للهوية الجمالية تاريخ من الابتكار يؤسس له في شتى أنواع الفعل والقول والنتاج الصوري في العقل الجمعي في الحضارة الإنسانية ،لذا فإن (فريدريك نيتشه) يضع في كتابه (مولد التراجيديا) أشارة لذلك من خلال شخصية (هوميروس) (1) وهو محور هذا المقال الذي يبحث في هذا الجانب الجمالي ومعطياته الفكرية في صناعة مفهوم البطل وجماليات الظهور وتأسيس الهوية في الحضارة الإغريقية ، وما أسس عليه في الحضارة الغربية عامة . وبالعود الى (نيتشه) الذي يرى الآتي : (هوميروس … يبدو وهو مندهشاً وهو ينظر الى الرأس الرائع لآلهة الفن (الميوزات) المخلّصة التي تتقلد الدروع الحربية). وهذه الرؤية المندهشة الملهمة تصنع فعلتها في خيال (هوميروس) في نتاجاته الملحمية المؤسسة للتاريخ الإغريقي البكر ، حسب رؤية نيتشه لـ (هوميروس) المؤسس الأول والمبتكر لأحد روافد الهوية الجمالية الإغريقية.
إنَّ من أولويات البحث في التاريخ القديم الذي أصبح من علامات الابتكار في الفكر الغربي الجمالي ، وما صنعه وأبدعه شاعر رسم خطى التجربة الأولى لتصبح بعد ذلك من علامات التمركز وقصديات السياق العام في صورة البطل في الذاكرة الغربية وغائيته التاريخية ، فـ(هوميروس) ، الذي أبدع (الإلياذة) (2) ، وأختها (الأوديسا)، وجعلهما ” مصدر هام لمعرفة الأسطورة اليونانية ، ونرى الأسطورة فيهما وكأنها قد تكونت وترعرعت وتكاملت أو تكاد في خطوطها الكبرى الجوهرية . وما يضاف إليهما فيما بعد بمثابة التنميق والتوشية والزخرف على ثوب من دمقس فاخر . أما جو هاتين الملحمتين فهو جو حضارة مزدهرة ، جو بذخ وعظمة واقتدار يتجلى لنا عند عظماء وأمراء الإغريق ” (3)، صوّر من خلالهما (هوميروس) صورة هذه الحضارة النواة لمفهوم الهوية الجمالية التي عظّمت من صورة البطولة لديهم ، وخاصة في (الإلياذة) التي جعل فيها البذرة الأولى لصورة البطل المخلّص في البناءات الأولى للهوية الجمالية ، إذ عمل على بناء معطى جمالي أولي في البدايات الشعرية الأولى في ملاحمه على أعتبار أنه عمل على ” التقاط الحساسية الأسطورية البدائية، حيث كانت أحداث الوجود الإنساني تُرى وثيقة الارتباط بالملكوت الأبدي للآلهة ومغتنية به. فالرؤية الإغريقية القديمة كانت تعكس نوعاً من الوحدة الحقيقة بين الإدراك الحسي المباشر والمعنى الأزلي، بين الظرف الخاص والدراما الكونية، بين نشاط الإنسان ودفع السماء. ثمة أشخاص تاريخيون كانوا يعيشون بطولات أسطورية في الحرب” (4) وأصبحت هذه الصورة جزء مهم من التجربة التاريخية التي تحكم العلاقات بين المتصارعين من منطلقات التبرير التاريخي لتأسيس الفكر الكوني في أنتاج هذه التجربة التاريخية وابتكار الهوية الجمالية في الفكر اليوناني القديم ، إذ ” ظهرت المصطلحات الأولى لعلم الجمال عند الإغريق القدماء وفي أشعار (هوميروس) على وجه التحديد . فقد أستعمل (هوميروس) أم التعبيرات الجمالية مثل : الرائع ، والجمال ، والتناسق . فكل ما هو رائع متناسق بالنسبة لهوميروس هو موضوعي واقعي ، يمكن أن يفهمه الأنسان ويلمسه بحواسه ” (5)، والصيغ الجمالية التي حددها هوميروس تعد البداية الاولى في تحديد هوية فكرية جمالية في التاريخ اليوناني القديم ، على أعتبار أن المصطلحات التي أطلقها أسست للفهم الحقيقي الذي يتردد في المستقبل صداه عند فلاسفة إغريق ، فالرائع ، والجمال ، والتناسق من المعطيات التي تحدد المعايير الجمالية في تشكيل صورة البطل في ملاحم (هوميروس) .
إنَّ هذه الملاحم قد رسم فيها (هوميروس) صورة البطل التي ترتبط في أدائيات جمالية أخرى في الملحمة ،إذ “أستعمل هوميروس عبارة (أن أثينا سكبت الجمال على أوليس) . فالفن عند هوميروس هو حرفة ، فهو عندما يتكلم عن الأبداع الفني يفهمه كأنه عمل جسماني منتج ، كحرفة” (6)، وهذا الابداع الفني قد يفهم بمروره بمراحل هي :
• الأولى: الحرفة الجمالية التي عمل (هوميروس) على صياغة أفكاره على وفق الرائع ، والجميل ، والمتناسق في فكره الذي أبدع ملاحم كبيرة صمدت على مر التاريخ أمام كل القبح الذي انتجه العالم على مر السنين ، وأصبح هذا الرائع هو التصور الجمالي عنده من خلال صياغاته الفنية والجمالية في الملحمة .
• الثانية : عمل على صياغة المصطلحات الجمالية في شخصياته البطلة التي انتجت صور جمالية متناسقة بين الشكل والمضمون في الملحمة ، كما في الشخصية التي نتناولها بعد قليل في التحليل الجمالي عند (هوميروس).
• الثالثة : عمل على اضافات مكملة في ملحمته تظهر الجانب الجمالي الذي ركز عليه في الملاحم من خلال الوصف الذي قدمه والذي وصف الأداء الطقسي في ” الألياذة والأوديسا ، وتكلم عن تأثير الغناء والموسيقى في حياة الإغريق . فهو يقص لنا عن المعني (ديمودوك) الذي أثر بأغانيه على حرب طروادة في نفس أوليس فأبكاه ” (7).
• الرابعة : في المعطى الجمالي لدى (هوميروس) وإعادة البناء الجمالي في المخيال الإغريقي من خلال صياغة البطولة في هذه الشخصيات التي تحمل معها التناسب في الصياغة الجمالية في البناء الملحمي . ولو أستعرنا تشبيهات (أرلوند توينبي) في كتابه (بحث في التاريخ) عن أسلوبه الثالث من أساليبه في البحث في التاريخ ، وهذا الاسلوب الثالث الذي يركز فيه على مفهوم (إعادة الخلق) من خلال إعادة خلق صورة البطولة في رسم النظام في اليونان القديمة ، وإعادة أسلوب الرائع والجميل في صناعة شكل الهوية التاريخية والجمالية التي أسهمت فيها صور فنية وشعرية من خلال تشكيل الوعي اليوناني بملاحمه التي من بينها (الإلياذة) ، التي ابدع فيها (هوميروس) البطل المخلّص والذي جعل منه المنقذ في الحرب ضد طروادة ، إذ جعلت من التجربة التاريخية التي يرى فيها المؤرخ أنها قد وقعت في الفترات الاولى من تكوين الدويلات اليونانية ، وقد أعاد (هوميروس) أنتاجها في ملحمة لنسج العلاقات بين الكوائن البشرية .
