إنَّ مفهوم الوعي الماهوي الذي يتشكل في المعنى عن الوجودات والموجودات وآثارها الواقعية فهو يأتي من كونه ادراك لشيء ،أو تشكيل عملية فكرية مرتبطة بالإدراك ، إن من يفكر في هذه الحالة فأن فكره يشير إلى شيء وماهوية هذا الشيء تأتي من عملية داخلية ناتجة من التفكير وموضوع التفكير ،أي عن طريق عملية الاعتماد المتبادل بينهما في تشكل ما هو ماهوي في داخل الذهن لذا فأن الوعي بشيء أو ماهية الوعي يأتي تكوينها في هاتين العمليتين التفكير وموضوع التفكير وما ينتج عنهما من مساحة فكرية لماهوية الاشياء في الذهن (1) بوصف الوعي في حد ذاته هو ” كل ما نقوم به من يكون لدينا معرفة مباشرة به فهو لا يرتبط فقط بقدرتنا على أن نسمع ونريد ونتخيل؛ بل حتى أن نحس لأنني عندما أقول بأنني أرى وأمشي ،أو أستدل على أنني موجود ، أو اتحدث عن حركة عيني ،أو رجلي ” (2) لأن كل ما تقوم به هو يشكل جزء مهماً في تشكيل الوعي ومساحاته التي تزداد كلما تناغمت عملية التقدم والتداخل بطريقة ايجابية بين التفكير وموضوع التفكير وإن تعددت الموضوعات فأن عملية التفكير تتعدد تبعاً لذلك .
إنَّ مفهوم الوعي وتشكلاته المعرفية المنطلقة من العملية التبادلية في كون أن الانزياح نحو الموضوع الذي هو أساس انطلاق للمعنى الذاتي الماهوي للوجودات كصور حسية متحولة إلى افهام مجردة من الممكن أن تعطينا دلالات ومؤشرات على ما يحيط بنا من عوالم نفهمها ونحاول صياغتها بشكل جديد، إذ أن هذه الصياغات لم تأتِ مقدماً من دون أن نستوعب ما تشكلت منه ،أي ما بثت من خلاله فيداخل الوعي من صور وماهيات لهذه الصورة في بعدها الوجودي الذهني وما يقابلها في العالم . إنَّ الوعي يكون وعي بالشيء ذاته لا من دونه ، وإذا كان بذات الشيء فأن الوعي بشيء هو ما يدفعنا إلى العالم الخارجي ،أي ” نحن نتوجه إلى العالم الخارجي توجهاً طبيعياً ودون أن نتخلى عن الموقف الطبيعي فننجز تفكيراً نفسياً على (أنا) وتجاربه المعيشة سنغوص تماماً كما علينا أن نفعل لوكنا لم نسمع قط عن شيء فننسب إلى النوع الجديد من المواقف في ماهية ( الوعي بشيء ) الذي نعي فيه على سبيل المثال وجود الأشياء المادية والأجسام الحية والبشر ووجود الأعمال الأدبية إلخ … ونتبع مبدأنا العالم القائل: إن كل الوقائع الفردية لها ماهيتها التي تقبل التصور” (3)، وهذا لا يعني فقط الفردية؛ بل أيضاً يوجد وعي لدينا بما هو أعم وأشمل من ذلك كما هو في الوجود والبحث بما هو أبعد من العالم المعاش في ذلك المجال لأن الوعي لا ينطلق من بناء كيانه في داخل الانسان كمعرفة يستند عليه في تشكيل مفاهيم الاشياء واستخداماتها؛ بل يذهب إلى البحث والصياغة في ماورائيات الأشياء انطلاقاً أيضاً من الأشياء ذاتها ولي من ورائياتها ومن ثم إليها إلا أن العملية من أجل أن تكون منطقية في البناء العقلي والتصور الذهني للأشياء لا بد من البحث في الأشياء ثم إلى ما ورائها حتى ننتج معرفة يكون فيها جانب اليقين مهم في اثبات ذلك .
إنَّ موضوع الوعي أخذ تفسيرات ومسميات عدة، بحسب التوجهات الفكرية والفلسفية لهذا المفهوم واستخداماته في المدارس والمذاهب الفكرية، إن الوعي لا يعبر فقط عن عمل الفرد؛ بل حتى عن عمل الجماعة التي تشترك في توجه فكري وعقائدي، أو حتى مبدأ من المبادئ السلوكية؛ بل يأخذ مدى أوسع قد يعبر عن فكرة ايديولوجية، مثلاً الماركسية التي ترى فيه ” أعلى أشكال انعكاس الواقع الموضوعي وهو كامن في الانسان وحده، والوعي هو المجمل الكلي للعمليات العقلية التي تشترك ايجابياً في فهم الانسان للعالم الموضوعي ولوجوده الشخصي ويرجع أصله إلى العمل وإلى نشاط الناس الانتاجي والاجتماعي ” (4) ، وهذا ما يفسر بأن الوعي المرتبط بالعمل هو الأصل الذي ينطلق منه نحو الانتاج والبناء الاجتماعي بحسب النظرة الانعكاسية القائمة العالم الموضوعي، وكذلك فأن الوعي في فلسفات أخرى كما عند (جون لوك) بأنه حساً داخلياً، أما (وليام جيمس) يعده غير داخلياً في العلاقة القائمة بين الذات والعالم.
أما في علم النفس فهو يرجعه إلى العمليات العقلية التي يقوم بها الانسان لفهم العالم بما فيه الانسان ذاته، أما على المستوى الجمعي فهو يرتبط بالتفكير والإحساس الذي يوجه أفراد الجماعة، أو المجتمع، وكذلك فأن المفهوم الديني للوعي يرتبط بالعلاقة التي تتحصل من خلالها ادراكات نفسية قائمة على معرفة الخالق (الله جل وعلا) (5) .
وبالانتقال إلى آخر المفاهيم التي نسعى إلى استيضاحها في هذا المجال هو المعنى، فما هو المعنى؟ وكيف يتشكل في داخل الوعي الإنساني؟، فالمعنى اصطلاحياً هو” ما (تعنيه) ما تبلغه كلمة ما توصله إلى الفكر عبارة أو أية علامة أخرى تؤدي وظيفة مماثلة ” (6)؛ فهل هذا الذي تبلغه الكلمة، أو أية علامة أخرى يتشكل على شكل صورة ذهنية؟، أو مفهوم له دلالة معينة ومحددة في الفكر الفردي أو الجمعي، ويتميز بمزية خاصة عن جماعة ما، أو عند شعب، أو أمة يدخل فيها شعوب مختلفة. وفي تحديد آخر للمصطلح يرى بأنه ” الصورة الذهنية من حيث وضع بإزائها اللفظ ويطلق على ما يقصد بالشيء، أو ما يدل عليه القول، أو الرمز، أو الإشارة، ومنه دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي، أو المجازي ودلالة القول على فكرة المتكلم ودلالة اللافتات المنصوبة على الطريق في اتجاه السير ودلالة السكوت على الإقرار ودلالة البكاء على الحزن ” (7).
إنَّ المعنى هنا يشير إلى ما يتشكل في الذهن، أو الوعي من صور ذهنية قد تكون ناتجة عن معنى حقيقي كاتجاه السير ودلالة العلامة، أو مجازي وما بين الحقيقي المادي، أو الوجود المادي الظاهري وبين المجازي الذي يشير إلى فكرة ما، أو إلى صورة ذهنية قد لا تأتي من الشيء المادي، إنَّ المعنى الحقيقي يأتي في مفهوم استخدام الكلمة بمعناها الأول، أي المتداول عن الشيء ذاته، وهذا التداول هو شائع ومعناه بسيط جدا، أما المجازي فأنه يشير إلى ما ينتج من علاقات ومفاهيم مجردة عن الصورة الواقعية، وحتى في هذا المجال فإن المعنى المتشكل من هذه العلاقات المجردة يصبح ذات قيمة في التشكيل إذا استمد حضوره في الوعي الانساني من الصور المادية أو العالم الوجودي الحقيقي لكن بفعل الانتقال وتكوين العلاقات المجردة يتشكل معنى مجازي منها لذلك الشيء الواقعي (8).
إنَّ المعنى يأتي على جانبين إما ذاتي وهو ما يرتبط بمجموعة من الاحاسيس والصور الذهنية الشخصية، التي ترتبط بلفظ معين متماشيًا مع هذه الصور الذهنية ومرتبطاً أيضاً بعملية فهمية وتواصلية، بين المتكلم والمستمع، أما الجانب الآخر فهو الجانب الموضوعي، الذي تدل عليه ما يرتبط به من ألفاظ ومعانٍ ثبتها الوضع والاصطلاح، واثبت وجودها الاستعمال الواقعي، مثلاً ما ثبت في المعاجم والقواميس والكتب العلمية وغيرها (9).
والمعنى كلمة مفردة وجمعها معانٍ وتأتي أيضاً على صيغتين هما ” المعنى المعرفي cognitive meaning هو المعنى العلمي، أو الواقعي factual m. والمعنى الانفعالي motive m. وهو من مفاهيم الوضعية المنطقية حيث يميز فلاسفتها بين المعنى العلمي أو الواقعي لعبارة مثل : يتبخر الماء في درجة حرارة (100 % ) والمعنى الانفعالي لعبارة مثل : الحياة مسرح كبير حيث يعبر المعنى الأول عن واقعه والثاني عن انفعال ” (10) .
أنَّ كل ما يمكن ان نبحث في المعنى من اصطلاح سواء أكان فرديًا ذاتيًا، أم جمعيًا، هو خارج الذاتي، أي موضوعي والذي يستمد موضوعيته أو واقعيته عندما تحول إلى صورة ذهنية لإشارتها وارتباطها بشيء خارجي له مدلولات في الاذهان والوعي الجمعي الذي يتفق عليه وعلى صورته الذهنية ، أو يكون الجانب ألاتفاقي المستمد من الاصطلاحات التي دونت عن هذا المعنى في الكتب وأصبح يأخذ واقعه الفعلي من استعمالاته في الدائرة المعرفية المعنية بهذا الاشتغال، إنَّ المعنى حتى وأن كان مجازياً فهو نابع من شيء واقعي، وقد تحول بفعل العلاقات والتعاملات التي تقدمت به خطوات عن الاستخدامات الواقعية وتحول بفعلها، أي بفعل التعاملات إلى مجاز يشير لدلالة ذهنية مجردة، أو حتى بالإمكان أن يجعلها من بعد انفعالية، كما في مثال المسرح وتحويل معناه إذا ارتبط بالحياة، لإعطاء معنى آخر غير ما هو عليه في طبيعته القائمة على تقديم صورة معينة من الحياة ومدى ربطها بالصورة النمطية عن المسرح ذاته .
إنَّ للمعنى جوانب قد لا يمكن احصائها إذا تتبعنا الاشتغالات المتعددة لهذا المصطلح، لكننا نريد ها هنا أن نركز على آلية تشكيله التي سنوضحها في الفصول اللاحقة، والذي يرتبط بالجدلية الانطولوجية ومفاهيمها في تشكيل صورته، لذا فأن التركيز يتم في تشكيل المعنى ليس الذي نتخيله، والذي يأتي إلى اذهاننا في عالم اللامعقول، أو من العالم الخارجي عن تصوراتنا ونعتقد بأننا سوف نجسده على حساب طبيعة الاشياء وواقعيتها بقدر ما نريد أن نذهب إلى هذه الواقعية في وجودها لتشكيل المعنى المستنتج منها وهنا أريد أن أركز على ما قاله ( ميرلوبونتي ) في المرئي واللامرئي ما نصه ” إن ما يهمنا هو تحديدًا أن نعرف معنى كيان العالم : وليس لنا أن نفترض بخصوص ذلك شيئاً وبالتالي ليس لنا أن نفترض لا الفكرة الساذجة للكائن ذاته ولا الفكرة اللازمة لها التي هي فكرة كائن للتصور وكائن لأجل الوعي وكائن لأجل الانسان: وإن هذه المفاهيم جميعها هي التي علينا اعادة التفكير بتجربتنا للعالم في الآن نفسه الذي نعيد به التفكير في كينونة العالم. علينا أن نعيد صياغة الحجج الريبية خارج كل ( ابتسار انطولوجي ) وذلك تحديداً حتى نعرف ما معنى الكائن ــــ العالم ، الكائن ــــ الشيء ، الكائن المتخيل والكائن الواعي ” (11).
إنَّ إعادة صياغة العلاقة بين ما هو كائن والعالم وبين ما هو كائن ووعيه يتطلب البحث في هذه المسافة التي من الممكن أن تحدد طبيعة العلاقات وتحول الاشياء وواقعيتها إلى مشاريع فاعلة في انتاج ما هو موجود حقيقي في صورة ذهنية واعية نكون نحن جزء من اشتغالاتها الانية واللحظوية حتى لا نبتعد عن الحقيقة ذاتها لصالح الافكار التي لا تراعي منطقية الأشياء، وأنا لا أدعو في هذا المجال إلى التطابق الصوري كما هو في منطق ( أرسطو )؛ بل أحاول أن أبحث في طبيعة حقيقة الأشياء التي نبني على أساسها أفكارنا وليس الأفكار التي نتصور على أساسها حقائقنا، وما يحصل اليوم في العالم هي محاولة لجره إلى ما نتصوره بعيداً عن الحقيقة وواقعية الاشياء، لهذا السبب فالعالم حسب ما نريد في أفكارنا يتشظى إلى جزئيات لا نستطيع أن نسيطر عليها، إلى محاولة العبث بحقيقة الإنسان ذاته كوجود موجود في ضوء تشكيل المعنى، وليس في ضوء تشكيل معنى الإنسان لمجرد أفكار مفترضة تبدأ بما شكل بوعينا قبل أن نعيش الحقيقة ذاتها وفي ذاتها.
الهوامش
1. ينظر، الساعدي ، محمد كريم : المسرح والتلقي البصري ،البصرة : دار الفنون والآداب بيروت: منشورا ت ضفاف ، 2013 ، ص 16.
2. مجموعة مؤلفين : الفلسفة الفينومينولوجية الوجودية عند موريس ميرلو – بونتي وهوان : ابن النديم للنشر والتوزيع ، 2014 ، ص 19 .
3. هوسرل، ادموند : افكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص وللفلسفة الظاهراتية ،المصدر السابق، ص 93 – 94.
4. 7. رونتال ، م. ي. يودين ، الموسوعة الفلسفية : وضع لجنة من العلماء والأكاديميين السوفياتيين ، ترجمة : سمير كرم ، بيروت : دار الطليعة للطباعة والنشر ، ط 2 ، 1980 ، ص 586 .
5. ينظر ، الحنفي ، عبد المنعم : المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة ، القاهرة : شركة الاعلمي للمطبوعات ، ط 1 ، 2012 ، ص 946 – 947 .
6. لالاند ، أندريه ، موسوعة لالاند الفلسفية ، ترجمة : خليل احمد خليل ، بيروت : عويدات للنشر والطباعة ، المجلد الاول ، 2008 ، ص 1272 .
7. صليبا ، جميل : المعجم الفلسفي ج1، بيروت : مكتبة مدبولي ، ط3 ، 2000 ، ، ص 398 .
8. مجموعة مؤلفين : معجم النقد الادبي ، ترجمة : كامل عويد العامري ، بغداد : دار المأمون ، 2013 ، ص 398.
9. ينظر ، صليبا ، جميل : المعجم الفلسفي ج2، المصدر السابق ، ص 398 – 399.
10. الحفني ، عبد المنعم : المعجم الشامل ، المصدر السابق ، ص 821 .
11. ميرلو بونتي ، موريس : المرئي واللامرئي ، ترجمة : د. عبد العزيز العيادي ، بيروت : المنظمة العربية للترجمة ، 2008 ، ص 57-58.