يختلف طبيعة تناول مفهوم الوعي والإشارة اليه في حالة من حالات التدهور التي تخص قضايا مثل الحروب والازمات الصحية وحالات الطوارئ وغيرها من المسببات التي نسمع من خلالها هذا المفهوم ونتداوله بين أفراد المجتمع بصورة ملحة ومتكررة ، وهنا لابدّ أن نعطي صورة عن الوعي وكيفية الإلمام بمفهومه واستعمالاته في بعض المشكلات والأزمات التي تواجهنا في قضية ما ومنها الظرف الصحي الحالي .
اليوم ونحن نواجه خطر الأزمة العالمية الصحية المتمثلة في مرض (كورونا) ، هذا الفايروس المعدي الذي حقق انتشاراُ غير مسبوق على مستوى العالم ، بحيث جعل أغلب دول العالم شبه مغلقة على نفسها ، وأصبح العالم في هذه الأزمة هو عبارة عن مناطق معزولة عن بعضها البعض ، لكن هذا الفايروس كشف حقيقة مهمة ، وهو انه بدأ بنظام شمولي في الصين وأنتشر في أغلب دول العالم ، وحطم كل الأسوار الصحية للدول المتقدمة التي تتباهى بأنظمتها الصحية الممتازة ، والتي ترافق أنظمتها الديمقراطية والرقابية على مستوى تولي الأفضل في المكانات والدوائر الصحية في هذه الدول ، على أعتبار أن الأنظمة الديمقراطية تتمتع بأنظمة حكم تعد متقدمة على مستوى العالم كما هي في أمريكا ودول أوربا الغربية . لكن الموضوع الذي يعطي انطباع مختلف عن طبيعة الديمقراطيات في العالم وهو أن مواطني هذه الدول قد ساعدت في نشر الوباء في دولها من خلال عدم الالتزام بالتعليمات الصحية ، أو قد يكون بتأخر القرارات الصحية من قبل القائمين على الحكومات في هذه الدول ، فهل الموضوع يرتبط بطبيعة الوعي لدى المواطن على مستوى العالم في الدول المتقدمة وغيرها؟ ، أم أن المشكلة هو في الوعي الجمعي لدى المنظمات والأنظمة الحاكمة في هذه الدول المتقدمة والانظمة الاخرى ؟ . ومن هنا سنعرج أولاً على مفهوم الوعي وطبيعته حتى نعرف أين تقع المشكلة الحقيقة في هذا الجانب .
يعرّف الوعي بأنه ” الإدراك ، أو هو صحوة الفكر أو العقل ، والوعي في اصطلاح علم الاجتماع هو إدراك الفرد لنفسه وللبيئة المحيطة به ، وقيل إدراك المرء لذاته ولما يحيط به إدراكاً مباشراً، ومن ثم يعد الوعي أساس كل معرفة”(1)، والمعرفة التي تتشكل في داخل عقل الانسان ، وتنمي ذهنيته في كل ما يحيط به استناداً الى التجارب التي يخوضها على مبدأ التعلم والتعليم الذاتي ، أو على وفق المناهج التي تعد في المؤسسات التعليمية في بلده . كذلك يصور الفيلسوف الأمريكي (جون سيرل – أستاذ العقل واللغة في كلية الدراسات العليا جامعة كاليفورنيا) الوعي بنوع من الواقعية المرتبطة بحياتنا اليومية ، أي أن ما يشير اليه (سيرل) بأن الوعي هو مرتبطة بكياننا اليقظ بما حولنا ، وانتباه مستمر ، ودونه تصبح العملية ليست واعية ولا دخل لمفردة الوعي فيها ، أي أن الوعي لديه ” يتكون من حالات قدرة على الإحساس ، أو المشاعر ، أو الشعور ، تبدأ في الصباح حين نستيقظ من نوم بلا أحلام وتستمر طوال اليوم حتى نسقط في غيبوبة أو نموت أو ننام مرة أخرى أو لا نعي بشكل ما “(2) ، وهنا من الممكن أن يشير (سيرل) الى الوعي الآني ، أو الوعي اليومي المعاش ، على الرغم من أن الوعي يأخذ مديات أبعد زمانياً من اللحظة المعاشة في الوقت المرافق لحدث معين ، أو ظاهرة معينة مرتبطة بالفرد بصورة خاصة ،أو بالجماعة والمجتمع بصورة عامة . وللجماعة والجماعات وعي مشترك مرتبط بها ، يتشكل ايضاً من تجارب مشتركة ، أو من أسس تعليمية ، واجتماعية ،وسياسية وغيرها ، تم تنظيمها من أجل ايجاد هذا الوعي الجمعي في فئة ما ، أو شعب ما , لذا فأن الوعي الجماعي يعرف على أنه ” التفكير والإحساس والإدارة العامة لمجموع أفراد الجماعة أو المجتمع ، والتي تختلف عما يمكن أن يفكر فيه الفرد منها ، أو يحس به ، أو يريده لنفسه ، لأن الاجتماع يولد في نفوس الافراد كيفيات جديدة ، وكأن هناك وجداناً جماعياً ، أو شخصية جماعية تفرض نفسها على الافراد من الخارج ، وتملأ نفوسهم من الداخل “(3) ، وهذه رؤية الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (ديفيد إميل دوركايم)، التي يرى فيها أن الارادة الجمعية التي يتشكل الوعي لديها هي من تفرض صيغة التعامل في داخل الجماعة على الافراد ، وليس طبيعة الفرد هي من تشكل هذا الوعي ، وكما نلاحظه اليوم في هذه الازمة أن من أسهم في نشر هذا الوباء في اغلب الأحيان ، هو تداخل صلاحية المعرفة بين الوعيين الفردي والجمعي ، والذي ساهم في أرباك عمل المؤسسات الصحية والأمنية في فرض مفاهيم أوجدها الوباء منها العزل الصحي العالمي ، والحجر الصحي العلاجي للأفراد والجماعات في داخل المدن وغيرها من المفاهيم الصحية ، لأن الوعي الفردي وفرض ارادة التمرد أسهم في ارباك الوعي الجمعي وأخرجه عن أطر السيطرة في مجتمعات مختلفة في الغرب ، أو في دول الشرق الأوسط وغيرها ، لذا كان من الأجدر أن يكون هناك نظام توعية مرن يترافق مع بنية الوعي الجمعي في المجتمعات ، وهذا نظام التوعية يكون منبه دائم لعمل الوعي الفردي والجمعي في داخل النظم الاجتماعية المختلفة ، والتي من المفترض أن تستند الى مجمعة من النقاط في عملية التوعية ومن هذه النقاط هي :”
• نشر المعرفة الصحيحة حول موضوع معين ليتسنى للمتلقي تجنب الضرر أو تجنب الكارثة التي قد تحدث قبل وقوعها .
• جعل الناس على علم بأمر ما ديني أو دنيوي ، وإقناعهم به للعمل بمقتضاه ، أو هي : مجموعة من الانشطة التواصلية والتربوية الهادفة الى إيجاد حس ديني أو دنيوي في نفوس الناس يُترجم الى سلوك وعمل.
• استعمال وسائل تعليمية وإرشادية محددة لتوعية الأفراد على تعديل سلوكهم وتحذيرهم مما قد يحيط بهم من مخاطر (…).
• العملية التي تسعى الى إكساب الفرد وعياً حول أمر ما أو أمور بعينها ، وتبصيره بالجوانب المختلفة المحيطة بها “(4).
وهذه النقاط التي من المفترض على الوعي الجمعي أنه متعامل معها ومستوعبها في الدول المتقدمة ديمقراطياً على أعتبار أن الانظمة الديمقراطية التي تتباها في تصنيفاتها العالمية على مستوى الجامعات والنظم التعليمية والتربوية قد عملت على مثل هكذا برامج للتوعية ، ولكنها سقطت في اختبار عالمي ، على الرغم من التباين في مستويات التعامل فيما بينها مع الكارثة الوبائية .
أما في مجتمعاتنا العربية وهنا يتوضح أمر مهم في هذه المسألة إن قضية الوعي الجمعي فيها هو أقل عن النضج المعرفي في كثير من الاحيان من الدول المتقدمة ، لكنه اثبتت نوعاً ما تميز في بعض الجوانب من السيطرة الجمعية على هذا الفايروس القاتل مما جعل عدد الإصابات أقل بكثير في ايامه الأولى من الدول المتقدمة ، غير أن هذا الوعي بدأ يتأثر في بعض الدول ومنها العراق بخطابات غير واعي لحقيقة هذا الوضع الوبائي ، مما أظهر بوضوح صراع قديم ومازال مستمر الى الآن في دولنا العربية ، وهو الصراع بين الدين والعلم ، ومن يشكل الوعي الجمعي والفردي في مجتمعاتنا ، وهذا ما جعل بعض الأفراد في المجتمعات العربية يلتزمون بالتفسيرات الدينية الغيبة لكل الظواهر دون أن يضعوا لها حلول مادية مستندة الى تفسيرات العلم للنجاة من هذه الكوارث ، وهذه الحالة تبين ظهورها بشكل معلن في اغلب المجتمعات العربية ، مما ساعدت في تشكيل وعي سلبي يسهم في تمرد الافراد وبعض الجماعات من استغلال المعرفة الصحيحة والسليمة القائمة على الوعي والتوعية كما في النقاط الأربعة التي ذكرناها سابقاً .
لذلك فأن هذه المقدمة والخوض في مفهوم الوعي بشقيه الفردي والجمعي ، وحسب ما افرزته الحالات الوبائية وطريقة التعامل معها ، وعدد الاصابات في مختلف دول العالم المتقدم ودول العالم الثالث ، اثبت بأن الوعي يجب أن يكون محفزاً دائما وأن يبعد اصحابه عن صفة الغرور بالإمكانيات المادية والتقنية والتطور لديهم إذا لم تواكب عمل التوعية التي ينطلق منها الوعي الجمعي في الدول المتقدمة وغيرها ، وكذلك أن لا يغيب الوعي خلف تفسيرات وأمور غيبة لها مجال معرفي أخر من الممكن أن تخوض به في مجال آخر، لكن مع هكذا ظروف يتطلب البحث في الجوانب العلمية والمعرفية من أجل النجاة .
فالوعي هو معرفة بالإمكانات المتوفرة وهو وعي بالطرق المستخدمة ، وهو وعي قادر على تحفيز الجماعات والافراد لأي كارثة إنسانية ، ولا يقبل هذا الوعي التغييب ،أو الاستناد الى تكنولوجيا وتقنيات قد لا تكون بديلة عن الانسان في مثل هكذا ظروف .
الهوامش
1. د عمر صالح بن عمر : مفهوم الوعي والتوعية وأهميتها، الشارقة : جامعة الشارقة ، ب، ت ، ص 38.
2. كريستوف كوتش : البحث عن الوعي ، مقاربة بايلوجية عصبية ، ترجمة : عبد المقصود عبد الكريم ، القاهرة : المركز القومي للترجمة ، 2013، ص31.
3. دكتور عبد المنعم الحفني : المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة ، القاهرة : مكتبة مدبولي ، 2000،ص947.
4.د عمر صالح بن عمر : المصدر نفسه ، ص39،ص40.