صور العنف في المسرح السياسي العراقي/ الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

يتمظهر نص العرض في مسرحية (حروب) على  مفهوم العنف والعنف المقابل الذي يتولد في الأفعال والأقوال وما ينتج عنها من احداث تتمحور على قضية ما ، فالنص الذي كتبه (هاكيف ماليكي) وترجمة (الدكتور سامي عبد الحميد) وأعده (سعد محسن) ، يدور حول قضية عالمية يمكن أن تطبق في أي مكان إذا ما توافرت الظروف الملائمة لها . فالكاتب (هاكيف ماليكي) أراد أن يقدم تجرب’ كوسوفو كمحور لقضية دارت الحرب حولها بين (الصربي والالباني) والذي يصور فيها مرجعيات الصراع تعود الى كون المتصارعين يحملون الجنسية الامريكية ،في إشارة الى أن العنف مصدره النظام العالمي المسيطر على إدارة أغلب الحروب بالعالم ، وأي أن فكرة الصراع حول كوسوفو هي فكرة امريكية والصراع يدار بأيدي امريكية ، وهنا تأتي أربع صور لهذا الصراع هي:-

  1. إنَّ الصراع ذات مرجعيات عالمية حتى وان كانت الادوات محلية بين طرفي الصراع هو النظام العالمي .
  2. إنَّ مصلحة النظام العالمي هي إدارة الصراع مما يجعل توجيهه يصب لمصلحته رغم أن الأطراف المتصارعة مباشرة هي من تخسر نتيجة العنف المتبادل.
  3. يأتي العنف كرد فعل اتجاه ما يراد له ان يكون في هذا الموقف، دون الاشارة للطرف المسبب هو من يدبر بالخفاء الصراع.
  4. يبقى العنف ذات طابع يتصف بالمرض النفسي لكون المتصارعين ينتهجان العنف ، مما يبقى الغموض يلف الحقيقة التي تدار من وراء الكواليس ومن يستغلها النظام العالمي لصالحه.

هذا إذا ما تيقنا أن كلَّ طرف في واقع السياسة الدولية ينحاز لنظام عالمي معين، مثلا العرب يرجعون الى الكتلة الشرقية سابقاً روسيا حالياً والالبان شعب ذو صبغة إسلامية ، لذلك فان امريكا ونظامها العالمي جعل من الصراع يقع بين نظام إسلامي وآخر ذي صبغة شيوعية ، مما جعل الاستفادة من وراء هذا الصراع تصب لصالح النظام الغربي (الامريكي)، وهنا تتضح فردية صاحب كتاب (صراع الحضارات) الامريكي (هننغتون) في كون الحضارة الاسلامية هي محور الصراع مع الحضارات الأخرى ،وفي هذا إشارة الى أيقونة الاسلام كدين يحمل فكرة العنف اتجاه الاخرين بحسب تفسير (هننغتون) .

من هذه المقدمة عن النص الأصلي الذي عمل (سعد محسن ) عملاً اعداده  ليكون صورة متطابقة عن الصراع في داخل العراق ،وبين أطراف متصارعة يمتد صراعها من الماضي في عهد النظام السابق الى الحالي والتي تكون امريكا هي الطرف الذي يسير الاحداث فيه .

وفي نص العرض يكون فيه الخطاب الذي يستهدف في هذه المسرحية هو موضوع العنف والافكار التي تروج له ،إذ يكون الخطاب الأول المستهدف متمثلاً في نظام السلطة الحاكمة وما وراءها من مرجعيات تدفعها الى تبني العنف كمنهج ضد الإنسان في العراق الذي هو محور العنف والحروب والخوف والدم والموت ، إذ تحول حياة الإنسان العراقي المتمثل في جماعة أو فئة ما في داخل الوطن وانظمة الحكم المتوالية قد تبنت في داخل خطابها الرسمي وهو الخطاب الأول المراد نقضه مفهوم الخوف والعنف من خلال  الممارسات ، حتى ان هذه الممارسات التي رافقت بناء الدولة تحولت باللاوعي في تصرفات وممارسات كل جماعة تحكم الوطن ، وكذلك تكررت في ممارسات الدولة التي شكلتها كمفهوم مجموعة إرهابية أطلقت على نفسها (داعش) أو الدولة الاسلامية التي تتخذ العنف المفهوم  الأوحد في السيطرة على الآخر .

إنَّ نص العرض يشير الى الصراع الدائر في العراق حول السلطة وهذا الصراع الذي لا ينتهي على أرضه في ظاهرة صراع بين فئات وجماعات للسيطرة على منهج  الدولة وقيادتها ،وفي الباطن يتمركز هذا الصراع بيد اطراف خارجية متمثلاً بالاحتلال الامريكي للعراق ووضعه للقوانين التي تعد قنابل موقوتة في طريق أي اتفاق سلمي ، وكانت من اهم فتراته تتويجاً لهذا المفهوم عام 2006 عام الطائفية والقتل ،عام العنف ،عام الإرهاب ،عام جعل صورة الارهاب تلتصق بصورة الإسلام بوصفه  ديناً  يحمل أفكاراً متطرفة وكل ما يقوم به هو اشاره لهذا الدين حتى أصبح الاتفاق العرفي لدى أغلب الشعوب الغربية بأن دين الإسلام وشعاراته رمز للعنف والإرهاب الفكري والمادي في العالم .

ينطلق عرض مسرحية (حروب) للمخرج (إبراهيم حنون) ، الذي قدم في قاعة المسرح الوطني، ينطلق في اشتغالاته من نقد الخطاب الأول الذي يركز على السلطة وخطابها الذي يتمظهر في آليات التعامل مع الجماعات أو الافراد على وفق سياقات ثقافية محدده ، وفي هذا العرض المقتبس من الصراع الصربي الالباني حول (اقليم كوسوفو) المتنازع عليه بين الطرفين ، إذ أراد المخرج أن يطبّق صورة الصراع على الحالة العراقية ، ولكن في صورة اخرى يظهر فيها الصراع على تشكيل السلطة وخطابها الجديد الذي يواجهه النظام السلطوي القديم وامتداداته الحالية عند فئة معينة من العراقيين . والصراع هنا على نقد خطاب السلطتين السابقة والحالية وخطاباتهما الاقصائية ضد الآخر في تصوير مباشر للصراع على السلطة في العراق ، وفي الوقت نفسه يشير العرض الى نقد من وقف ويقف وراء الخطابين وفضح اهدافه . وهنا تمكن المغايرة في تأكيد المخرج في مسرحية حروب على المغايرة لهذه الخطابات الثلاثة (خطاب السلطة القديمة وخطاب السلطة الجديدة ،والخطاب الذي شكلهما وهو في واقعه اشارة للدور العالمي في هذا الصراع).

يبدأ العرض بموسيقى لها دلالات السلطة من خلال استخدام الأسلوب الاستعراضي في الموسيقى ، إذ يتوزع مجموعة من الشخصيات في اضاءة خافته على خشبة المسرح ،وهم يرتدون ملابس ذات طابع رسمي وله دلالة غربية ، وملامحهم غير واضحة في إشارة الى كواليس السياسة . وفي المقابل يكشف لنا المخرج عن خطاب الآخر الذي يمظهره للجمهور من خلال صوت المرأة على شكل اهات حزينة ترمز الى أرض الوطن التي تدور عليها الاحداث ، بالإضافة الى طريقة الاداء الحزين على نغمة الحجاز الذي يشير الى محنة الوطن والى ما وصل اليه من صراعات جعلت منه يقع في دائرة المواجهات ، تأتي بعدها صوت شهقات ثلاث تصاحبها صوت طعنات يمثلها المخرج بضربات العصى التي تحملها الشخصيات بعد انتهاء صوت المرأة واختفائها من على خشبة المسرح ، فالمغايرة تأتي من اظهار الخطاب المغيب في ساحة الحضور للخطاب الأول للتأكيد على اظهار القضية المراد طرحها في الصراع .

