دارون في لباسه العربي /محمد كريم الساعدي

في غرفتي كل الأشياء مرتبة بشكل دقيق حتى أني أحفظها عن ظهر قلب ، واذا أردت شيئاً أذهب اليه دون وعي من كثر ما حفرت الأشياء في ذاكرتي، التي أغلقوها عليها  وأصبحت أماكنها مقدسة داخل الغرفة .. وأنا لا أستطيع أن أغيرها الى أي مكان آخر ..  

 في أحد المرات حاولت أن أتصرف بهامش من الحرية في نقلها الى مكان أخر في نفس الغرفة قامت الدنيا ولم تقعد على ما فعلت ..

أرجعوا الأشياء الى مكانها بسرعة عجيبة وكأن كل من في البيت قد أتفقوا على أماكنها المحددة ..

وسألت نفسي لماذا هم لقننوني بوجودها في حياتي دون وعي بها ؟

 ولماذا هكذا ترتيبها؟ ولماذا هي مرتبة بهذه الطريقة وليست غيرها؟

 وهل يوجد من علمهم عليها ؟  ؟

فأنا لا أعلم .

وبعد أن سألت نفسي عن الأشياء بصغيرها وكبيرها ، ولماذا كلها في داخل هذا الغرفة بالذات؟ دون الغرف الأخرى؟ ..

فكبيرهم يتجول بغرفته بحرية لقلة الأشياء فيها التي لا تعيق حركته ..

وصغيرهم  له حرية أقل على الرغم من الأشياء في غرفته أكثر بقليل من غرفة الكبير.

لكن فجأة ظهر لي سؤال حيرني هل هذه الأشياء هي في الغرفة ؟ أم في عقلي فقط؟.

لأن عقلي هو الذي يحفظ مكانها فقط , ولو أزلناها منه لا تستطيع أجزاء جسدي تذكرها ..

في المنام كل الأشياء متغيرة ولا يوجد أحد يؤنبني على تحريكها…

 وسألت أمي ذات مرة قلت لها : هل تعتقدين أنني سأستخدم كل هذه الأشياء هنا ؟ أم أستطيع أن اتخلى عنها لكم في المستقبل ؟

قالت : يا بنيتي هذه الأشياء ستأخذينها معك وتستخدمينها في غرفتك الأخرى .. فقلت: وهل توجد لدي غرفة أخرى أحمل معي الأشياء نفسها ؟ وهل تبقى معي الى الأبد؟

قالت: أنها ميراث جدتك لي وهي ميراثي لك وميراثك لأبنتك وهكذا يستمر وجودها في حياتنا .

في هذه اللحظة شرد مني وعيي ولم أتذكر ما حولي ..

في افق الذاكرة لاحت لي صورة قاعتي الدراسية وأنا طالبة في كلية البنات كيف أن أحدى زميلاتي سألت أستاذ المادة ..

كان الدرس حول نظرية التطور لدارون وكان الأستاذ يشرح لنا عن التطور ومن كثرة ما أعاد لنا الدرس حفظنا مقولته عنها وعن معنى التغيير حتى نبرة صوته الخشنة أتذكرها .

 كان يقول لنا: يا بنات أن التطور هو التغير في السمات الوراثية الخاصة بأفراد التجمع الأحيائي .. وحاول أن يطبقه على حياتنا اليومية بأمثله كثيرة ويربطها ببعض الامور الاجتماعية ..

لكنه لم يذكر لنا أي مثال عن نصف المجتمع الضعيف وهل يتطور في تجمعه الأحيائي …

ونحن نتفاعل مع الدرس ونحلم  بالتطور أستخدام الأشياء كون التغير والتغيير يهمني وزميلاتي أيضاً ، لأن أشيائي في الغرفة ثابتة  لا تتغير ووتدها يصل الى سابع أرض .

وأنا بين ذاكرتي وحلمي الذي أصبح يبتعد مني اكثر فأكثر وبين واقعي المبهم .. في هذه اللحظة سألته بصوت عال وهو متمثل بشخصية أمي الواقفة أمامي ..

وصرخت بوجهها أيقظ الأنثى في داخلها  فقلت : لكن دارون في تطوره نسي أن تاريخنا نحن البنات الشرقيات لا يتطور ..

فنحن نفس جداتنا وأمهاتنا وبناتنا نفسنا ، فمتى نجد أشيائنا وقد رتبناها بأنفسنا بشكل جديد .

ولفظت أسم دارون وأنا أمسك بكتفي أمي وقلت:  يا دارون الا تنتج لنا نظرية أخرى تحاكي عقول أسلافنا وتقول لهم أن تطور الأشياء هي سنة الحياة وبقائها كالجمادات دون تطور هي من المآسي التي أنتجت لنا ضياع نصف المجتمع .. وعدت الى صمتي المطبق نطقت بعدها بهمس وحزن عميق في داخلي يبعثر أوراقي : يا دارون فقط في الاحلام نتطور وفي الحقيقة الأشياء نفسها ثابتة لا تتغير.. لا ننتج حياة جديدة بل حياة مكررة ومستنسخة كحياة جدتي وأمي ..

لكن دارون لم يسمعني كون امري لا يهمه .. وحاولت .. وحاولت مرة اخرى بعد  أن جن جنون بداخلي .. وأصبحت لا أعرف نطق أي كلمة ،وكأن لساني تخلى عن وظيفته وأصبح يداً ثالثة في فورة التغيير الصامتة .. كنت أريد أن أحرك كل الأشياء في غرفتي ولو في مخيلتي المشوشة، لكن محاولاتي باءت بالفشل …

وعدت وأنا اغمض عيني وكل شيء في عقلي تبعثر حتى أفكاري هي الأخرى تبعثرت ..

وتخيلت صورة دارون في لباسه العربي وهو ينظر الي بعينيه الغاضبتين وبسلطته المطلقة جعلتني اصمت ولا أتكلم .. وأنحنى رأسي الى الارض وعينيه تحولت كمطرقة تدق على أوتاد ثبات الأشياء في غرفتي المظلمة .

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *