جماليات عالم المثل الأفلاطونية / الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

يعد (أفلاطون 428 ق.م – 347 ق.م) من أهم تلامذة (سقراط) ، وتعلم على يديه الكثير من الممارسات الفلسفية وخاصة بعد أن أفتتن بشخصية أستاذه وهو في العشرين من عمره ، لما لـ(سقراط) من تأثير على الشباب في (أثينا) ، وفي مقدمتهم (أفلاطون) الذي ينتمي الى أسرة أرستقراطية يونانية .
أوجد (أفلاطون) فلسفة واسعة الملامح نظّر من خلالها في أنواع مختلفة من المعارف الإنسانية ،وجاءت أغلب فلسفته على شكل محاورات قدم فيها منهجه الفلسفي الذي حاول الأبتعاد عن الأسلوب المباشر لأستاذه (سقراط) الذي أعدم بسببه.
أراد (أفلاطون) من محاوراته أن يجمع فيها وجهات نظره على مر مراحل حياته ، فمحاوراته لم تأتي كلها دفعة واحدة ، بل قدمها على ثلاثة مراحل ، الأولى في شبابه ، والثانية في بلوع ، والثالثة في أيام عمره المتقدمة ، وتتألف هذه المحاورات ” من (28) حواراً يتمتع أثنان منها بمقاييس مؤلف حقيقي (الجمهورية والقوانين) ومن رسائل تروي السابعة والثامنة منها مغامرات (أفلاطون) السياسية في (صقلية) .إنَّ الجمال الأدبي للحوارات التي تعكس شخصية (سقراط) وتتناولها ، فضلاً عن تلامذته مثل (فيدون وثيتان، وجنود مثل لاشيه وسفسطائيين مثل جورجياس، حتى فلاسفة كبار مثل بارمنيد ، وزينون ، الخ …) يتداخل مع الفكر الفلسفي ، حيث أن طريقة الأسئلة والأجوبة هي الطريقة الوحيدة التي من شأنها أن تدفع المرء فعلاً الى التفكير يسمح توجيه الأسئلة للإنسان بأن يلد فكرياً (هذا هو التوليد) ويثير تضارب الآراء للاهتمام بالحقيقة (وهذه هي الجدلية ) ” (1). وهذه المحاورات قد تضمنت من المعارف الفلسفية ما هو حافل بتوليد الأفكار وجدليتها مع حقيقة ما يهدف اليه (أفلاطون) في فلسفته، ولم تأتي هذا الممارسات الفلسفية عنده من فراغ ، بل من خلال عمل وتجارب خاضها وخبرها في الحياة وأكسبها البعد التأملي الذي تميز به فلسفياً من خلال أفكاره في المعرفة والمثل والطبيعة والوجود والأخلاق وغيرها من النظريات التي حاول جاهداً أن يبحثها ويصل من خلالها الى مفاهيم وتطبيقات على المستويين النظري والعملي، وواحدة من هذه النظريات التي قدم لها (أفلاطون) ملامح فلسفية نظرية على وفق دراسة الأطر التطبيقية هي نظريته في الجمال المنطلقة من نظريته في (المُثل) ، والأخيرة حقائق كلية ثابتة موجودة بالفعل وجوداً خارجياً ومفارقاً ومستقلاً عن الإنسان ، في الوقت ذاته هي مصدر للمعرفة وعلة لها مثلما هي مصدراً لوجود الأشياء في العالم المحسوس وعلة له . إنَّ العلاقة بين عالم المثل والمحسوسات تتشكل على وفق ترتيب هرمي في قاعدته ” توجد الأشياء المحسوسة في مظهرها الخارجي ، ثم تعلوها المعرفة العقلية المتصلة بالأفكار المادية ، ثم الأفعال وأنواع السلوك والأحداث والحركات ، بما لها من سمو عن الجسم ، ثم يأتي بعد ذلك النفوس الحقة ، وتتلوها ذوات الأجسام ، ثم ذوات النفوس ذاتها التي تلي الأفعال ، ثم تعلو هذه الذوات المعارف الخالصة النظرية العقلية ، المجردة عن كل مضمون أخلاقي ، وأخيراً تتربع الصور تتوجها المثل الرئيسية التي يسميها المحدثون بالقيم ” (2) .