بعد ذلك تتشكل بقعتي ضوء خارج المجموعة التي تتجمع في وسط المسرح ، ويخرج من المجموعة شخصيات ، كل واحد منهما يقف داخل بقعة ضوء ترافقهم موسيقى ترقب . ويبدأ كل شخص منهما بإخراج أكياس من المال لتوزيعها على الأشخاص الذين يبدأون بالتقدم لأخذها في دلالة الى المال السياسي وكسب الاصوات بهذه الطريقة . وهنا اشارة على اختزال القضية في هذا الصراع بطرق محددة ، ومن بينها المال . إنَّ الصور التي تشير الى تعددية الاختلاف في الدلالة ذاتها، مثلاً المال الذي يشير ظاهراً الى كسب المواقف السياسية هو في الوقت نفسه يشير الى تفريق أبناء الوطن كذلك ضرب الأرض بالعصي في آنيتها التي ترمز الى القوة عند حاملها فهي تشير أيضاً الى تمزيق أرض الوطن . وهذه الاشارات التي تختزل قضية الأرض والحكم والسياسة تهدف الى محو ادعاءات التظاهر بالإصلاح لهذه الارض لصالح اظهار المغيب الذي يعاني سطوة هذا الخطاب المتسلط، وفكره الإرهابي الذي يمارسه على خارطة الوطن الثقافية والإجتماعية والأخلاقية وغيرها.

تتشكل بعد ذلك بقعة ضوء مستطيلة في وسط الخشبة بشكل طولي وتخرج في وسطها شخصية رجل يرتدي ملابس تشير على شبحية هذه الشخصية ودورها المحرض في المسرحية ، فهي ترتدي غطاء الرأس للإشارة على دورها الخفي في المسرحية . وهنا يشير الى الشخص صاحب السلطة القديمة الواقف في بقعة يمين المسرح ، ويأمره بالخروج ، ثم يرفع بيديه الة الصنج ويضرب طرفيها للإعلان على خروج شخصية من بقعة الضوء الايمن، ودخولها في المجموعة التي تدخل في المستطيل الضوئي ،وهم يحملون على رؤوسهم مقاعد يقلبونها على رؤوسهم فيها مصابيح كأنها تشير الى حالة الخطر الذي تطلقه سيارات النجدة والاسعاف  في حالة الحوادث ، وبعد ضرب الصنج مرة أخرى ليتوقفوا داخل المستطيل ، ليُسلَّم الصنج بعدها للشخص الذي يمثل السلطة الجديدة ليضرب به إعلان عن بداية المرحلة الجديدة ، ثم يأخذ منه الصنج ويسلمه سوط دلالة على أداة الحكم والسيطرة على المجموعة بما فيها صاحب السلطة القديمة . إذ يرمز المخرج بهذه الاشتغالات الى تحديد الفكر الذي يشَكل السلطة وإرهابها للأخرين وأدواتها وأفكارها التي تدار بها الأمور في الساحة الثقافية  ، وإشارةً على من ينتج هذا الفكر وتسلطه وأدواته هو ليس الظهور المباشر كما هو صاحب السلطة الجديدة بل ما وراءها من أيادي خفية مثلها المخرج بالرجل صاحب رداء الرأس غير الواضح المعالم . حينما يخرج الرجل الخفي يبدأ صاحب السلطة الجديدة بالتهديد والوعيد للمجموعة من خلال استخدامه للسوط ، وهنا يبدأ صاحب السلطة القديمة بالاعتراض عليه ، ويأتيه بأفكار وطرق جديدة بأنه يرفض افعاله لأنه مثقف ولا يؤمن بالقوة . ويزداد الصراع في أداء جسدي يستخدم في الطرفين الاشارات والايماءات الدالة على شكل الصراع في العراق الجديد (عراق  ما بعد 2003) حتى يستوى الأمر لصاحب السلطة الجديدة الذي يأمر المجموعة بالوقوف كدلالة على تنفيذ اوامره .

إنَّ المخرج بإظهاره شكل الصراع بين الطرفين، هو من أجل طرح الخطابين للنقد والنقد المتبادل لتبيان مدى صلاحيتهما في الحكم، وهو نوع من استعراض المشكلة الحقيقية التي يمر بها الوطن وفضح الخطابين القديم والجديد أمام الجمهور ،الذي يريد ايصال رساله بأن كلا الطرفين يدعى الأحقية ، ولكن كلاهما يستخدم أدوات القمع والاقصاء ذاتها ضد الآخر . وهنا المجموعة تمثل الأكثرية الصامتة التي ليس لها قوة في إدارة الصراع . ويعلن الخطاب الجديد عن نفسه وعن أدائه الجديد وأساليبه من خلال إطلاق كلمة (إرهابي) لكل من لا ينصاع لأرادته ومن تكلم معه ورفض سلطته هو (إرهابي) ، وهنا إحاله الى مفهوم الإرهابي حسب ما خرج به الإطار النظري . فهذا المعنى لكلمة ارهابي يوضح الاتي :-

  1. إنَّ صاحب السلطة الجديدة أطلقها على من يعارضه ، أي إنَّ الدولة يمكن أن توظف هذا المعنى ضد معارضيها وهذا المعنى المباشر للمفهوم .
  2. إنَّ من جعل السلطة تنادي بهذا المفهوم هو الدعم الذي أتاها من قبل سلطة أعلى منها وهي من سلمتها ادوات التسلط على الآخرين .
  3. هذا المفهوم غير ثابت في هذه المرحلة لأن الإعترض على السلطة سوف يستخدم الوصف نفسه في المشهد الاخير من المسرحية ،حينما يقوم صاحب السلطة بدور المعارضة نفسها في المسرحية .
  4. هذا التبادل في أدوار استخدام المفهوم هو ما يشير إليه المخرج في توظيف التواريخ التي قامت بها الحروب في العراق ، مما يشير الى أن المفهوم غير مستقر على وصف معين .
  5. إنَّ الجهة الوحيدة التي لا يطلق عليها مفهوم الارهاب هي السلطة العليا التي تمسك بخيوط الصراع وتوجهه لصالحها حسب المرحلة والتغير الحاصل بالوجوه والأدوات والعناوين .

في خضم الصراع بين الطرفين تؤدي المجموعة بعض الحركات الايمائية للدلالة على إنَّها ليست من ساهمت في إيصال الأمور الى ما هي عليه ، فتستخدم المجموع وضع الأيادي في الأصابع كدلالة لعدم إلاشتراك، وكذلك الى رفض الصراع برمته ،لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً بسبب التسلط وأدوات السلطة وأساليبها الترهيبية .

وفي المشهد التالي يوظف المخرج ضربة السوط مع حركات جسدية لها مدلولات مهمة في فضح الإرهاب الفكري الذي مارسته السلطات المتعاقبة على العراق ،إذ تأتي كل ضربة سوط مع تاريخ معين له دلالات في تاريخ السلطة في العراق ، وهي كالآتي:-

  1. ضربة السوط الاولى يرافقها صراخ ويأتي صوت احد افراد المجموعة ليذكر بعام (1980) عام بدء الحرب العراقية الايرانية ، فيتشكل من الأجساد حركات تتوج بتشكيل نحت جسدي عن حالات التعذيب والألم نتيجة الحرب .
  2. ضربة السوط الثانية يرافقها صراخ وينادي آخر بعام (1991) دلالة على حرب الخليج وإحتلال الكويت وما تبعتها من مأسي بسبب مغامرات السلطة ، ويتشكل من الضربة أداء جسدي نحتي يعطي ملامح لتلك الفترة والحرب التي رافقتها .
  3. ضربة السوط الثالثة ، يرافقها صراخ وحركة على خشبة المسرح تؤدي الى خروج أحد أفراد المجموعة لينادي بعام (2003) عام سقوط السلطة القديمة وبداية الاحتلال وتشكل السلطة الجديدة .
  4. ضربة السوط الرابعة مع فوضى في المسرح لتستقر الأجساد على تشكيل نحتي يدلل على الحرب الاهلية ويرافقها وشخص ينادي بعام (2006) عام الطائفية.

بعد ذلك يبدأ جدال بين الإثنين (صاحب السلطة الجديدة وصاحب السلطة القديمة )، وهذا الصراع يكشف مدى مأساوية الحدث على أرض الوطن . إذ يسحب صاحب السلطة الجديدة الرجل الآخر ويقوم بأداء حركات جسدية تشير الى طريقة التعذيب ، في حين أن الآخر صاحب السلطة القديمة يرد عليه الجواب (بأن التعذيب أصبح طريقة قديمة في اسكات الخصوم) ، فيأتي رد صاحب السلطة الجديدة باتهامه (بأنه عميل لمخابرات اخرى ، وطريقة التعذيب هي الصحيحة في التعامل مع مثل هكذا أشخاص من المتمردين على السلطة) .

ينتقل المشهد بعد التشكيل الجسدي بين الاثنين ، إذ يضع صاحب السلطة الجديدة السوط في رقبة صاحب السلطة القديمة ، وعلى هذا الوضع الجسدي النحتي تخرج المجموعة لتؤدي حركات الهرولة العسكرية في داخل المستطيل الضوئي، وهذه المرة المستطيل مائل من أعلى يسار المسرح الى وسطه . وهنا يبدأ صاحب السلطة الجديدة خطابه (بأن الإبادات الجماعية هي عبارة عن مسرحية يهيأ لها ثم تتم إعادة انتاجها في زمن آخر مع عرض اخر للمسرحية ) ولثناء خطابه تتلاشى المجموعة في حركات هرولة أيضاً .

يذكر المخرج مرة أخرى بأرض الوطن ومأساتها من خلال دخول المرأة التي تصاحبها موسيقى على نغم الحجاز الذي يعزف بآلة الناي مع آهاتها . ويدخل بعدها الرجلان (السلطة القديمة والجديدة) وهما يضعان أقنعة جلدية على وجهيهما ذات لونين مختلفين وكل واحد فيهما يتلمس وجه الآخر ، ثم يبدأ الصراع في أدق تفاصيله مع ذكر مناطق محددة في العراق ومنها (العشار إشارة الى البصرة والجنوب) و(الدواسة وتلعفر دلالة على الموصل والشمال) وأخيراً (بغداد وهي مركز السلطة) والمرأة تنتقل بينهما وفي يديها حقيبة يحاولان الحصول عليها في اشارة الى ثروات الوطن البائس، لأن ملابس المرأة وشكلها الحزين وحركاتها الادائية تشير الى مدى عذاباتها .

ثم ينتقل الصراع الى ذكر الجماعات وانتماءاتهم لها ويدخل عنصر الإعلام في دعم كل جماعة وتناقل أخبارها في الصراع وهذا ما يحيلنا الى دخول مفهوم العولمة ووسائل الإتصال في صنع الصراع وتوجيهه بحسب مصلحة الجهة المسيطرة على العولمة والعالم الجديد ، إذ يبدأ تبادل التهم بين الطرفين بوصف كل طرف للآخر بالإرهاب حتى يختمها صاحب السلطة الجديدة بجملة (الإرهابي الى الجحيم) في إشارة الى أن الإرهاب يجب أن يواجهه بكل الوسائل ومنها القتل والإبادة وحتى جعل العبارات التي تدخل في الجانب الديني في توزيع المتهمين بالإرهاب الى النار وجحيمها مسموحاً من أجل تدمير الأخر.

