الواقعية النسوية والهيمنة الذكورية / الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

عندما تقرأ كتاب ( نيكروفيليا بشريط ملون) وهو مجموعة قصصية للكاتبة العراقية (ابتهال بليبل) ، والصادر من (منشورات أحمد المالكي) 2019، تشعر أنك أمام تصورات من الواقعية النسوية، ومثالية الهيمنة الذكورية تجسدت في نصوصها التي تتجاوز فيها المرأة نفسها وتنسى بأنها امرأة جراء الذكورية المهيمنة ، فالكاتبة ترى بأن هذه القصص هي” قصص موجعة ومشاهد مزعجة ، مشاهد ترابية لا تبرح الذاكرة ولا تغادر البال “(1) .
أذن ، ما هو تصور للذاكرة عند الكاتبة في قصصها ، وما هي كمية الوجع الذي يعتريها في كونها تفقد أهم سمة للمرأة وهي (الذات النسوية) في قصصها الموجعة ، فالذاكرة عادة ما تتكون من الممارسات التي تميز الجنس البشري ، الذي يمر بها الفرد حتى يكون ذا قيمة انسانية ويحافظ على انسانيته من خلال التجارب التي يكتسبها في حياته ، أي أن الفرد يعمل على تهذيب تجاربه الحسية والعقلية من كل ما حفل بها من ظروف لا تتلاءم مع تكوين شخصيته ، من أجل الظهور الى العلن بشخصية تكاد تكون مكتملة في نظره عن طبيعته الجنسية ، لذا فأن علماء النفس يرون أن للذاكرة أهمية في تشكيل هذه الشخصية عند الفرد في مجتمع ما ، إذا كانت الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يواجهها الفرد هي ظروف طبيعية في بلد ما ، وكذلك يرى الفيلسوف الفرنسي (بول ريكور) ، أن الذاكرة هي ما يمثله الماضي من صور ، التي تشكل قيمة حضورية عند استثارتها وهي لا تأتي الا في سياق خاص ابعد من اللغة العادية أو التمثيل البسيط ، فهي يمكن أن ترتبط بالخيال الذي يعده في أول وأبسط سلم المعرفة ، لذلك فهو يقول “إن الحضور الذي يشكل قوام تمثيل الماضي يبدو أنه حضور صورة . فنحن نقول بلا تمييز بأننا نتمثل حدثاً ماضياً، أو إننا نتصوره أي عندنا صورة وهذه الصورة يمكن أن تكون شبه بصرية أو سمعية “(2).
لكن السؤال الذي تثيره الكاتبة في قصصها والذي يتمثل بالاتي : هل المرأة قد تحولت بفعل المأساة الى فاقدة للذات النسوية ، ومتحولة الى شبح امرأة تكاد تنسى أنها تنتمي الى عالم الانوثة ؟ الجواب لا يأتي في كون الكاتبة قد تناولت مأساة النساء في زمن الحرب ، أو في ومن الكوارث ، أو غيرها ، بل أن الكاتبة تريد أن تبين الخلل الذي جعل المرأة قد فقدت ذاتها ،أي أنها أنثى ، قد يكون السبب في طبيعة تكوينها في المجتمعات الشرقية ، وهذا ما يثيره بعض من عناوين القصص لدى الكاتبة ، ومنها ( عندما تنسى المرأة نفسها )، و (فتاة الترويح )، و(تأنيث الذكورية).
في القصة الأولى تسرد الكاتبة في جزء منها عن نساء يسكن العشوائيات بسبب الحروب الطائفية فـ” قصة ابتسام ليست جديدة أو وحيدة في العراق إذ تتحدث غالبية النساء مثلها بسبب أوضاع البلاد التي أجبرتهن على إعالة أسرهن نظراً لفقدان كثير من الرجال “(3) ، وهنا تريد الكاتبة أن تذكر بأن القوانين الشرقية هي من كسرة روح الانوثة في شخصية ابتسام عندما تمثلت بسيطرة الرجل في زمن السلام على هذه الروح ، ولم تعطيها خيارات أخرى في زمن الحروب الملعونة مما جعلتها تنسى نفسها في مثل هكذا ظرف لصالح حياتها الجديدة في مواجهة المخاطر منفردة، وهذه الجزئية في موضوع حرية المرأة في أزمان الحرب والسلام تعاملت معها ” معظم قوانين الأحوال الشخصية العربية مع المرأة على أنها قاصر وغير كاملة الأهلية سواء بلغت سن الرشد أم لم تبلغه ، وعلى ذلك فلابدّ لها دائماً من ولي قد يكون زوجها ،أو والدها ،أو أخوها ، أو حتى أبنها “(4) ،لذلك فأن في هذه القصة التي تسردها لنا الكاتبة تشير لنا الى طبيعة ضياع الأنوثة الذي يواجه المرأة في حال فقدت كل شيء وتحولت الى دور أخر لم تتعود عليه في مثل هكذا ظروف، وهنا السرد تقدمه لنا الكاتبة بأسلوب صحفي كون عمل الكاتبة (ابتهال بليبل) الصحافة والتحرير الخبري في جريدة الصباح الحكومية مما جعل هذه الصفة تنعكس بصورة واضحة في بعض قصصها ومن ضمنها هذه القصة التي تعود الى شكل المشاهدات الصحفية ،أو المقابلات مع نساء الحدث المباشر للظرف الراهن في العراق.
وفي قصة الثانية (فتاة الترويح ) التي تسرد لنا الكاتبة من خلال الأنثى الساردة في مخيلة الكاتبة، والتي هي تقترب الى الواقع في بعض الأحيان والذي يتوضح بأسلوبها السردي الصحفي ، فالخيال هو من بنيات رغباتها ، والإفصاح بواقعيته هو من متبنيات عملها الذي يتمظهر في بعض جزئيات الموضوع وطريقة تناوله ، فهي تقارن بين الأنثى في الآخر الغربي ، وبين الأنثى وتصوراتها في الرجل الشرقي ، فعارضات الأزياء المحليات لابدّ من أن يتخلين عن بعض من طباعهن في هذا الفن والمهنة الجميلة لصالح العادات الشرقية ، التي يظهر بها الرجل الشرقي صرامته الظاهرة فيها ، لكنه يفضح نفسه في تلصصاته المخفية بين حركات التسيد والذكورية ، وتعود الكاتبة الى طريقتها في الأستماع الى الشهادات الواردة من اللواتي فقدن الشعور بطبيعة الأنثى أمام هكذا طبائع شرقية ، فتقول الكاتبة عن أحداهن: ” وقد روت ليّ فتاة موديل عراقية من أنها تعيش كأنثى لها حرية في أن ترتدي ما تشاء وهي تشعر بتحقيق حلمها على الرغم من أنها تعاني كثيراً من قسوة الانتقادات والمضايقات. فليس بإمكان اللواتي يعملن موديلات لمحلات الألبسة النسائية المحلية التحرك بحرية دون تلصّص الزبائن والمارة وما يطلقون من عبارات قاسية ، وكأنهن على موعد لمعاقبتهن والاعتداء عليهن. في الواقع ليس بوسع الانثى في مجتمعاتنا أن تكون موديلاً”(5).
وفي القصة الثالثة والأخيرة التي نأخذها كمثال عن فقدان فضاء الأنوثة لصالح ذكورية مسيطرة حتى في طبيعة تكوينها النسوي ، والأنثى في قصتها الثالثة (تأنيث الذكورية) ، تفقد فيها النساء التحكم بهذا الفضاء الخاص والذي هو مجالهن السرمدي الذي يتحركن فيه بمشاعرهن وأحاسيسهن ، كونه فضاء إن شائن أصبح مغلق لهن ، وإن قبلن أصبح فضاء مشترك مع غيرهن ، حتى هذه الميزة تراها الكاتبة بأنها منتهكة لصالح الذكورية ، والتي أطلقت عليها الكاتبة تأنيث الذكورية التي تحاول أن تخترق حرية فضاء الانوثة ، لذا فهي تصور هذا التهجين الجديد ولكنه هذه المرة تهجين الى الداخل يتضح فقط في فضائهن ، إذ تقول الكاتبة : ” ثمة أمور تحدث من دون إقناع ، أو نهي وتكاد تكون غير مفهومة أساساً .. إذ كثير ما تدفعنا أشارات خفيفة ، مبهمة في مكان ما الى توجهات أو مشاعر لا إرادية . هناك تحول : امرأة تتواجد بين الرجال ، بأفكارهم ومعتقداتهم ، وهذا التحول لابدّ وأن يفرض على كل رجل منهم الخروج من مملكته الى مملكتها ،أو محاولة إدخالها عنوة الى مملكته . ثمة تحولات لا شأن لها بالتابوات والتمييز الجنسي والمحرمات والخطوط الحمراء والممنوعات العشائرية “(6).
الهوامش
1. ابتهال بليبل : نيكروفيليا بشريط ملون ، ص5.
2. بول ريكور :الذاكرة ، التاريخ ، النسيان، ص33.
3. ابتهال بليبل : المصدر نفسه ،ص29.
4. حسين العودات : واقع المرأة العربية ، ص93.
5. ابتهال بليبل : المصدر نفسه ،ص103.
6. نفسه ،ص152.

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *