دراسة في كتاب مسرح الشارع للأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي
تناول الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي في كتابه مسرح الشارع اشكالية المصطلح بين مسرح الشارع ومسرح في الشارع فللتفريق بين المصطلحين يأخذنا برحلة عبر الزمن الماضي ليقف على الجذور التي جاءت منها تلك المصطلحات، بدءا من اليونان والرومان انتقالا للمجال الديني الذي عده الكاتب بداية للمسرح في الشارع .
فيركز الكاتب على الجوانب الدينية كونها المؤثر في الانشطة الثقافية انذاك، فلو تتبعنا المسرح وكيف حُرم بداية في الديانة المسيحية وكيف اعادت الكنيسة وجهة نظرها في المسرح لنجعله اداة لنشر الطقس الكنيسي عن طريق تقديم العروض المسرحية المرتبطة بالمجال الديني.
فالكنيسة كانت متشددة في إبعاد المسرح عن المجتمع لتصورهم انه يسيء للدين، لكن سرعان ما اصدرت الكنيسة عام 1264 فرمانا بالاحتفال بعيد تجسيد المسيح او ما يسمى بعيد القربان في جميع انحاء اوربا، ما ادى لظهور اول اداء تمثيلي لعدة مسرحيات تناولت المعجزات والاسرار للمسيح، واستمرت هذه العروض لعدة قرون عديدة في الدول التي تعتنق الديانة المسيحية.
من ثم دخل المسرح الى باحات الكنائس وتوظيف القصص المرتبطة بالسيد المسيح عليه السلام وتقريبا في القرن العاشر الميلادي وكانت مسرحيات صغيرة بسيطة لا تتجاوز الاربعة اسطر كتابة لكنها حققت نجاحا مؤثرا، مما جعل الكنيسة تُدخلها القداس في عيد الميلاد وغيره، وكانت الكنيسة قد نظمت مجموعات تعرف باسم حلقات الاسرار تُستمد كلها من الكتاب المقدس.
لكن المسرح كان محدود الحرية في الابداع، فهو مرتبط بالجانب الديني داخل الكنيسة وخارجها، لكن سرعان ما بدأ المسرح يتطور خاصة خارج الكنيسة
وكانت العروض عادة ما تقدم في الهواء الطلق على منصات او عربات تجوب المدينة وتتوقف في اماكن مختلفة، وهذه الافعال جعلت اشكالية تحريم المسرح من عدمه تعود مرة اخرى لاروقة الكنيسة، مما جعل الامر يدخل في صراع بين المتشددين من الكنيسة الذين يرون ان هذا العمل ليس من اصول الطقس الديني، الذي جعل الوثنية تنتشر بعدما نال المسرح حرية في الشارع، وبين الداعين لنشر الطقس الديني داخل الكنيسة وخارجها الذين يدعون لتفعيل المسرح من اجل نشر الطقوس بطريقة محببة للناس.
نلحظ ان بسبب هذا الصراع تطور المسرح خارج الكنيسة كثيرا واصبح له رواجا بين الناس كونه لم يكن محرما على الرغم من محاولات المتشددين لتحريمه، لكنه ومع مرور الوقت اصبح مباحا لمشاركة الجمهور بشكل كبير.
اصبح المسرح الذي اتخذ من الشارع مكانا له يعمل بشكل واسع فلم تكن العروض ذات المقاطع الاربعة ، بل اصبحت تتكون من قصص في مقاطع وفصول طويلة، لتشمل القصص الدينية المختلفة ومن اهمها قصة بداية الخلق الى يوم القيامة، وحياة السيد المسيح عليه السلام.
يذكر الكاتب الساعدي في هذا الفصل التاريخي ان من المسرحيات المتبقية يورك، تشسستر، كوففنتري، وتشتمل كل منهن على اكثر من الف سطر يستغرق عرضها لايام ثلاثة ، بينما تتجاوز العروض الفرنسية الخمسة الاف سطر ويستمر عرضها لاكثر من شهر، وهي من اطول المسرحيات الدينية التي تقدم في الشارع، والاكثر حضورا.
سرعان ما انتشر المسرح في اوربا لكنه مرتبط بالجانب الديني فكانت الموضوعات تتعلق بعيد الرب والقربان المقدس، وكانت العروض على عربات متنقلة دخلت اليها الهزليات والرقص، كان ذلك عنصر جذب للجمهور الباحث عن المتعة كما حدث في اسبانيا وغيرها، واستمرت تلك العروض طيلة القرون الوسطى، الى ان منعت سنة 1765 للميلاد، وكانت تسمى تلك المسرحيات التمثيلية الدينية في عيد الرب، وكانت تخلط بين الجانب الديني والدنيوي وكانت تتخللها الرمزية للدين والاخلاق، وتحتوي على الرقص والهزل لكسب الجمهور وكسر الجمود الذي يرافق تكرار العروض.
ان موضوعات المسرحيات انذاك كلها مرتبطة بالجانب الديني وغالبا ما تركز على ذكر قصص ادم وحواء وقابيل وهابيل والانبياء نوح وابراهيم واسحاق ويعقوب وبشارة المسيح وتمجيد السيد مريم عليها السلام، والرحلة الى مصر والتعميد ووالاغواء والمعجزات والخيانة وصلب المسيح والنشور وعذاب الجحيم وصعود المسيح للسماء.
وهذه الموضوعات تناولت بشكل مختلف كي لا يشعر الجمهور بالملل والسأم من تكرار الموضوع.
وتطرق الدكتور الى الية عرض المسرح في الشارع انذاك فكانت تعرض على خشبات ثابتة تتخللها عروض الحركة والرقص، الا ان العديد منها يستخدم عربات متحركة في اماكن مفتوحة وعامة وهو ما يعرف بالمسرح الجوال.
من خلال ما تقدم عرفنا ان العرض المسرحي كان دينيا تسيطر عليه الكنيسة لوقت طويل وتتخذ من الشارع مكانا لها وهذا ما يصطلح عليه (مسرح في الشارع) اي انه مسرح موجه يتخذ من الشارع مكانا له .
مسرح الشارع في المجال الاسلامي
اما مسرح الشارع في المجال الديني الاسلامي والعربي فتناولها الكاتب تاريخيا، فالمسرح ولد في اماكن مفتوحة وكانت تلك العروض في الساحات العامة والاسواق وامام البيوت، وعلى الرغم من ان المرحلة الاسلامية لم تعط اهمية للمسرح انذاك، لكنه كان له حضور ملفت.
وبصرف النظر عن الجدلية هل للعرب مسرح ام لا ؟ فالكاتب يركز على التجربة المسرحية القريبة من مسرح الشارع التي تعد من المرجعيات المهمة لنشوء المسرح عربيا.
ان من الملفت للنظر هنالك متقابلات فنية في المسرح الديني عند المسيح والاسلام فكلهما ينطلقان من الطقوس الدينية، فقد نشأت عند العرب المسلمين عروضا تتعلق بقضايا تاريخية شعبية من دون الزام من المؤسسة الدينية انذاك، لكنها اصبحت جزءا مهما من المراسيم الدينية فيما بعد، ومن اهمها التعازي المرتبطة بواقع الطف في كربلاء. فيرى ادونيس ان لقتل الحسين خصوصية تتمثل في ادامة الذكرى وجعلها احتفال سنوي وهو احتفال محاكاة تمثيلية قولا وفعلا وعملا والفاظا، وحركات للحدث الفاجع.
ويرى اندريه فيرث بان التعازي نشأت كشكل مسرحي احتفالي من امتزاج الطقوس الدينية والشعبية التي تصاحب احياء ذكرى واقعة الطف.
وهذا المسرح يكون على انواع
النوع الاول المواكب ومسيرات الندب والرثاء التي كانت تجوب شوارع المدن والعواصم الاسلامية الشيعية خاصة والتي بدأت منذ القرن السابع الميلادي
النوع الثاني بدأ في القرن السادس عشر ويتمثل في رواية سيرة الامام الحسين ع ويجلس الراوي على منصة عالية ليقرأ على السامعين قصة المقتل.
وفي منتصف القرن الثامن عشر ظهر نوع مزج بين النوعين وظهرت التعزية على شكل مسرح، ويرى فيرث ان هذين النوعين شكلا الصورة الدرامية للتعازي بشكلها المسرحي التي ترتبط بمسرح الشارع تعتمد على الاماكن المفتوحة ، والاحتفال يكون ارتجالي يشترك فيه عدد كبير من المشاركين واعداد كبيرة من الجمهور، هذا المسرح قائم على العفوية لدى الممثلين والجمهور .
فالكاتب يرى ان التعزية تعبر في جوهرها عن فكرة المسرح الجوال الذي يمكن اقامته في اي مكان لاحتوائها على اكسسوارات بسيطة يمكن نقلها والترحال بها . وهو الاقرب لمسرح الشارع .
ويرى الكاتب ان التعازي تتميز كونها تمتلك ملامح مسرح الشارع من حيث الامكنة المفتوحة والارتجال المرافق للفعل الدرامي، كما انها تمتلك عناصر تقربها من مسرح الشارع من اكسسوارات وازياء تعبر عن الفترة التي حدثت بها الواقع الاليمة ، ان التعازي المسرحية استمرت الى يومنا هذا بشكل واسع وتقدم في عدة اماكن مع استمرار الطقوس الاخرى كقراءة المقتل والمواكب الرثائية.
اصبحت التعازي او ما تعرف بالتشابيه وهي تقوم على تمثيل قصة نقتل الامام الحسين واهل بيته واصحابه كاملة صباح العاشر من المحرم في كل عام
المواكب ومسيرات الندب وتقام من اول يوم من شهر محرم لغاية العاشر منه
الراوي الذي يروي قصة استشهاد الامام ويسمى القارئ يسرد قصة مسير الامام حتى لحظة استشهاده، ويرويها لمدة عشرة ايام ولكل يوم قصة عن حدث لاحدى الشخصيات وتكون هذه المظاهر في الساحات العامة وبعضها الاخر في البيوت.
في مصر والمغرب العربي فان مسرح الشارع يقارب هذه الظاهرة الفنية فينقل عن كارستين نيبورفي زيارته لمصر عام 1761 عروض الشوارع باكثر من نوع منها
فن الغوازي ويصاحبه الموسيقى والغناء وكان يقدم امام منازل الرحالة الغربيين
وكذلك عروض الخداع البصري الذي يقدمه الحاوي امام الجمهور في الساحات العامة ويكسب منها الاموال، عروض اللاغبين مع القردة ويلبسون ملابس تثير السخرية
وهناك ممثل فرد يقدم نفسه للناس من اجل العطاء وهو يسرد قصص النصارى في مالطة مع استعمال سلاسل الحديد وبعض المؤثرات البصرية
وفي عام 1815 يروي الرحالة لين عن مجموعة يطلق عليهم اسم المحبظين يقدمون عروضا في حفلات الزواج والختان في بيوت العظماء ويقدمون عروضا في الساحات تعتمد على النكات والحركات الهزلية لعامة الجمهور ان الممثلين كلهم من الذكور ما بين رجال وصبيان يقدمون الادوار الرجالية والنسائية معا.
من هنا يرى الكاتب ان تلك العروض هي البدايات لمسرح الشارع الذي تطور فيما يعد ليكون عروضا درامية
ومن اشكال الدراما التي تقدم في الاماكن المفتوحة، العربة التي يقودها الفنان في الطرقات وما يقدمه من حكايات وقصص عن طريق الصندوق الذي يحمله فوق العربة، او على ظهره، يتجمع حوله الناس وتعتمد على المشاهدة مع تعليق صوتي وهي اقرب لخيال الظل ، ويسمى صندوق الفرجة، ويحتوي على رسومات ورقية مقصوصة وملونة بالوان الطبيعة والحياة، تروي احداثا عن مواقع قد تكون حقيقية بالاسم لكنها مصورة من الفنان الذي اعدها ورسمها وعرضها بشكل متسلسل .
وفي دول المغرب العربي تنوعت الظاهرة الدرامية التي تحتوي صورا من مسرح الشارع، يقدم في الساحات العامة والاسواق فمن مظاهر حلقات البساط الى مظاهر سلطان الطلبة وغيرها من الاحتفالات التي تشير لعروض الشارع وما زال بعضها مستمرا لليوم ، كما ان الموسم وهو احتفال شعبي ديني يقابل المولد في مصر ، فمن يزور جامع الفناء بمراكش يجد حلقات مسرحية فردية وجماعية، كما يجد العابا للحواة والمشعوذين يشركون فيها الجمهور ورقصا شعبيا مخلوط بالاداء الفكاهي.
وإن هذه المظاهر سواء اكانت في اوربا ام في البلدان العربية والاسلامية هي بدايات ظهور مسرح الشارع لكن من خلال اطلاعنا على الكتاب قد نجد حرية المسرح عند المسلمين اكبر منها في اوربا التي كانت تسيطر على العروض المسرحية وتحاول ان تجعلها عروضا مبشرة للطقس الكنيسي