ثم ينتقل الى مشهد الإستعراض للمبارزة بين الجماعتين وهم يرفعون العصي ويمر الشخصان ،الأول والثاني في المستطيل الضوئي ويضعان كل منهما مذياعاً في رقبته ثم ينقلانه الى الشخصين الأوليين في الترتيب ، ثم يمسك كل واحد فيه عصا لتبدأ المبارزة ويسأل الثاني صاحب السلطة الجديدة (لماذا تحبون الحرب) ويجيب في حركات أدائية لتصوير المبارزة ( لأن ذاكرتي ممليه بصور الابناء الذين ماتوا والذين قتلوا قهراً) ، تزداد رقعة الصراع لتشمل أنصار السلطتين ويتبادلون الأمكنة، وفي أثناء الانتقال الذي يتكرر مع حركات القتال يعود ذكر التواريخ مرة أخرى وكما يأتي :-

  1. يذكر الثاني تاريخ (1980) سائلاً عن حب الحرب فيجيب الأول ( أحب الحرب لأن ما ممحية من ذاكرتي صور أخوية وما جرى عليه من مأساة ) وهي إشارة الى مأساة الحرب العراقية الايرانية ، وكأن صاحب السلطة الجديدة يريد أن يتهم السلطة القديمة بأرسال أخوته الى حرب لا ناقة لهم فيها .
  2. ثم يذكر الثاني تاريخ (1990) فيجيب الأول ( أحب الحرب، لأن تعودت على غضب الصواريخ والقنابل والأولاد المحشورة في الملاجئ التي تبحث عن الامان ولكن لا يوجد أمان ) ،وهنا إشارة الى مغامرة السلطة القديمة الثانية في حرب الخليج (حرب العراق مع الكويت)، إذ يموت الاطفال لا ذنب لهم سوى أنهم بحثوا عن الامان في سماء تمطر صواريخ وقنابل امريكية على العراق في اشارة الى السلطة العليا ودورها في توريط السلطة القديمة في حروب مدمرة .
  3. ثم يذكر الثاني تاريخ(2003) ،فيجيب الأول (أحب الحرب لأني تعودت على مشاهدة الاطفال، وهم يبحثون في نفايات المزابل بحثاً عن الطعام) ،وتذكير بعام سقوط السلطة القديمة وانتهاء مغامراتها.
  4. ثم يذكر الثاني تاريخ (2006) فيجيب الأول (احب الحرب، لأن جمرة الحب انطفت بداخلي واشتعلت جمرة الحرب وسيطرة على كل جسمي) في إشارة الى الحرب الطائفية التي اشتعلت في العاصمة بغداد.
  5. ثم يسأل الاول الثاني (انت هم تحب الحرب) فيجيب (أنا اقاتل من أجل الحرية) وهو يؤدي حركة الطيران والدوران على جسد الأول الذي يستشيط غضباً ، ويقول (يعني أنا اقاتل من أجل العبودية ). في إشارة الى إنَّ كلاً منهما له حجج في إتهام الآخر دون أن تكون هناك مسامح بالإقصاء للآخر حينما تكون أدوات السلطة بيد أحدهما.

ثم ينتقل العرض المسرحي الى مشهد من يمسك الأرض يملك السلطة ،إذ يبدأ الصراع بين الطرفين حول العاصمة لأنها مصدر القرار ، ويدخل الصراع على شكل حركات جسدية باستخدام العصي والايماءات والانتقال من بقعة ضوئية صغيرة الى المستطيل الذي يمثل مركز المكان (العاصمة) . وللإشارة الى هذا الصراع يدخل الرجل الخفي أو السلطة العليا المتخفية التي تقود الصراع، لتعلن أن الصراع من أجل (العاصمة ، النفوذ، الثروات، مستقبل آمن) ، ليتحول المكان بعد ذلك الى حلبة ملاكمة ويدخل شخصان من المجموعة يمثل كل منهما لمساعد الذي يمسح العرق من الجبين لإكمال الصراع ، ومن ثم ينتقل شكل الصراع من حلبة الملاكمة الى مسك المسدس المصوب نحو الآخر، واتهام الآخر بالإرهاب تحت تهديد السلاح ، أي فرض صفة الإرهاب على الآخر الذي يرفض الخضوع والاقصاء للسلطة المسيطرة .

بعد ذلك ينتقل المتصارعون الى مشهد اقحام التاريخ مرةً أخرى ولكن بطريق يقف فيها صاحب السلطة العليا كحكم بين المتصارعين في لعبة جديدة ، أي يربط كلَّ متصارع من جهة فصاحب السلطة الجديدة يربط ثلاث مرات ، الأولى من القدمين مع ترديد بعض العبارات وثانية من اليدين وثالثة من العينين . وكذلك تجري الحالة على صاحب السلطة القديمة ، ولكن مع تغيير بطريقة الربط الأولى من اليدين والثانية من العينين والثالثة من القدمين ، وكلما يزداد الالتحام عن طريق الكلام يضرب صاحب السلطة العليا الصنج ليسكتهما ، فيصل الى آخر المشهد ويقول عبارة صادمة (كلشي راح ينسي بعد ستة أشهر) في صورة معبرة عن أن من يتحكم بالأحداث هو من ينهيها لصالحة ، وليس لصالح المتصارعين ويشغلهم بشيء جديد وينسيهم الذي قبله كما فعل في الحالات الثلاثة بين المتصارعين على السلطة .  ثم ينتقل مشهد الأحذية ، إذ يدخل الشخص الثاني  ويوضع في قماش لونه أسود مجموعة من الأحذية ،وهو يتجادل مع صاحب السلطة الجديدة حول العنف والجرائم المقترفة ، وهنا يرمز بالأحذية الى القتلى من جراء أعمال العنف ، ويقوم بعد ذلك برميها من مقدمة المسرح الى الأرض التي تتقدم الجمهور في دلالة لإشراك الجمهور في عدد الضحايا من جهة ، وكذلك لتذكيرهم بأنهم  جزء من المأساة التي يقومان بها أصحاب السلطتين على خشبة المسرح . ثم يأتي طرح فكرة التمسك بالكراسي من خلال تجميع الكراسي على شكل خطين متوازيين ينتقلان بينهما مع سحب كل كرسي يتخليان عنه من قبل المجموعة ، وهنا يتم ذكر تواريخ معينة بعد الجلوس على كل مقعد في دلالة على أهم فترات الحكم في العراق وهي (1958) (1981) (1991) (2007) (2012) . ثم يدخل صاحب السلطة العليا ويسحب المجموعة وكراسيها على ايقاع راقص وكأنه يشير الى أننا نرقص على جراحاتكم ونحن من نشكل كراسيكم وحكوماتكم ، ومن ثم يعاد التشكيل الأول مرة أخرى ، ولكن بجعل صاحب السلطة الجديدة يدخل ضمن المجموعة وصاحب السلطة القديمة هو من يمسك السوط ويتهم الاخر بالإرهابي . وصولاً الى المشهد الأخير مشهد الكشف عن أصحاب السلطتين القديمة والجديدة وهم يخرجون من داخل عربتي نفايات وكل مجموعة نسحبهم في حركة دوران لها معان متعددة ، إذ يشير المخرج بهذا المشهد الى القادمين على ظهور الدبابات للحكم ، وأجسادهم عارية وهي صورة الى انكم لا تملكون شيئاً في أرض الوطن غير البياض الذي تملئونه سواداً بطريقة حكمكم الذي يستفيد منها من جاء بكم .

تمظهر مفهوم الإرهاب الفكري  في مسرحية (حروب)  في الخطاب الأول (الظاهر) المراد نقضه ، في الصراع القائم على الفعل ورد الفعل بين السلطتين (القديمة والجديدة)، الذي أوجد ظاهرة الإرهاب المبنية على ( إشكالية التسيد والسلطة) في العراق ،إذ أصبح استخدام هذا المفهوم (الإرهاب) من مظاهر الصراع المستمر ،الذي يرمى به الآخر المخالف للمتسيد في الساحة السياسية والثقافية في العراق.