إنَّ المُثل الأفلاطونية ليست بظاهرة كالمحسوسات وجزئياتها في الواقع المرئي المسموع مثل نظام حسي اشتغالي يتعامل معه الإنسان يومياً على أساس حاجياته وما يريد أن يكون عليه في ظاهر الأشياء المحسوسة ، بل أن المثل هي نظام كلي يحتوي على جميع ما يمكن أن نتصوره لأشكال حسية متعددة في الواقع لنوع واحد مثل الزهرة وصورها المختلفة والمتنوعة والمتعددة ، التي تعود الى حقيقة كلية لمفهوم الزهرة على الرغم من اختلافها الوجودي في نظر المشاهد . وهنا نتسائل عن الجمال؟ ، وما هي المعرفة الجمالية الأفلاطونية في هذا المجال؟ ، ونعيد الحديث عن الزهرة كما في المثال السابق فنقول الافتراض الآتي : ” أن أحد أجاب بإن علة الجمال في الزهرة هو شكلها ، أو لونها ، أو رائحتها ، فإنه لا يعطينا سبباً لهذا الحمال ، لأن الشكل ،أو اللون ، أو الرائحة قد تكون سبب قبح في أشياء أخرى غير الزهرة . إذن، فعلة الجمال في الاشياء ترجع الى مثال الجمال وماهيته ومن ثم فالحقيقة تكمن في (المُثل) وليس في المحسوسات التي تمثل الظاهر” (3).
إنَّ عالم المثل الأفلاطونية منظومة مفاهيمية مكونة من كليات الأشياء وصورها في الوجود المادي بجزئياته واختلافاته وافراده في الحياة الطبيعية. من هذه النظرة قسم (أفلاطون) (المُثل) الى أنواع يدخل من ضمنها الجمال ، فمثلاً تضم (المُثل) الافلاطونية بالإضافة الى الخير ، والعدالة ، والشجاعة ، والعفة ، والصبر ،والكرم ، يأتي الجمال من ضمن هذا النوع من المثل ، كما تأتي (مُثل )الاشياء الجسمانية ، ومنها الحصان ، الإنسان ، الشجرة ، وغيرها من التجسيمات الظاهرة للعيان من ضمن هذه (المُثل) الجسمانية التي يضاف اليها (مُثل) الصفات التي ترتبط بهذه المثل الجسمانية ، كالبياض ،والسواد ، والثقل ، والحلاوة ، والطول ، والأرتفاع وغيرها . وهكذا يصنف (أفلاطون) (المُثل) في هذه الأنواع وغيرها , ولكنه وضع الجمال من (المُثل) الأخلاقية التي ترتبط بجمال الأشياء وفاعليتها . ونعتقد بأنه يشير الى جمال آخر يرتبط بالقيم الإنسانية . وهذه (المُثل) مجتمعة تميزت بخصائص ، ومنها على سبيل المثال خاصية (الجواهر) ، أي أنها حقائق مطلقة ووجودها كلي في ذاتها ، وأنها كلية ، ليست بجزئية ، فهي ، أي (المُثل) بجواهرها مطلقة ، أي أن كل الأشياء تتوقف عليها باعتبارها من مبادئ الكون الأولى . فهي لا تقصد الإنسان بمسمى فردي (زيد مثلاً) ، بل تقصد بوصفه مفهوم كلي ، وهذه (المُثل) تقوم على خاصية أخرى هي الوحدة في الكثرة ، فمجموع الأسماء لأفراد المجتمع عادة ما تطلق على (مثال) واحد هو الإنسان ، فكل أفراد المجتمع يرجعون الى هذه الخاصية الإنسانية ، وليست هذه التعددية في الأسماء كل منهم يرجع الى مثال إنسان مختلف ، بل الى مفهوم الإنسانية الذي يجمع كل أفراد المجتمعات في العالم . وهذا المفهوم ثابت غير فان ، ولكن من يفنى هو (زيد وعمر) كأفراد جسمانية خاضعة لطبيعة الفناء . وكل (مثال) هو ماهية للشيء ذاته للوجود الخارجي ، وهذا المثال يقع في دائرة الكمال المطلق ، أي لا يخضع للزمان والمكان من حيث الفناء والاندثار ، وهذه (المُثل) لا تستوعب إلا من خلال العقل الإنساني الذي يدرك عالم المُثل ، كون أن العقل عند (أفلاطون) هو المجال الوحيد القادر على هذه الممارسة في استيعاب عالم (المُثل). (4)
أضافة الى عالم (المُثل) الذي شكل الركيزة الأساسية في فلسفة (أفلاطون) ومنها ما أختص بالجمال ، وكيفية توجيه الفلسفة الجمالية لديه ورؤيته لهذا العالم ، فقد أضاف مفهوم آخر يتصل بالنظرية الجمالية وهو مفهوم المحاكاة وعلاقته بالظاهرة الفنية في مجالاتها المختلفة ، ومنها الموسيقى والرسم والنحت والخطابة وغيرها من الفنون على الرغم من تشبه بعض الفنون إلا أنها لا تلبي نظريته في (المُثل) ، وأنها محاكاة خادعة، ويشبهها بفكرة السفسطائي في تناول مفهوم الأقناع للأخرين الذين يتأثرون بالأوهام وليس بالحقيقة كما في محاورة (ثنيتتس والغريب) التالية :
” ثنيتتس: كلا فإنك ذكرت صنفاً متشعباً جداً ، ويكاد أن يكون أوفر الأصناف تلوناً ، ضممت فيه وحده كل الفروع .