إنَّ الحرب مع طروادة هي من أجل الزعامة والإخضاع ، والصورة من الصراع الأولي أوجد في الفكر الغربي تجربة متقصدة أبدعها شاعر إغريقي في ملحمته الشعرية ، ولكن المهم فيها البطل المخلّص وصورته التي اصبحت الدائرة الأبرز في هذه التجربة المستمدة من أحداث التاريخ ، ويرى (والتر كاوفمان) في كتابه (التراجيديا والفلسفة): “إنَ هوميروس لم يسرد أحداث السنوات العشر التي استغرقتها الحرب ، ولا حتى أبرز أحداث حرب طروادة ، بل هو يختار موضوعاً وحداً ، هو غضب (آخيل) ، ويقصر قصيدته على زمن محدود بصورة مدهشة . أما الأحداث الواقعة خارج هذا المدى الزمني ، والتي يرغب في طرح فإنه يقدمها من خلال الأحاديث . وكان مبدأ الترتيب الذي نظم به قصته هو الصراع وعلى أوضح المستويات ، فقد تصور الحرب باعتبارها سلاسل من الصراعات” (8) تؤدي الى بناء صور لعملية بناء الشكل الرائع في صورة البطل الذي يؤول اليه الأمور فيما بعد وصولاً الى أنتاج عملية محكمة في شكل وهيئة البطل المخلّص ، ويعمل على جعل الأحداث كلها تدور حول ما يقوم به ، أو ما يريد القيام به تجاه من يعارض مواقفه . ولكن يبقى موقف البطل وفياً لصالح المرجعيات العليا التي تتحكم بالصيغ العليا للدولة وليس تجاه مقتضيات المعايير أخرى خارج هذا الفكر ، بل إنَّ توجهات (أخيل ) عند (هوميروس) من أجل المصالح العليا لليونان ، والذي سيصبح فيما بعد المتمركز الأساسي والمهم في إنتاج وإعادة خلق صورة لتجربة تاريخية متقصدة في الوعي الغربي وهويته الجمالية في هذا المجال . ويمكن أن نؤشر أن (هوميروس) هو صورة للفنان الباصر ومن المساهمين في إنتاج هوية مبتكرة في تجربته الملحمية ذات البعد القصدي في تأسيس وعي جمالي غربي يعمل من أجل المصالح العليا للدولة ولكن على وفق المبدأ وبناء ميتافيزيقيا قائمة على مرجعيات التمركز الجمالي في الثقافة الغربية ، قد الهمها قراء هذه التجربة في إيجاد البعد في الذات الغربية . فالفنان في هذه المسألة أصبح من الذين ابتكروا واجتهدوا في إعادة خلق التجربة بطريقة تفعّل النواة الأولى للذات المتمركزة حول البعد التاريخي للهوية الثقافية والجمالية الغربية وللغائية التاريخية من ورائها . وهذه التجربة التاريخية في الصراع مع (طروادة) وإعادة خلق الصراع في (الإلياذة) جعلت من هذا الفكر يركز في صياغة الهوية ذات البعد المعياري القائم على صورة التكامل في انتاج البطل وفي ابتكار الذات المتمركزة على صورة البطل المخلّص ، الذي يظهر في وقت يراد منه أظهار الانتصار والقوة والسيطرة على الآخر المهزوم .
إنَّ التركيز على إعادة خلق البطل المخلّص في الملاحم اليونانية القديمة ، تعد عملية تتمحور حول فكرة إنتاج ذات قوية تعيد للماضي أمجاده في صياغات جديدة تشكل النواة الأساسية للبعد المفاهيمي للمعطى الجمالي ، وبناء صورة مكملة تنطلق من بطولات الماضي ذات البعد الحضوري في دلالة تعمل على إعادة أنتاج الوعي بذلك التاريخ والتذكير به متى ما ضعف في الذاكرة الجمعية اليونانية، أو بث ظهوره المتكرر للماضي في صورة البطل الفردي القاهر الذي أصبح ملهماً للجماعة في ظهور ثاني وبروز هذه الجماعة التي استمدت من البطل حضورها . ويعني إعادة خلق (آخيل) على مستوى الذات الجمالية المؤسسة ، هو ذات بعد دلالي في البناء القصدي في الفكر الغربي وميتافيزيقياه المتمركزة في الذاكرة ذات البعد التوليدي للبطل والبطولة في مراحل أخرى متقدمة . بحث (هوميروس) عن معاني معينه في بطله وفي ما يقدمه للإغريق في ذلك العصر ليشكل من خلالها هوية خاصة لصورة البطل من خلال معايير خاصة بالصورة الملحمة لديه ” فقد أستخدم تعبير الرائع ، التناسق ، الجمال ، ففي رأيه كل ما هو جميل ومتناسق ورائع هو واقعي يستطيع الإنسان أن يفهمه ويلمسه بحواسه ، فالفن عنده حرفة ” (9)، توظف لهذا الفهم في التكوين الجمالي للهوية في بعدها التاريخي وغائيتها في المقصد لمراد اظهاره فيما بعد في التمركز الغربي .
الهوامش
1. (هوميروس) ابن (كريثيس) ابنة (ميلانوفوس)، ولدته أمه على ضفة نهر (ميليس) في ضاحية (أزمير) ودعته ميليسا (جينيس) أي : ابن النهر (ميليس) ، رباه (فيميوس) زوج أمه وتعهد بتعليمه حتى كبر وبعد موت (فيميوس) ورث (هوميروس) المدرسة التي كان يملكها (فيموس) فأصبح معلمها الأول ، حتى ذاع صيته بين أهاليها وأصبح من المعروفين فيها ، ومن مؤلفاته ملحمتي (الإلياذة والأوديسة). ينظر: سليمان البستاني : مقدمة ملحمة الإلياذة : هوميروس : الإلياذة ، ترجمة : سليمان البستاني ، القاهرة : كلمات عربية للترجمة والنشر ،2011،ص14.
2. (الإلياذة) أو (الإلياس) تنسب الى (إليون) عاصمة بلاد (الطرواد) ، وهي ملحمة وضعها (هوميروس) تناولت موضوع واحد هو (غيظ آخيل) ، وفي مجمل القصة كان في جملة السبايا فتاة جميلة وقعت في سهم (آخيل) فانتزعها منه (أغاممنون) وهو ملكهم وأستخلصها لنفسه فعظم الأمر على (آخيل) وكاد يبطش بـ(أغاممنون) لولا أن (أثينا) إلهة الحكمة هبطت من السماء وصدَّته قسراً ، وأعتزل (آخيل) القتال هو ومجموعته ، بالحرب الدائرة بين الإغريق والطرواد ، فاشتدت المعارك بين الطرفين حتى كاد الطرواد ينتصرون على الإغريق ، فأرسل الإغريق وفودهم لاسترضاء (آخيل) فما زاد إلا عتواً وكبراً ، فوقعت هيبة (هكتور) زعيم الطرواد وابن ملكهم (بريام) في قلوب الإغريق ، ومازال الغلبة للطرواد عليهم . فكان لـ(آخيل) صديق حميم هو (فترقل) فتى جمع بين كرم الخلال وبسالة الأبطال صحب (آخيل) في معتزله ، فألح على (آخيل) من أجل الإشتراك في المعارك ، ولما اشتدت الأزمة على الإغريق وكاد (هكتور) ورجاله يقضون عليهم ، وافق (آخيل) على أشتراك صديقه في الحرب وبعد أن نصرهم وكاد يهزم الطرواد أستطاع (هكتور) من قتل (فترقل) ، فعلم (آخيل) بموت صديقه فأزداد حزناً وقرر أن يشترك في الحرب ، حتى قتل (هكتور) وأذل الطرواد وملكهم (بريام) وأنتصر لدم صديقه وللإغريق منهم . ينظر: سليمان البستاني : مقدمة ملحمة الإلياذة : هوميروس : المصدر نفسه ، ص 30 ،ص32.
3. الأب فؤاد جرجي بربارة : الأسطورة اليونانية ، دمشق :الهيئة العامة السورية للكتاب ، 2014، ص 12.
4. ريتشارد تارناس : آلام العقل الغربي / فهم الأفكار التي قامت بصياغة نظرتنا الى العالم ، ترجمة : فاضل جتكر ، أبو ظبي : كلمة ، 2010، ص40.
5. م. أوفسيانيكوف ، ز. سميرنوفا : موجز تاريخ النظريات الجمالية ، تعريب : باسم السقا ، بيروت : دار الفارابي ، 1975، ص11.
6. نفسه ، ص 11.
7. نفسه ، ص 11، ص12.
8. والتر كاوفمان : التراجيديا والفلسفة ، ترجمة : كامل يوسف حسين ، بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1993، ص159،ص160.
9. الدكتورة غادة المقدم عذره : فلسفة النظريات الجمالية ، بيروت :جروس برس، 1996، ص39.