كشف العرض المسرحي (حروب) عن الخطاب المخفي الذي يسيطر على طرفي الصراع ويوجههما على وفق مصالحه الخاصة ، هذا الخطاب الذي يظهره العرض بطريقة الداعم والموجه والمتنفذ في بناء السلطة وتهديمها في أي وقت يشاء، حتى لا يستطيع طرف من المتصارعين القضاء على الاخر من أجل أن تستمر لعبة الصراع ، ويبقى مفهوم الإرهاب غامضاً لأن منفذه بطريقة غير مباشرة هو المسيطر على الأحداث وتسييرها نحو مصالحه الخاصة .

خرج مفهوم الإرهاب الفكري من مجاله المحلي ليرتبط بالنظام العالمي، لأن الذين يتصارعون هم من صناعة امريكية كما يثبت انتماؤهم سواء في النص الاصلي أو المعد وكذلك العرض الى العالم الغربي من خلال حملهما للجنسية الامريكية وبالتالي يبقى التنفيذ بأيدي محلية لكن بصناعة امريكية ، ويبقى مفهوم الارهاب ظاهرياً محلي لكن النوايا التي تقف خلفه امريكية غربية .

إنَّ مفهوم الإرهاب يبقى قلقاً وغيرَ مستقر الأهداف في العرض، لأنه يتعامل مع أرضية قابلة للتشظي وتنشيطه وتفعيله بأي فترة زمنية ،كما يشهد على ذلك تواريخ الحكم في العراق ، لذا فأن العرض يطرح هذه الأرضية القلقة من خلال التواريخ المتداولة فيه ، والتي تشير الى أن الصراع بين المتنافسين على السلطة يمكن تسييرهما على وفق الاجندات الخارجية حتى يبقى الصراع والتدخل قائمين ، وما يجري من قتل وتدمير ما هو إلا صورة من صور الإرهاب المتأصل في افعال السلطات في العراق على مر التاريخ المعاصر والمدعوم خارجياً .

قدم العرض المسرحي (حروب) آليات فضح الخطاب الإرهابي من خلال الاشتغال الفني الذي وظف فيه المخرج تقنيات العرض المسرحي من أداء تمثيلي قائم على تقديم الخطابين في أن واحد كاشفاً عن الخطاب الظاهري وفاضحاً له ، وكذلك الخطاب النقيض له الذي تغلغل في ساحة الخطاب الأول من خلال عناصر العرض المشتغلة على البناء الفكري والمعرفي لظاهرة الإرهاب وتفكيكها ، لذا جاء العرض في هذه المسرحية  على وفق ما بعد الحداثة، من خلال (المغايرة والانية والتعددية والاختزال ثم المحو) على تفكيك مبررات الفكر القائم على البناء الداعم لهذا المفهوم ،والذي يعتقد مخرج المسرحية وهو نتيجة للعبة عالمية يراد منها اشغال الآخرين بالظاهر دون التركيز على من يقف ورائها ويحركها .

إنَّ العرض المسرحي كأداة تواصل مباشرة مع الجمهور وفاعلة في مجال النقد والكشف والتفكيك ، يستطيع أن يسهم في تعريف المتلقي بظاهرة الإرهاب ومخاطرها من خلال فضح القائمين على هذه الظاهرة وتبيان حقيقتها والأهداف التي يسعى من يقف خلفها لتحقيقها داخل الأوطان والمجتمعات الإنسانية .يمتلك العرض المسرحي لغة عالمية قادرة على التفاعل الإنساني مع المجتمعات الأخرى وخصوصاً في المجال البصري والحركي والسمعي ، مما يؤهل المسرح  أن يؤدي دوراً بارزاً في الدخول الى مديات أوسع في مواجهه ظاهرة الإرهاب محلياً وعالمياً ، إذا كانت الطروحات بشكل جيد وقادرة على فضح ظاهرة الإرهاب الفكري وغيره من أنواع الإرهاب الأخرى في الساحة الثقافية والإجتماعية والسياسية وغيرها .

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *