بين الأنا والآخر ، الذاكرة الجمعية والتقدم الحضاري/ الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

يرى أرسطو في علاقة الذاكرة بوصفها مفهوم يعمل على حفظ الصور واستدعائها ، إذ قدم في مؤلفه (De memoria et reminiscentia) ، على ان الذاكرة تعمل على جعل الصور مرئية ومحسوسة وحاضرة في اغلب الأحيان ، على الرغم من أنها لم تجسد فعلياً في الحاضر ، لكنها تدخل في تدعيم الأحداث الحاضرة ، والتي تتطلب معنى يدعم حقيقتها ، أو يدلك على شيء معين يراد تأكيده أو نفيه ، إذا استدعينا ما يعارضه وينفه ، لذلك فأن أرسطو يرى في هذا الخصوص بأن كل شيء يسير وفق التداعيات فكل ذكرى تستدعى الآخر ، وصورة شيء تجذب اليها صورة أخرى ، عندما تقوم بين الطرفين علاقة تشابه وتعارض أو تجاوز, المواقف التي يراد تجاوزها ، وهنا نؤكد في كتابنا على مفهوم التشابه واستدعاء الصور من الذاكرة ، إذا تم التشابه يكون على أساس تحفيز ما في الذاكرة من صور تجذب اليها صور أخرى تؤكد هذا الموضوع أو ذاك ، لذلك فأن جزء مهم من التحفيز هو ما يتم تأكيده من أحداث مؤيده للأفكار والطروحات العامة ، التي تنسحب الى تثبيت الأشياء في الذاكرة الجمعية وتأكيدها من خلال التاريخ المكتوب أو المروي عن أحداث الماضي ، والمسيرة في اتجاه معين من قبل القائمين على رسم ملامح مرحلة من المراحل ، ما أكثر ما تحفل به الذاكرة الجماعية للشعوب من صور عن لحظات مهم في تاريخها ، ولكن الفرق بين شعب وشعب ، بعضها مازال يتغنى بهذا الماضي وصوره المدونة في التاريخ والمحفوظة في الذاكرة ، لكنه لم يحاول استيعابها في التقدم نحو مستقبل أفضل وبناء دولة قائمة على رسم سياسات واضحة داخلياً لشعوبها وخارجياً في رسم ملامح سياستها الخارجية مع الدول الأخرى، بل فقط استلهموا من الماضي وصوره وما حفظته ذاكرتهم من الأشياء السلبية التي تكرس الديكتاتوريات والأنظمة القمعية ، بينما الآخر الغربي وظف تاريخه جيداً وصور هذا التاريخ في رسم ملامح المستقبل لنا نحن أبناء الشرق والشرق الأوسط وديانته الإسلامية ، ووضع لنا الا فخاخ والثغرات في تاريخنا وصوّر لنا في ذاكرة أبناءه ما هو غير سليم على وفق نظام مشوه وملامح غير قابلة للتعديل دعمهما بصور مختلفة عن ماضينا وحاضرنا ويّحظر لاستخدامها في المستقبل ، ونحن نقول دائماً انظروا الغرب على حق والغرب هو من يتقدم وهو من يستغل الإمكانيات ويطورها وهو من يمدنا بمختلف أنواع التقنيات والأسلحة التي نتقاتل بها فيما بيننا ، وهو من يؤيد طرف على طرف آخر في امتنا ، مما جعلنا نقع في دائرة التاريخ الذي يحمل صور انغلاقه على نفسه دون تقدم في ذلك ، من خلال توظيف التجارب السابقة في الحاضر والمستقبل .
في كلا الجانبين يبقى من يستثمر الفرص والتخطيط المستقبلي هو من يأخذ قصب السبق في مجال التقدم الحضاري والإنساني ، لكن يبقى ان لا نلغي الآخر في هذا السباق الحضاري ، بل يجب ان نتكامل في بناء المشروع الإنساني ، لكن عملية التكامل مرهونة بمدى استعداد المركز في تقبل الهامش ، أو استقبال الآخر على أساس انه شريك في البناء الإنساني ، ولا يجعل عملية الخلاف من اجل قيادة الركب العالمي تتطلب وجود أمم متنافسة تعمل على استغلال الآخر ، وهنا بدا آليات الاستفادة من البنى التاريخية والأحداث الماضية في التعبير عن ما يراد ان يرسم في المستقبل لخارطة الحضارة العالمية ، لذلك فأن للصور في الذاكرة الجمعية وتوجيه الجموع نحو هدف معين من الاستغلال الثقافي للآخر ، كان لابد من ان تكون ذاكرة الجموع قابلة لتأكيد الأحداث الماضية واستخدامها في الحاضر والمستقبل لتأكيد التفوق والتقدم نحو الأمام ، حتى وان كلفت هذه العملية والياتها تأسيس المؤسسات وبناء الأفكار وتكوين نظام عالمي ظاهره حسن وقائم على التطور والتقنيات ، ولكن باطنه قائم على أفكار ترسخ قدم التفوق لجهة على حساب الأخرى، ولهذا التفوق استمرارية في تأكيد ان الآخر وخصوصاً الأكثر منافسة في السابق سيبتعد عن دائرة الحضارة والإنسانية ، كما يحصل الآن مع الشعوب العربية . التي يراها المجتمع الغربي بأنها غير متحضرة وغير قابلة على الاندماج حتى لو أرادت التعديل من واقعها في دائرة الحضارة الإنسانية.
إذن ، فأن أهمية دور الصور الذاكرية في ذهنية الشعوب الغربية على وقائع لها أهمية في تشكيل الوعي لديها ، وتحولها فيما بعد في اللاوعي واللاشعور الجمعي ، وهنا يشير (كارل غ. يونغ) في كتابه (الإنسان ورموزه ،وسيكولوجيا العقل الباطن) الى الوقائع ودورها في رسم القادم الذي يدخل فيه اللاشعور في توجيه أفكارنا اللاحقة وهو ما ينطبق على ظاهرة استخدام الصور في تحفيز الذاكرة الجمعية ودورها في الحاضر والمستقبل بقوله: ثمة بعض الوقائع التي لا نلاحظها بعقلنا الواعي ، أي بعبارات أخرى تظل دون عتبة الوعي . أنها تحدث ، لكننا نتمثلها على نحو لاشعوري ، أي بغير عقلنا الواعي ، ويمكننا ان نصبح واعين لأحداث كهذه لحظة الحدث فقط أو من خلال عملية التفكير العميق الذي يؤدي الى أدراك لاحق بأنها لابد وان تكون قد حدثت ، وعلى الرغم من أننا قد نتجاهل بالأصل الأهمية العاطفية والحيوية الا أنها تنبثق من اللاشعور كنوع من الأفكار اللاحقة التي تسهم في صياغة المواقف اللاحقة ، وهذا ما أريد ان تكون عليه الذاكرة الجماعية للشعوب الغربية في تحفيز ما يراد تحفيزه من صور في مواقف معينة ضد حضارة الآخر وثقافته ، وحتى ما يتعلق بمعتقداته وعاداته وتقاليده وغيرها ممن تشكل البوتقة الحضارية التي تقوم عليها منظومته الفكرية والمعرفية ، من اجل حرفها في عقول وأذهان أبناء المؤسسة الغربية ، ومن هنا تأتي حقيقة رسم الحضور الميتافيزيقي وتأكيده بمجموعة من الثنائيات بين (الانا الغربية ) وبين (الآخر) سواء أكان شرقي ،أو أفريقي ،أو أمريكي لاتيني وغيرها ، وعندما يذكر احد هؤلاء الآخرين المغايرين ثقافياً ، تأتي هذه الثنائيات المحفورة في اللاوعي الجمعي واللاشعور حتى تنتقل الى الإدراك المشترك بأن هذه الثنائيات هي عين الحقيقة وحدثت بالفعل في مسيرة التاريخ الذي يؤكدها ، والتي تنبثق من اللاشعور الى الشعور في تأكيد المواقف والأفكار القادمة ضد المغاير للذاكرة المشتركة وصورها الموظفة بطريقة تخدم الأهداف العليا في الحضور الميتافيزيقي للعقل الغربي .

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *