إنَّ في الشعر موجودات تتبلور في وعي الشاعر من حيث كونها مفردات تفتح آفاق متعددة مع القارئ للنص ، أو المستمع للألقاء ، أو المتلقي للصور التي يريدها المرسل في رسائله المتعددة ، وما بين المفردة الشعرية وتصوراتها في الوعي بعد أن اصبحت هذه التصورات ظهورات عقلية في الوجود الذهني ، وما يتحتم على هذه الوجودات الذهنية من أعراض في العالم المعاش في تجربة الشاعر ، سواء أكانت هذه التجربة ذات منحى مؤقت جاءت بها الظروف العرضية التي أصبحت لها أثر في نتاج الشاعر ، أو كانت هذه التجربة متأصلة في وجدان الشاعر على مستوى الدلالات الفكرية وصياغة البنية المعرفية في أنتاج وعي ووجدان شعري ثر يرتكز عليه قاموس الشاعر الوجداني في استدعاء مفرداته الشعرية وجمالياتها وتشفيراتها التي يريد من خلالها إيجاد فعل أنطولوجي له أثر في الصورة المتلقاة من قبل متابعيه ومحبي قصائده ومفرداته التي تغازل أذهان المتلقين لشعره .
إنها أنطولوجيا مبنية على اعتبارات الماهيات المتشكلة في ذهن الشاعر ، هذا العالم المواز للعالم المادي ، وهذه الملكة القابلة لتصنيع مفردات يفارق بها الشاعر بين لغته الشعرية وما تنتجه من مفردات خاصة مميزة له ، وبين اللغة الحياتية اليومية ، على وفق هذه الجدلية بين الشعري المتعالي في الوعي وبين اليومي المقصود في أعادة أنتاجه يكمن الأبداع في صيغته الأنطولوجية ، ودلالاته للمفردات في صيغها الحياتية المتحولة في بعدها الشعري . القارئ العادي ليس معني بهذا المصنع الجمالي الذي ينتجه الشاعر ، بل هو معني بالبضاعة الجمالية التي يتلقاها وتحرك مشاعره من خلال الاقتران الواعي بين المفردة المتلقاة والأفق الخاص بالشاعر وتجربته الإبداعية .
في هذا المجال من الممكن أن نبحث عن مفردات كثيرة لدى الشعراء صاغوا تجربتهم الإبداعية قياساً لهذه الجدلية الانطولوجية بين الشعري والحياتي اليومي من جهة وبين الشعري في أطاره التاريخي الزمني في حياة الشاعر وبين التجارب التي صاغتها مديات حياة الشاعر في تأكيد الكثير من المفردات التي شكلت قاموساً دالاً عن الشاعر ذاته . ومن هذه المقدمة في المجال الجدلية الأنطولوجية بين الأفاق التي ذكرناها أعلاه نتناول تجربة الشاعر عبد الحسين بريسم الشعرية في (قرط النعاس) الصادر عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لسنة 2022، هذه التجربة الشعرية التي حفلت بها مفردات عبرت عن المجال الأنطولوجي للشاعر ابتداءً من عنوانات قصائده ، ومنها قصيدة (قال أبي ) ،و (قرط النعاس) وهي عنوان إصداره ، وقصيدة ( انت جداريات العالم وصهيل خيولي ) ، وقصيدة ( الشعراء يتبعهم الغاوون ) ، وقصيدة ( نزف الشجرة) ، وقصيدة ( أغزلك لغة وأصيغك كلمات ) ، وغيرها من القصائد التي قد لا نستطيع تقديم دراسة في بعدها الأنطولوجي وافية ، كون هذا المقال يركز على هذه الجدلية في جانبها الأعم ، وليس في جزئياتها والتي تتطلب بحثاً عميقاً في هذا الإطار ، مما سنركز في هذا المقال على بحث ثلاثة من الصور التي تؤطر مفردات الشاعر في بعدها الأنطولوجي .
إنَّ في قصيدة قال أبي ، الموت والرياح والأشجار والفوضى هي مفردات شكلت في اشتغالها اليومي مواز شعري أنتجه الشاعر في لغة شعرية من وصايا الأب وقوله الذي لا يفارق وعي الشاعر في تدويناته على ورق الذاكرة في الأنتظار والخوف من انفراط عقد المنتظر كي لا تعم الفوضى وتذهب كل ما اراده الأب عن لسان الشاعر بعيداَ عن ينابيع الأهوار ، وهي الأصل الأنطولوجي في أصل الاباء والأجداد ، وفي المقطع الثاني من القصيدة تأتي ( اليابسة والماء والتراب والقميص والقمح ) ، لتعبر جسد الأب ووصاياه في لغة اليومي التشكل في تصورات الشاعر الذهنية وظهوراتها الواعية لغة شعرية غايتها الولادة بين اليابسة والماء والثمار في القمح والتمر ) ، لكن الموت يعود في ذاكرة الأب حين لا تمر العصافير ولا يستريح النهر ويبقى الأنتظار في باب الجنة وقمح الحياة . لغة الأب ، يومياته ، حياته ، مفرداته أنتجت صور ذهنية مأخوذة من عالمها الأنطولوجي لي ينتج بها الشاعر فضاءات شعرية ترتبت على وفق بنى جمالية في ذاكرة القول عند الأب والشاعر معاً في آفاق متحدة بين الماضي / الأب ، والحاضر / الشاعر.
إنَّ قصيدة (قرط النعاس) ، قد حفلت أيضا بجدلية أنطولوجية بين الوعي اليومي والوعي الشعر ، لكن من خلال الأم ، وسرد الحياة اليومية من خلال لغة شعرية توزعت مفرداتها بين دال أنطولوجي متأصل في تجربة الشاعر الشعرية ، ومدلول فيه أثر التجربة لكن في وجودها الاعتباري الذي أنتجت تصورات صاغ من خلالها الشاعر مفرداته من اليومي الى الشعر عبر متحول جمالي يسرد أنطولوجية الأم في بعدها ومرتكزها الإبداعي في التجربة الشعرية لدى الشاعر ، من الساحات القديمة والنخلة وشجرة السدر والجدران القديمة المنحنية مفردات يومية أعتادتها الأمهات في المحلات والازقة الضيقة ، تصاغ في تجربة البريسم الشعرية هذه المفردات التي تتحول أثر أنطولوجي أعمق يربط بها بين إشراقة الشمس على الأزقة وظهورات والأمهات التي يوقظن الصباحات برائحة الخبز ليتحول أيقاد النار في التنور الى أيقاد للشعر في دفاتر الشاعر شعراً ، وفي تكملة القصيدة يسوق الشاعر مفردات حياته اليومية من طيور الجنوب وشوارع المدينة وسياج البيت العتيق لتصبح هذه المفردات رسائل شعرية تحمل صور الأنتظار للأمهات وخطواتهن المتعبة ـ ليصور مرورهن في شوارع المدينة واسيجتها العتيق لتتمايل الأشجار في صور سجود لهذه الخطوات المحملة برائحة القصب والبردي وأضرحة الأئمة .
وفي قصيدة ( أمة من الوجع ) يعود فيها البريسم الى مفردات قد تختلف هذه المرة عن البدء بالموجودات التي اعتادها في ذاكرته من عالمه الأنطولوجي الذي شكلته ذاكرة الأيام المملوءة به الأزقة والحارات والجدران وقصص الآباء والأمهات ، ليعطي سياقه الشعري أنطولوجيا أخرى ذات خيال كونها أرتبطت بوجدانية ذات بعد عاطفي ، ففيها غابة مسحورة وفيها جدران قديمة يملأها القبح ، ويحاول ترميمها بالحب ، فيها حواجز تكشف طبيعة الجدران وفيها أسوار لغابة ذاكرته في ظهورها الأنطولوجي ، وفيها قبلات طويلة تعتمد السحر ، كلها في قلب شاعر حاول تجميع صوره النابعة بالحب من خلال وردة تضعها من أحب فوق قلبه ، أنها وجودات يؤطرها عالم خال من مفرداته التي عودنا عليها في (قرط النعاس ) و( قال أبي) ، هي مفردات يحاول كسر قوالبه الأنطولوجية اليومية الظهور في وعيه من أجل سياق آخر يتنوع فيه الوجود الشعري لديه .
أما في قصيدة ( أغزلك لغة وأصيغك كلمات ) تنوعت لديه مفرداتها من مجال أنطولوجي آخر فيه صور تصف ما هو أبعد من محلياته اليومية ، في لغة آخرى يحاول أن يصيغ فيها موجوداته الأبعد أفقاً ، فمن وراء البحر من (الشموس ، والأقمار) هذا الموجودات الكونية ذات الدلالات البعيدة ، ويصور بعدها الحروب والمقابر ذات التصورات القريبة في عالم موجوداته المتناثرة، وأغنياته السوداء وبابه الذي هو كالبحر في السعة الذي يمثل نافذته على وجوداته الكونية التي يراها رغم الريح التي تحاول أن تغلق أبوابه ونوافذه ، من ثم يأتي الى عالمه الصغير المحمل بالقلائد تحمل كلماته ومن الجسد الذي هو نافذته الأقرب المطلة على أحزانه ليسترق السمع من صوت الملائكة بداخله ، هذه العوالم المختلفة وكأنه يحاول أن يثير الجدالية بين وجوداته الأقرب في التعامل اليومي وأخر ذات طابع شعري فيه الخيال الباحث عن آفاق كونية أبعد .
في قصائد البريسم التي رصدنا فيها بعض من مفرداته في بعدها الأنطولوجي التي تتجلى فيها جدليته ، وهذه المفردات قد أتت في ثلاثة صور هي :
1. الصورة الأولى : أن الشاعر يحاول أن يكون قصائده من خلال التأثير المباشر لليومي في الشعري حتى يكون ما حصده عبر السنين من ذاكرة أبداعية لها من اليومي اثر كبير عبر آفاق حياته المستمرة بحالاته المختلفة ، كما في قصيدتي (قال أبي و قرط النعاس).
2. الصورة الثانية : يقدم البريسم في كونه يعمل على استبدال ما في ذاكرته اليومية قائمة على الظهورات المباشرة في حياته بأخرى تغذيها مفردات قد أكتسبها من وجود آخر هو العاطفة وما فيها من ثراء في موجوداته وظهوراتها في قصائده المغايرة عن حياته اليومية المباشرة وتجلياتها في قصائده ، كما في قصيدته ( أمة من الوجع ).
3. الصورة الثالثة : يقدم البريسم في صوره الشعرية مفردات أخرى فيها عوالم آخرى لا هي من مفرداته اليومية ، ولا من مفرداته الوجدانية ، بل هي مفردات فيها ظهورات كونية في الاستخدام ، مما جعل مفرداته في تنوع آخر غير الذي في ما سبق الحديث عنه ، وكما في قصيدة ( أغزلك لغة وأصيغك كلمات ).
إذن ، للشاعر البريسم جدلية في البناء الأنطولوجي والتصورات الذهنية وظهوراتها الواعية التي يحاول من خلالها أنتاج لغة شعرية قائمة في بعدها الأنطولوجي على مفردات يتمظهر فيها هذا البعد في صور ثلاثة قائمة على جدلية مستمرة لها أبعادها العميقة في أنتاج المعنى في قصائده .