الغريب: فنحن نعرف إذن ، عمن يعد بأنه قادر بفن واحد أن يصنع كل شيء ، هذه الحقيقة وهي أنه يصطنع أشياء تحاكي الموجودات وتقلب باسمها بواسطة فن الرسم ، وعندئذ إذ يبدي الرسوم من بعيد، يضحى قادراً أن يستغفل البلهاء من الفتية الأحداث ليوهمهم أنه ينجز ما يشاء وأنه على أتم القدرة أن يحقق ذلك في الواقع”(5). إذن، يصبح الوهم الذي يقدمه فن الرسم يشبه بوهم السفسطائي الذي يوهم الشباب والفتية في جعل الأشياء التي يجمعها الرسام في أطار اللوحة قادر على أن يحققها في الواقع ، ومن هنا فإن (أفلاطون) قد جعل من هذا الفن هو مشابه لفكرة السفسطائي في الاقناع ، التي يعارضها (أفلاطون) في فلسفته.
يقسم (أفلاطون) المحاكاة الى نوعين في كتاب (السفسطائي) في المحاورة المستمرة ما بين (ثنيتتس والغريب) ، يوضحهما في المحاكاة وكيفية النظر الى الفنون من خلالهما ، على أعتبار أن (أفلاطون) يعطي أسباب عدم تماشي طبيعة هذه الفنون مع نظريته في المحاكاة ، كما في المحاورة التالية :
” الغريب : طبقاً لطريقتنا السالفة في التقسيم ، يظهر لي الآن أيضاً أنني أرى نوعين في فن المحاكاة ، إلا إنه يبدو لي أنني عاجز بعد ، في الوقت الحاضر ، عن معرفة النوع الذي تكمن فيه فكرتنا المنشودة .
ثنيتتس: ولكن باشر أولاً ، وفصّل لنا أي نوعين تعني .
الغريب: أرى فيه من جهة ، فناً أولاً هو فن النسخ . قوامه على الأخص أن ينجز المرء إحداث (النسخة ) المحاكية ، طبقاً لأقيسة المثال الملائمة طولاً وعرضاً وعمقاً . بالإضافة الى هذه ، أن يؤتي النسخة الألوان اللائقة في كل من تفاصيلها .
ثنيتتس: ما بالك؟ ألا يسعى كل المقتدين الى تحقيق هذا الأمر ؟
الغريب: كلا ، على الأقل أولئك الذين يصوغون أو يرسمون تماثيل أو لوحات كبيرة . لأنهم لو كانوا يعطون أعمالهم قياس النماذج البهية الحقيقي ، لبدت أقسام تلك التماثيل أو اللوحات العليا أدق مما يجب ، وظهرت الأقسام السفلى أضخم من اللازم ، لأننا نرى الأولى عن بعد ، ونرى الثانية عن كثب وأنت تعرف ذلك .
ثنيتتس: فعلاً ، الأمر على ما تقول بالضبط .
الغريب : إذن ، ألا يدع فنانونا الحقيقة ترتع تاركين إياها وشأنها ليسبغوا على تماثيلهم (المرسومة أو المصوغة والمنحوتة) ، لا الأقيسة الحقيقية ، بل أقيسه تبدو بهية ؟
ثنيتتس: فعلاً قولك في غاية الصحة .
الغريب :إذن ألسنا على حق إذا سمينا جزءاً (من هذا الإنتاج ، إنتاج ) نسخة أو صورة لأنه يصور ويماثل .
ثنيتتس: أجل .
الغريب : والشطر من فن المحاكاة القائم على هذا الأمر ، ألا يجب أن ندعوه ، على ما قلنا من قبل فن النسخ ؟
ثنيتتس: يجب أن ندعوه كذلك .
الغريب : وما رأيك؟ ما يُتخيل للمرء أنه يماثل الجميل وينسخه ، بسبب مشاهدته من موقع غير مناسب ،إذا تمكن المرء أن يراه رؤية وافية ، وحينئذ لا يعود لا نسخة ولا مثيلاً لما يقال إنه نسخة عنه ، ماذا ندعوه؟ ألا نطلق عليه أسم الخيال، لأنه يظهر هذا المظهر ، وهو لا يشبه المثال؟.
ثنيتتس: لم لا ؟
الغريب: أليس هذا القسم متفشياً جداً في رسم الأحياء ، وجملة في فن المحاكاة ؟ .
ثنيتتس: كيف لا ؟
الغريب : والفن المنتج خيالاً ، لا نسخة مصوّرة ، إلا نسميه بكل صواب فن مخايلة؟
ثنيتتس: بكل صواب.
الغريب: هذان إذن النوعان اللذان عنيت في فن المماثلة (أو المحاكاة) فن النسخ وفن المخايلة ” (6).
في هذه المحاورة التي أخترناها دون أن نقطع منها شيء، تتضح فكرة (أفلاطون) حول مفهوم المحاكاة والسبب الذي يجعله لا يتوافق مع الرسامين والنحاتين في اختيار قياسات النماذج في الرسم والنحت مما يجعلها تبدو متفاوتة بين أجزائها العليا والسفلى ، وتقع مشكلة كل من الرسام والنحات بين الضخامة في التصوير وبين الحقيقة التي هي لها قياساتها المحددة ، وتعد الأقيسة التي تبدو عليها أقيسة بهية ، وليست حقيقية . وفي الأولى ، أي الاقيسة البهية ، تقع تحت فن المخايلة ، بينما الأقيسة الحقيقة تقع تحت فن النسخ . والجمال على وفق هذه الرؤية الأفلاطونية قد تحدد على وفق المحاكاة بين نوعين منها على حسب هذه الأقيسة ، وهما ” المحاكاة السطحية ،أي المعنى الشائع للمحاكاة . والنوع الثاني فن بصير بمحاكاة مستنيرة ، لأنها تنطوي على علم من يمارسها بما يجب عليه أن يحاكيه من (مُثل) للخير والحق والجمال ، وهذه المحاكاة لا توجد إلا عند الفنان ذي الثقافة الفلسفية الواسعة ” (7). فالجمال على وفق مفهوم النوع الثاني من المحاكاة لا يأتي دون ممارسة جادة واعية ومعمقة للمعنى الخاص بالفن ، فالفنان لا يمكن أن يكون ذو عقل واع مالم يكن في محاكاة فنه بطريقة عقلية تنتج الخير والحق والجمال . ولكن تبقى مشكلة مهمة عند الفنان ، وعلى حسب الطريقة الأفلاطونية في المحاكاة ، هل يستطيع أحد من الفنانين أن يصل الى قيم الخير والحق والجمال ويحاكي المُثل الأفلاطونية بالطريقة التي حددها (أفلاطون) نفسه للفنان ؟ ، أم أنه لا يوجد فنان بهذه المساحة المعرفية العقلية يكون قادر على أن يصل الى المحاكاة الأفلاطونية بفنه ؟ ، وخصوصاً بعد أن جعل (أفلاطون) من المحاكاة في النوع الثاني تعود بطريقة أو أخرى الى النوع الأول من الفن ، أي أن (أفلاطون) أعاب على محاكاة المحاكاة بعد أن جعل المحاكاة الأولى التي هي صورة من عالم المُثل الكلي ، وأعتبر المحاكاة الثانية التي يقوم بها الفنان للطبيعة هي بالأصل سطحية وتشوه الصورة الأولى التي هي محاكاة لعالم المُثل بالأصل ، وعلى الفنان الأفلاطوني أن يمتلك بصيرة عالية ومستنيرة قائمة على البعد الفلسفي الذي يوصل الفنان الى الخير والحق والجمال ، حسب الجمال المطلق في عالمه المثالي .
يشرح (أفلاطون) في جمهوريته المثالية في الباب العاشر الفن والمحاكاة وعالم المثل ، وينقد كل من يخرج عن سياقاته الجمالية التي تبناها في هذا الباب ، و ” يتحدث عن محبي النّظر والسّمع كيف يعجبون بالجميل من الأصوات والألوان والصور ، ولكن يؤكد على عدم فهمهم كنه الجمال فيضرب مثالاً بالمأساة عند (هوميروس) وينتقده وينتقد سامعيه لأنهم يؤمنون بما يقول ، فهو بنظرهم يعرف كل شيء إنساني يتعلق بالفضيلة والرذيلة ، بل والاشياء الإلهية الى جانب معرفته لكل الفنون ، لكنهم خدعوا لأن ما يقدمه إنما أشباح لا حقائق ، وكما نعلم أن الرجال بآثارها العملية ، لذلك فإن (هوميروس) وغيره من الشعراء مقلدون نسخوا صور خيالية في كل ما نظموا ، فلم يلمسوا الحقيقة ومن جملة ذلك نظمهم في الفضيلة ” (8)، وهذا النقد للشعراء ومن ضمنهم الشاعر الملحمي (هوميروس) لم يأتي من طبيعة صياغات العمل الفني الشعري لديهم ، بل أن الصيغة التي قدمها (أفلاطون) للفن ومحاكاته لا تنطبق على هذه الإعمال الشعرية بمختلف أنواعها وأجناسها ، كالشعر الملحمي ، أو التمثيلي ، أو الوجداني ، كون الشعراء لا يطلبون من وراء أشعارهم الحقيقة ، بل هم يبحثون عن الخيال في صورهم الشعرية ، والخيال يبعد الشاعر والمتلقي معاً عن الحقيقة التي هي بالأصل نابعة من الحق والخير والجمال ، فالجمال لا يأتي الإ من خلال عالم المُثل ، وشعر (هوميروس) الملحمي يشبهه (أفلاطون) بالأشباح لا بالحقائق المرجوة التي يطلبها في عالمه المثالي ، وهذه الحقيقة التي يسعى اليها (أفلاطون) في فلسفته متوفرة في نوع آخر من الفنون وهي الموسيقى ، ونظريته ” في الموسيقى مبنية على التراث الفيثاغوري ، إذ ترى أن في الموسيقى طريقاً لتطهير النفس وتهذيبها ، ويمكن علاجها النفسي. وقد بين (أفلاطون) عناصر مكونات الموسيقى الثلاث وهي : اللفظ ، الائتلاف ، والايقاع ، وربط بينها وبين الحقيقة التي تحاكيها في نفس الأنسان ، ويرى أن الموسيقى يجب أن تعبر عن الجمال والحقيقة في صورة سهلة حتى يقنع بها العقل . ويجب أن تكون غايتها وهدفها الجمال لا أن تتجه الى بعث اللذة الاستطيقية . ولها هدف أسمى من ذلك هو التأثير على النفس بحيث تكسبها ائتلافاً من أجل تحقيق الخير ” (9).
إنَّ اللذة الجمالية التي تقوم على أمتاع الفرد دون أن تكسب النفس البشرية طاقة من أجل تحقيق الخير ، هذه اللذة مرفوضة كون أنها تبعد الأنسان عن الجمال الحقيقي ، وهذا الجمال القائم على بعث الخير في النفس لا جذبها نحو متعة حية تنتهي بهذه النفس الى عوالم أخرى غير عالم الجمال المثل الأفلاطونية ، ويكون لطبيعة ونوعية الفن علاقة في الأثر النفسي نحو الخير والحق والجمال . ومن جهة ثاني يربط (أفلاطون) في كتابه (الثيئيتتس) بين الأحرف الأبجدية والموسيقى من خلال (برهان اختباري الأحرف الأبجدية والموسيقى) الذي يريد أن يبرهن أن الموسيقى تعبر عن الصدق في الأمور الواقعية على وفق مبدأ أهميتها في التعلم ، وهذا المبدأ الجمالي يستخدمه (أفلاطون) في هذا المجال ، على حسب المحاورة التي تقع بين (سقراط) و(ثيئيتتس) :
” سقراط : فما بالك مرة أخرى ؟ ألا تقبل تقبلاً أفضل ، قولاً مناقضاً لقول المدّعي هذا ، مما تعيه وتشعر به أنت نفسك في تعلّم الأحرف ؟
ثيئيتتس: أي قول ؟
سقراط : إنك ما فتئت لا تتعلم سوى العناصر ، محاولاً أن تتبين كل عنصر في حد ذاته وتتعرف عليه بالبصر والسمع ، كي لا يحملك وضعه بين العناصر الأخرى المنطوق بها والمكتوبة ، على القلق والاضطراب .
ثيئيتتس: تعبّر عن أصدق الأمور وأكثرها واقعية .
سقراط : وفي تعلم عازف القيثارة تعلماً كاملاً ، هل وجد عمل ما آخر سوى قدرته على تتبع كل نغم ومعرفته عن أي وتر يصدر . وكل امرئ قد يعترف أن هذه الأنغام هي عناصر الموسيقى .
ثيئيتتس: لم يقدم على أي عمل آخر .
سقراط : بناء على العناصر إذن والمقاطع هذه ، نحن بها خبيرون ، إنَّ وجب أن نستدل على الأمور الأخرى ، ففي وسعنا أن نصرح أن جنس العناصر قد أحرز قدره تبيان أوضح من المقطع بكثير وأرسخ وأوفر أصالة ، لاقتناء كل فرع من المعرفة اقتناء تاماً . وإنَّ ادعى أحد أن المقطع معلوم بالطبع ، وأن العنصر من طبعه غير معلوم ، ففي إمكاننا الاعتقاد أنه يمزح طائعاً أو مكرهاً .
ثيئيتتس: كلامك دقيق متقن في الواقع . ” (10)
يعتقد (أفلاطون ) بمدى أهمية الموسيقى في إثبات البرهان الاختياري كونها تدخل في تبيان حقائق عن طبيعة النفس في التعلم والتفريق بين الأشياء ، كما المثال الذي ضربه في المحاورة بعازف القيثارة والتعلم الكامل من خلال القدرة النفسية على تتبع كل نغم ومعرفته عن أي وتر يصدر ، وهذا التتبع يعطي الاعتراف بإن هذه الانغام تعود لعناصر الموسيقى عن غيرها من العناصر للوصول الى المبدأ الجمالي الأفلاطوني المتمثل بمعرفة الحقيقة عن طريق هذا الفن . وهنا نعود الى المقارنة بين الشعر والموسيقى لدى (أفلاطون) ، بالتساؤلات الأتية : لماذا أن الشعر لا يوصل النفس الى الخير والحق لدى (أفلاطون) ؟ : يعتقد (أفلاطون)بأنه يقربها أكثر الى الصور الخيالية الخداعة ، ويبعدها عن الجمال الحقيقي . بينما يعتقد أن الموسيقى تأخذ النفس البشرية الى الجمال وتكسبها ائتلاف يقودها اليه . كما يعتقد أن للمحاكاة علاقة أيضاً في إبعاد النفس عن الحق والخير والجمال كما هو في فن التصوير، فالتصوير عند (أفلاطون) ” يرمي الى تقليد الطبيعة الظاهرة ، وهو مخادع لأنه يصف الواقع ويحاكيه ولا يقدم ابتكاراً ، ويأخذ بفن المنظور والخداع البصري والبراعة من استخدام الألوان ، فالأشياء كما نعلم تظهر لنا مختلفة الحجم لبعدها عن عيوننا كأنها محدبة ، أو مقعرة بسبب الخطأ اللوني الذي تتعرض له العين ، وهذا النقص الطبيعي يستخدمه الرسم لمصلحته فينقل الفنان ما يراه هو ، وبنظر (أفلاطون) الرسم واقعي يعكس ما يراه ويقلّد دون التعمق بالمعاني الأخلاقية والمثالية “(11) التي من اللازم أن يصل اليها الفنان ، فالتصوير عند (أفلاطون) من الفنون التي تبعد المحاكي من حيث الممارسة عن الحق والجمال والخير ، بسبب عدم التعمق بالمعاني الأخلاقية المثالية ، فالرسم في طبيعته يغالط في طريقة المحاكاة الأفلاطونية للمثل حسب طبيعة المحاكاة الأولى ، أي حسب النوع الأول من الفن الذي يكون في طبيعته ينتمي الى الرؤية السطحية ، لا الى المحاكاة ذات البصيرة والاستنارة للوصول الى ما هو أعمق من المظاهر الخادعة ، فالعين قد تكون من الوسائل المخدوعة بسبب الخطأ اللوني الذي تأخذه من الطبيعة ،أو من المشاهدات المتحركة للأشياء ، فالخداع قد يكون من ركائز الرؤية عند الرسام الذي ينقل الأشياء دون تعمق حسب المحاكاة السطحية التي لا يريدها (أفلاطون) في مثله ، ويبحث عن التعمق بالمعاني للوصول الى عالم المُثل ذات البعد الجمالي والأخلاقي والمثالي ، ومن الصعب أن يتوفر في فنون التصوير ومنها الرسم والنحت أيضاً هذا الصدق الجمالي الذي يبتغيه.
إذن ، فالجمال الأفلاطوني ما هو إلا فكرة تتكون ” بإدراج ما هو مشترك في الأشياء الجميلة واستبعاد النقاط التي تختلف عن الجمال وهذا هو بالضبط ما نعنيه بالمفهوم ، ولذلك تقوم نظرية (أفلاطون) على أن المفاهيم هي حقائق موضوعية ويطلق عليها (…) المُثل وتفسر جوابه الفلسفي على أنها تلك الحقيقة المطلقة والقصوى التي يمكن أن تفسر كل الأشياء الأخرى ، فهذه النهضة في النفس تحصل بالدرس الذي يرمي الى اجتذاب العقل من الحسيات الى اليقينيات ومن المنظورات الى غير المنظورات والأبديات ، وكل ما يثير العقل الى التفكير في طبيعة الأشياء الجوهرية يؤدي الى احراز النتيجة نفسها ” (12).
إنَّ عالم المُثل عالم عقلي ، وأن الخير والحق والجمال ينتمون الى هذا العالم بوصفهم حقائق يبحث عنها (أفلاطون) في سياقاته المفضلة ودروب العقل التي يجب أن يجعل منها الدروب السالكة لهذه القيم العليا في عالم مثله ، وما الفنون سوى أدوات قد تحاكي الاشياء بسطحية وتبعد المحاكي عن الجمال الحقيقي ، أو قد تحاكي القيم العليا وتوصل المحاكي والنفس البشرية الى عالم الحقيقة وهو عالم المُثل الأفلاطونية ، ولكن ليست كل الفنون تنتمي الى عالم المُثل في محاكاتها ، ويتم التعامل مع هذه الفنون على مدى انتمائها الى الجمال الأفلاطوني على وفق مفهوم المُثل والمحاكاة لديه .
الهوامش
1. ديديه جوليا: معجم الفلاسفة والمصطلحات الفلسفيْة، بيروت: دار المؤلف للنشر والطباعة والتوزيع، 2016، ص 19، ص20.
2. د . راوية عبد المنعم عباس : القيم الجمالية ، القاهرة : دار المعرفة الجامعية ، 1987، ص 43.
3. محمد جديدي : الفلسفة الإغريقية ، الجزائر : منشورات الأختلاف ، 2009، ص281.
4. نفسه ، ص281.
5. أفلاطون : السفسطائي ، ترجمة : الأب فؤاد جرجي بربارة ، دمشق : الهيئة العامة السورية للكتاب ،2014، ص102، ص103.
6. نفسه ، ص 105، ص107.
7. د. أنصاف جميل الربضي : علم الجمال بين الفلسفة والأبداع ، عمان : دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، 1995، ص26.
8. نفسه ، ص55.
9. نفسه ، ص27، ص28.
10. أفلاطون : الثيئيتتس ، ترجمة : الأب فؤاد جرجي بربارة ، دمشق : الهيئة العامة السورية للكتاب ، 2013، ص 217،ص218.
11. د. غادة المقدم عذره : فلسفة النظريات الجمالية ، بيروت :جروس برس، 1996.، ص55، ص56.
12. نفسه ، ص 53.

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *