثيل فكري للحضارات الأخرى ولم يستطع تقبل فكرة الأختلاف عن الآخرين “(4) ، كونهم من المنافسين له وأن مشاركتهم في الحضارة لها حضورها في الوعي الجمعي لدى أبناء الشعوب ، وعمل الغرب على ابتكار المفاهيم الخاصة بتمثيل فكري لإنجازات الحضارات الأخرى في حضارته ونسبها بعد أن عدل وطور فيها لصالحه .
المصادر
1. بوفير : الفلسفة الألمانية الحديثة ، ترجمة : فؤاد كامل ، بغداد : دار الشؤون الثقافية العامة ، 1986، ص86.
2. د عبد الله إبراهيم : المركزية الغربية ، بيروت : الدار العربية للعلوم ناشرون ،2010 ، ص11، ص12.
3. برتراند رسل : حكمة الغرب ، ترجمة فؤاد زكريا ، الكويت : عالم المعرفة ، 2009، ص 28.
4. منير مهادي : نقد التمركز وفكرة الأختلاف ، مقاربة في مشروع عبدالله إبراهيم ، الجزائر : ابن النديم للنشر والتوزيع ، 2013، ص51.