الوعي والتاريخ/الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

إنَّ للتاريخ تحديدات مختلفة هي من جعلت التمايز في النظرة اليه تستند الى اختلاف الرؤى الفكرية والفلسفية وغيرها التي نظّرت له ، ومن ضمن الرؤى التي خاضت فيه هي رؤية (أبن خلدون) الذي عرفه في مقدمته بأنه : ” خبرٌ عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم ، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال ، وما ينشأ عن ذلك من المُلك والدول ، ومراتبه ، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وما سوى ذلك “(1). إنَّ هذا التجمع الإنساني وعمران العالم والتدوينات الأجتماعية والسياسية والمعاشية وصنائع البشر هي رؤية عامة للتاريخ ، وكأن (أبن خلدون) في هذا التحديد للتاريخ يريد أن يوضح أن كل شيء يقع ويدوّن على شكل أخبار وغيرها يسمى تاريخاً سواء أكان خاصاً بدولة ،أو مُلك ، أو حالة معيشية معينة ، أي أن كل الأشياء الكبيرة على مستوى الدول والملوك هي تاريخ ، والأشياء اليومية وتفاصيلها من معيشه وصنائع وغيرها هي أيضاً تاريخ ، وما بينهما من علوم وفنون وغيرها هي أيضاً تاريخ ، حتى وأن أختلف حجمها وما تقدمه من أحداث قد تكون مهمة ،أو غير مهمة، ولكن بشرط أن تدوّن على شكل معلومات منقولة بشكل مباشر ،أو غير مباشر ، ولكن الضمان الوحيد أن تنتقل الى المستقبل على شكل أخبار. وفي تصور أخر لـ(أبن خلدون) عن التاريخ يراه بأنه فن ” من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال ، وهو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول ، والسوابق من القرون الأولى ، تنمو فيها الأقوال ، وتضرب بها الأمثلة ، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال ، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال ، وأتسع للدول فيها النطاق والمجال ،وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق ، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق “(2). ويتسع استغلال فهم التاريخ عند (أبن خلدون) في هذا التحديد الثاني، ويدخل في مجالات أوسع من تدوين الأخبار فقط ، بل حتى يدخل في روايته في الأندية ذات الأحتفالات التي يروى فيها التاريخ بوصفه رواية من أجل الابتسامة ،أو العبرة المستخلصة من حال الأمم والشعوب الماضية ، وشؤون الخلائق وكيفية تقلبها وأتساع حجم الدول ، ويدخل فيه أيضاً مجال التحقيق والتعليل في الكائنات وعلم بالكيفيات والوقائع . فالتاريخ حسب رأي (أبن خلدون) يأخذ مدى أوسع من حيث الإستخدام التقليدي ،فهو (خبر ، رواية ، متعة ، تحقيق، تعليل ، عبرة ، وحكمة) وغيرها مما يقدمه للاإنسانية عامة .
أما (توينبي) يرى بأن التاريخ يشير الى ما دوّن في حياة الأمم ، أي يعنى بـ ” تاريخ الأمم وغيرها هو ذكر نشأتها وتطورها وآثارها ، فهو العلم الذي يبحث في حياة الأمم والمجتمعات والعلاقات التي تقوم بينها”(3).ويرى التاريخ بأنه العلم الذي يبحث في حياة الأمم ، وليس تدوين لأحداثها فقط ، وكأن تعريفه يشير الى هذا التدوين أضافة الى القراءة لهذا التدوين والبحث فيه ويقع ضمن دائرة التاريخ ،فذكر الأمم ونشأتها وتطورها وآثارها ،فكل هذه التفاصيل تدخل في إطار العملية التاريخية بما في ذلك المفهوم المقابل لهذه العملية ، لا بل عملية تحويل البحث في هذا المجال الى علم يهدف الى كشف ما دوّن عن حياة الأمم.
أما (عبد الله العروي) يرى بأن التاريخ ” مجموع عوارض الماضي حاضرة بأخبارها (آثارها) وفحص تلك الأخبار عملية تنجز دائماً في الحاضر . التاريخ حاضر بمعنيين ، بشواهده وفي ذهن المؤرخ . كثيراً ما نقرأ : لا بد من مقارنة الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي ، ولا نتعجب . ونستخلص منها أن معرفة الماضي دائماً نسبية ، وإذا تستجيب لمتطلبات الوضع القائم ، وأنها دائماً عملية ،إذ تجيب عن أسئلة حالية ، لكن المقولة التي نحن بصددها تذهب أبعد من هذا . معناها أن الماضي التاريخي هو عالم ذهني ، يستنبط في كل لحظة من الآثار القائمة ،أو بعبارة أخرى : موضوع التاريخ هو الماضي الذي هو حاضر . المقصود هنا ليس تمام الماضي وإنما الماضي التاريخي، أو ما أسميناه بالتاريخ المحفوظ “(4) .
إنَّ رؤية (العروي) تشير الى معنى التاريخ فيها عدد من النقاط المهمة تميزه عن غيره من الاختصاصات الأخرى ،على أعتبار أن الماضي هو الحاضر وكذلك العكس ، وهذه النقاط هي :
• ليس كل ما يقع في الماضي من أحداث يومية مكررة ومملة تدخل في مجال التاريخ ، بل التاريخ مجموعة العوارض الماضية التي تؤثر بآثارها المهمة ، وآثارها من تشكل الوعي في أثناء حدوثها واستمراريتها ، وتعطي لحضورية الماضي في الحاضر أنطباعاً خاصاَ عن الحوادث.
• إنَّ من مميزات حضور الماضي في الحاضر هي المقارنة التي من الممكن أن تستدعي أي حادثة ، أو موقف من الماضي يتطلب وجوده في الحاضر ، كون الحاضر مقارب للماضي من حيث القيمة البنائية في تشكيل الحدث الذي يتطلب أتخاذ المواقف نفسها ، أو ما يقاربها لحل قضية ما ، أو أتخاذ من الطريقة التي تم فيها أدارة هذه القضية في مجال نسقها الدلالي المقارب للماضي وأحداثه .
• لا توجد حادثة عامة تغطي كل التاريخ البشري ، لكن كل الحوادث والعوارض نسبية من الممكن أن تقع قياساً لفئة ما ، أو شعب ما ، أو أمة ما تضم مجموعة شعوب في قارة واحدة أو قارتين . والحادثة قد تقع في زمن ما لا يمكن أن يستمر الى مالا نهاية ، بل الحادثة تقع في زمان ومكان محددين ، والحوادث النسبية تدخل في قضايا نسبية أيضاً من الممكن أن تتكرر بنسبيتها أيضاً في المستقبل ،لذلك فهي تبقى على نسبيتها سواء أكانت في الماضي ، أو في الحاضر.
• يرى (عبد الله العروي) أن الماضي عالم ذهني ، والذهنية قائمة على استنباط الماضي وأحداثه في الحاضر ، أي من الممكن أن يستثمر الماضي الذي هو حاضر بذهنية من يريد أن يأخذ منه لأجل المقارنة ،أو المقاربة بحادثة ما ، أو موقف ما ، وهذا المحفوظ الذي ليس فقط في المدونات الورقية ، أو التقنية (الالكترونية) كما في الوقت الحاضر ، ولكن الوعي الذي يستدعيه له حضوريته أيضاً في تقديم المقارنة أو المقاربة من خلال حضورية الماضي أيضاً.
كذلك يأتي التاريخ بمعنى أخر قد يكون مكمل للتعاريف السابقة أذا اتفقت الرؤية بين المفكرين والفلاسفة ، أو يأتي بمعنى مغاير للمعنى الأول ، وكل اختلاف يعطي مساحة أوسع من التفكير بهذه المفردة المهمة التي تبتلع في داخلها كل حدث يحدث أو واقعة مهما كان حجمها وأهميتها . فالتاريخ يعد من المجالات التي يجب أن تأخذ معناها في الدراسات كون مفردة التاريخ تعطينا الأستمرارية في الفهم للأبعاد الإنسانية والتجارب كافة ، ويعد ” التاريخ أيضاً علم يبحث في الوقائع والحوادث الماضية (…) إلا أن بعض المؤرخين يقتصر على ذكر الأخبار والوقائع من دون أن يذكر أسبابها ، وبعضهم الآخر يأبى الاقتصار على التعريف بالحوادث الماضية ، فيمحص الأخبار ، ويعلل الوقائع ، ويستبدل بالتسلسل الزماني ترتيباً سببياً يرجع فيه الحوادث الى أسبابها ، والوقائع الى أحوالها . فإذا جعل المؤرخ همه تمحيص الاخبار ، ونقد الوثائق والآثار ، كان تاريخه انتقادياً ، وإذا أستخرج من ذكر الأحوال الماضية عبرة تتم بها فائدة الاقتداء لمن يروم ذلك في تربية النشء كان تاريخه أخلاقياً ، وإذا عني بأخبار الدول وعلاقاتها بعضها ببعض للإفادة منها في تدبير الدولة كان تاريخه سياسياً ، وإذا تجاوز ذلك كله الى تعليل الوقائع ، لمعرفة كيفية حدوثها ، وأسباب نشوئها ، كان تاريخه فلسفياً “(5) .
أما في التصور الفلسفي للتاريخ ، يرى الدكتور (جميل صليبا) بأن التاريخ ما يقع في وقته وينتهي بغايته ، وهنا يشير الى الوقائع التي تمتد لغاية معينة على الرغم من أن الغاية قد تستمر أكثر وقت من زمنها الفعلي من حيث تحقق غايتها التي لا تلتزم بوقت محدد وخصوصاً إذا كان الحدث أكبر من أن يخص جانب معين ، ومثال ذلك الثورات الكبرى في التاريخ التي امتدت الى أبعد من زمنها وكان تأثيرها أوسع من لحظة وقوعها وانتهائها ، مثل الثورة الفرنسية ، وغيرها من الأحداث الأخرى .
الدكتور (جميل صليبا) يعطينا أربعة أشكال من التاريخ وكل وحد منهم حسب نوعية العمل الذي يقوم به المؤرخ ، وكالآتي:
1. التاريخ الانتقادي: قائم على تمحيص الأخبار وتعليلها والبحث في سببيتها ، ونقد وثائقها ، ويبحث في ترتيبها السببي حتى يصل الى نقد مهم ومعبر للفترة الزمنية التي وقعت فيها الأحداث ونقد أثارها .
2. التاريخ الأخلاقي: قائم على الأهتمام بأحداث نستنتج منها العبر وتفيد الأجيال وتربيتها من خلال الحصول على القيم الأخلاقية من هذا التاريخ .
3. التاريخ السياسي : قائم على الأهتمام بالأخبار التي تهم الدول وعلاقاتها على المستويات الخاصة على وفق مصالحها السياسية ، والعمل على تفحص العلاقات السياسية بين الدول .
4. التاريخ الفلسفي : قائم على البحث في علل حدوث الوقائع التاريخية وأسباب نشوئها ، من أجل الوقوف على مسبباتها ودراستها ، أي أرجاع كل حدث الى أسبابه في طور البحث في ماورائيات الأحداث.
ينطلق التساؤل على وفق هذه الأنواع الأربعة وهو : ألا يمكن أن نظيف أيضاً أنواع أخرى مثل التاريخ الاقتصادي ، من خلال البحث في الوقائع الاقتصادية الماضية وتطورها وتنوع أسبابها التي أدت الى ظهورها وتأثيرها فيما بعد على الحركة الأقتصادية في أمكان من العالم ؟ . أو نقول أن هناك تاريخ علمي في مجال التخصصات الطبية، أو الهندسية ،أو الرياضيات وغيرها مثلما أصبح لكل اختصاص تاريخ معين يبحث في مجال التخصص ووقائعه؟ . أو نقول أن في مجال السياسة نفسها يوجد تاريخ يتناول البعد السياسي للرأسمالية ، وآخر يتناول التاريخ الماركسي .
إنَّ هذه التساؤلات وغيرها التي تفتح المجال أمام البحث في مجالات مختلفة على المستوى الأكاديمي والدرس العلمي في الجامعات، حتى أن هناك تخصصات في التاريخ ذاته ، مثلاً هناك من يدرس التاريخ القديم ،أو الحديث في مجالاته وميادينه المختلفة ، لكن يبقى هدف الدكتور (جميل صليبا) هو في وضع أسس على وفق معجمه الفلسفي لتعريف كلمة تاريخ وأهم الأنواع التي من الممكن أن يدرس من خلالها في مجالات أربعة نستطيع أن ندخل في مداخلها أنواع أخرى من التاريخ المعني بهذا التخصص ،أو ذاك .
المصادر
1. د. عبد المنعم الحفني : المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة ، القاهرة : مكتبة مدبولي ، 2000،ص 176.
2. د. زينب محمد الخضري: فلسفة التاريخ عند أبن خلدون ،بيروت : دار الفارابي ، 2009،ص 54.
3. د . عبد المنعم الحفني :نفسه ،ص 176.
4. عبد الله العروي : مفهوم التاريخ ، الدار البيضاء : المركز الثقافي العربي ، ط4، 2005، ص38.
5. د. جميل صليبا : المعجم الفلسفي ، بيروت : دار الكتاب اللبناني ، 1978، ص 227.

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *