
الإعلام الجديد كآلية للسيطرة الثقافية:
تحليل نقدي معمق لكتاب “شبابيك اعتراف رقمية لصالح الكولونيالية الجديدة” للأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي
I. التأصيل المنهجي والمؤلف: التقاء الفلسفة بنقد الإعلام
يمثل كتاب الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي، الذي يحمل عنوان “الإعلام الجديد ووسائل التواصل / شبابيك اعتراف رقمية لصالح الكولونيالية الجديدة” ، إضافة نوعية وجذرية للمكتبة العربية المتخصصة في الدراسات الإعلامية. فالكتاب يتجاوز التحليل الوصفي أو التقني لظاهرة الإعلام الجديد، ليضعها مباشرة تحت مجهر النقد الثقافي والجيوسياسي. إن إضافة العنوان الفرعي الطويل — “شبابيك اعتراف رقمية لصالح الكولونيالية الجديدة” — لا تمثل مجرد وصف للمحتوى، بل هي تلخيص للأطروحة النقدية المركزية للكتاب، مما يميزه عن المؤلفات التي تتبنى مقاربات وظيفية أو احتفالية بالتطور التكنولوجي.
يُعد هذا العمل جزءًا من سلسلة إصدارات الدكتور الساعدي، وهو عمل نظري نقدي متقدم يستهدف تفكيك آليات الهيمنة في الفضاء الرقمي بدلاً من التركيز على تقديم دليل إرشادي أو وصف تقني لوسائل التواصل. وتشير المصادر إلى أن هذا الكتاب هو أحد الإصدارات الجديدة للمؤلف، ويقع ضمن الإطار الأكاديمي النقدي الذي طالما تبناه الدكتور الساعدي في أعماله السابقة.
1.2. الخلفية المعرفية للمؤلف: المنطلق الفلسفي للنقد الإعلامي
إن فهم الخلفية المعرفية للأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي أمر بالغ الأهمية لتأطير العمل النقدي المقدم في هذا الكتاب. يعمل الساعدي كأستاذ دكتور في جامعة ميسان في العراق ، وقد تخصص أكاديمياً في مجالات تبدو متباعدة ظاهرياً عن الإعلام، مثل فلسفة علم الجمال والإخراج المسرحي. فقد حصل على شهادة الدكتوراه في فلسفة الإخراج المسرحي من كلية الفنون الجميلة بجامعة البصرة عام 2014، وحصل على لقب الأستاذية عام 2016. هذا التخصص المتعدد يوفر له عدسة نقدية فريدة لتحليل الظاهرة الإعلامية، متجاوزًا حدود العلوم الاجتماعية التقليدية.
إن هذا التخصص الفلسفي المسرحي يفسر النزعة الأنطولوجية في تحليلاته. المسرح هو فن يركز على مفاهيم الوجود، والجسد، والحضور، كما يظهر في عناوين مؤلفاته الأخرى مثل الرد بالجسد والتكوين الأنطولوجي. لذلك، فإن تحليله للإعلام الجديد لا يقتصر على كونه تحليلاً اجتماعياً أو سياسياً بحتاً، بل يتحول إلى نقد للتحول الوجودي والأنطولوجي الذي يشهده الإنسان في الفضاء الرقمي. يشير هذا التداخل المعرفي إلى أن الكتاب يبحث في طبيعة الذات الإنسانية عندما تصبح خاضعة لتجربة المراقبة (الاعتراف الرقمي) ولغياب الجسد المادي الحاضر.
بالإضافة إلى خلفيته الفنية والفلسفية، يمتلك الدكتور الساعدي خبرة عملية في المجال الإعلامي والإداري، حيث عمل مديراً لقسم الإعلام والعلاقات العامة في جامعة ميسان بين عامي 2009 و2011، وكان رئيساً لتحرير جريدة “المعارف”. هذه الخبرة تمنحه فهماً عملياً للبنية التحتية والآليات المؤسساتية التي تحكم العملية الإعلامية، مما يعزز قدرته على تقديم نقد داخلي للظاهرة.
1.3. التراكم النقدي السابق وتأطير الخطاب
يرتبط كتاب “الإعلام الجديد ووسائل التواصل” ارتباطاً وثيقاً بالإنتاج الفكري السابق للساعدي، خاصة في مجال الدراسات ما بعد الكولونيالية. فقد صدر له كتاب هام بعنوان الإشكالية الثقافية لخطاب ما بعد الكولونيالية (المسرح إنموذجاً). إن هذا التراكم يمثل الأساس النظري الذي انطلق منه الساعدي لربط آليات الإعلام الجديد بمسارات الهيمنة الغربية والتبعية المعرفية. فباستخدام عدسة ما بعد الكولونيالية، لا يمكن النظر إلى التكنولوجيا كأداة محايدة، بل كأيديولوجيا مرتبطة بمساعي السيطرة العالمية.
إن اختيار الساعدي لمصطلحات مثل “الكولونيالية الجديدة” و”الاعتراف الرقمي” هو بحد ذاته فعل مقاومة معرفية وتأطير لغوي. هذا التأطير يضع الكتاب فوراً ضمن أدبيات نقد الهيمنة العالمية، بعيداً عن أطر التحليل الوظيفي التقليدي. وتكمن القيمة المضافة لهذا العمل في قدرته على نقل النقاش الدائر حول “الإعلام الجديد” من مستوى الفاعلية التكنولوجية المباشرة إلى مستوى الأيديولوجيا والسيطرة العالمية التي تعمل في الخفاء.
يوضح الجدول التالي كيف أن الخلفية المتقاطعة للمؤلف تشكل الأساس لمنهجه النقدي في دراسة الإعلام الجديد:
الخلفية المعرفية المتقاطعة للأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي.
II. تفكيك الأطروحة المركزية: الكولونيالية الجديدة والاعتراف الرقمي
تتمحور الأطروحة المركزية للكتاب حول فكرة أن وسائل الإعلام الجديد ليست مجرد أدوات تواصل، بل هي آليات متقدمة لإعادة إنتاج الهيمنة العالمية، أو ما يسميه “الكولونيالية الجديدة”. هذه السيطرة لا تعتمد على القوة العسكرية المباشرة أو الاحتلال المادي، بل تتحقق من خلال التحكم في الأطر المعرفية، والبنية التحتية للبيانات، والوعي الثقافي للمجتمعات.
2.1. مفهوم “الكولونيالية الجديدة” في الفضاء الرقمي
يُقدم الكتاب تحليلاً عميقاً لكيفية تحول السيطرة في العصر الرقمي إلى سيطرة معرفية واقتصادية. فبدلاً من استعمار الأرض والموارد المادية (التي كانت سمة الكولونيالية القديمة)، يعتمد النظام العالمي الجديد على استخلاص البيانات والوعي المعرفي. وتُعد التبعية الرقمية (Digital Dependency) المحور الأساسي لهذه السيطرة. ويرى الساعدي أن ظاهرة الاعتماد المتصاعد على الوسائل الجديدة لا تُفسر كخيار تكنولوجي حيادي، بل كضرورة تفرضها بنية النظام العالمي المعاصر، مما يؤدي بالضرورة إلى تعزيز الهيمنة الخارجية على المجتمعات التي تفتقر إلى القدرة على إنتاج هذه التقنيات وتأطيرها ثقافياً.
يتناول الكتاب قضية عدم التوازن في التدفق الإعلامي. ففي ظل هذه الهيمنة، تبقى الدول المركزية هي المنتجة للتكنولوجيا والبيانات الضخمة والسرديات العالمية المهيمنة، بينما تتحول الدول الطرفية إلى مجرد مستهلكة ومنتجة للمعلومات الخام (التي تتمثل في بيانات المستخدمين الشخصية). يشير التحليل إلى أن هذا التباين يؤدي إلى طمس الهوية الثقافية من خلال سيولة الأفكار والأيديولوجيات غير المتوازنة التي تتيح للشركات متعددة الجنسيات العمل بحرية في كل الأقطار، مما يعزز من سيطرتها الثقافية والاقتصادية.
2.2. تحليل مصطلح “شبابيك الاعتراف الرقمية”
يعتبر مصطلح “شبابيك الاعتراف الرقمية” بمثابة المفهوم المفتاح الذي يكشف عن الآلية الدقيقة للسيطرة في هذا العصر. يُستمد هذا المصطلح، ضمنياً، من تحليلات ميشيل فوكو لآليات السلطة، حيث “الاعتراف” هو تقنية لاستخلاص الحقيقة من الذات لتصبح مادة خاضعة للسلطة. ينقل الساعدي هذا المفهوم إلى الفضاء الرقمي.
يرى الكتاب أن وسائل التواصل الاجتماعي، التي تبدو وكأنها توفر مساحة للحرية والتعبير عن الذات، هي في حقيقة الأمر “شبابيك” (نوافذ) يُقدم من خلالها الفرد “اعترافه” الطوعي (أو شبه القسري) حول حياته الشخصية، اهتماماته، وسلوكه الاتصالي. يتم استغلال هذا الاعتراف كبيانات ضخمة تغذي مراكز القوة العالمية وتخدم مصالحها الرأسمالية والسياسية. هذا الربط بين الاستخدام الظاهري (التعبير) والاستخدام الخفي (المراقبة والاستخلاص) يقدم تحدياً جذرياً لمفاهيم الديمقراطية الرقمية. إن الحرية الظاهرة في هذا الفضاء ما هي إلا مساحة مُدارة بعناية لخدمة أهداف رأسمالية وسياسية عالمية.
إن هذا التحول من الخصوصية إلى الشفافية القسرية يمثل جوهر النقد. فالذات المُعلنة في وسائل التواصل (التي هي أشبه بأداء مسرحي مستمر) تُصبح في الوقت ذاته ذاتًا مُراقَبة ومُستهدفة، مما يقود إلى اغتراب الإنسان في عصر الآلة الذي يحول البشر إلى “بضاعة وأشياء لا قيمة لها”. هذا التشيؤ، الذي يستدعي مفاهيم النقد الماركسي التقليدي، يُفسر هنا كأحد نتائج الكولونيالية الجديدة، حيث يصبح “الاعتراف الرقمي” هو العملة الجديدة التي يدفعها المستخدمون مقابل استخدام المنصات، وهي عملة تُستخدم لاحقًا لتعزيز السيطرة على وعيهم وهويتهم.
يوضح الجدول التالي مقارنة بين الوظيفة الظاهرة لوسائل الإعلام الجديدة والوظيفة النقدية التي يكشفها الساعدي في إطار الكولونيالية الجديدة:
مقارنة بين وظيفة الإعلام الجديد الظاهرة والوظيفة النقدية المستخلصة (وفق أطروحة الساعدي)
III. البنية والمحتوى: التفاعل النقدي مع مفاهيم الإعلام
لا يكتفي الكتاب بتفكيك مصطلحات الهيمنة، بل يتعمق في تحليل البنى المفاهيمية لظاهرة الإعلام الجديد وتأثيرها الاجتماعي والثقافي في المجتمعات العربية.
3.1. الإعلام الجديد: بين النظام والفوضى كنظام
تتناول بعض الدراسات الإعلامية ظاهرة الإعلام الجديد بوصفها متسمة بـ “الفوضى” ، وهي فوضى ناتجة عن عدم وجود بوابات تقليدية للتحكم في النشر. ومع ذلك، يقدم الساعدي نظرة أكثر عمقاً لهذه الفوضى. فإذا كان الإعلام الجديد يتسم بالفوضى، فإن هذه الفوضى ليست عشوائية تماماً؛ إنها فوضى منظمة (Controlled Chaos). هذه الفوضى تسمح بتدمير البنى الإعلامية التقليدية، ولكنها في الوقت ذاته تُدار بفاعلية من قبل المنصات العالمية عبر خوارزمياتها المعقدة للتحكم في المحتوى والفلترة. هذه الآلية تضمن خدمة مصالح “الكولونيالية الجديدة” بشكل أكثر فعالية من وسائل السيطرة الإعلامية التقليدية.
يناقش الكتاب إشكالية تحديد مفهوم الإعلام الجديد. فبعض الخبراء يرون الإعلام الجديد تطوراً طبيعياً أصاب وسائل الإعلام التقليدية، في حين يرى آخرون أنه وسيلة جديدة اختلفت تماماً عن وسائل الإعلام الأخرى. ومن المرجح أن الساعدي يتفق مع الرؤية التي تعتبره ظاهرة جديدة بآليات مختلفة جذرياً، خاصة فيما يتعلق بخاصية التفاعلية التي تتيح المراقبة والاستخلاص. ويؤكد الكتاب على ضرورة دراسة الظاهرة الإعلامية الجديدة بوصفها ظاهرة مستقلة نسبياً، تمتلك خصائص وسمات محددة، لكنها في الوقت ذاته متجذرة ومتشابكة مع السياق الاجتماعي (السياسي، والاقتصادي، والتقني) الذي نشأت وتطورت فيه.
3.2. الإعلام الجديد ومأزق الهوية في المجتمعات العربية
يولي الكتاب أهمية قصوى لتحليل التداعيات الثقافية والاجتماعية لثورة الاتصال في المجتمعات العربية، مؤكداً أن هذه الثورة ظاهرة اجتماعية متعددة الأبعاد، تشمل الجوانب التكنولوجية، والاقتصادية، والنفسية، والسياسية.
يشير التحليل إلى أن لثورة الاتصال جانبين على الهوية الثقافية العربية. الجانب الإيجابي يتمثل في جعل العالم قرية صغيرة تتيح تلقي الأخبار والثقافة والمعلومات، مما يساهم في تنمية الوعي ونقل المعارف وخلق فرص لمعرفة الحقائق. أما الجانب السلبي، وهو ما يركز عليه الساعدي، فيتمثل في إحداث عدم التوازن في التدفق الإعلامي. ويرى بعض الباحثين أن التكنولوجيا الحديثة تنطوي على خطر طمس الهوية الثقافية من خلال سيولة الأفكار والأيديولوجيات التي تيسرها الشركات الكبرى.
هنا يظهر بوضوح دمج الساعدي للنقد الثقافي ما بعد الكولونيالي مع أسس النقد الرأسمالي التقليدي. فالكتاب يشير إلى أن من أبرز سلبيات الإعلام الجديد قضية خلق التوترات الاجتماعية، وشعور الأفراد بالغربة واللامبالاة. كما يناقش الأزمة الثقافية التي يواجهها المثقف إزاء طغيان التكنولوجيا الحديثة. إن الإشارة إلى اغتراب الإنسان وتحويل البشر إلى “بضاعة وأشياء لا قيمة لها” هو استدعاء صريح لمفاهيم الاغتراب والتشيؤ في النقد الماركسي ونظرية مدرسة فرانكفورت. وهذا الدمج يقدم صورة شاملة للهيمنة التي تجمع بين الاستغلال الاقتصادي (اقتصاد البيانات) والاستلاب الثقافي (فقدان الهوية والتشيؤ).
3.3. المنهجية والأطر النظرية المستعان بها
يعتمد الكتاب على منهجية بحثية رصينة ومتقنة للكشف عن السلوك الاتصالي للجمهور، خاصة أثناء الأزمات، وتحليل الديناميكيات التبادلية بين الجمهور ووسائل الإعلام الجديد بالاستناد إلى معايير ديموغرافية ومعرفية واتصالية.
تشير المراجعات إلى أن الكتاب يسير بما يساير اعتبارات نظريتي الاعتماد وصناعة الأجندة. فمن خلال نظريتي الاعتماد وصناعة الأجندة، يحلل الساعدي كيف أن الاعتماد المتزايد على المنصات الرقمية الجديدة يخدم الأهداف الجيوسياسية ويعزز التأثير الكولونيالي. إن ربط الاعتماد المتصاعد بالنتائج النقدية (الاعتراف الرقمي والكولونيالية) يجعل من الكتاب إضافة علمية مهمة جديرة بالرجوع إليها من قبل الباحثين والمهتمين بالظاهرة الاتصالية وثقافة الإعلام الجديد.
كما تتضح أهمية الأصول الاجتماعية والنفسية لاستخدام وسائل الإعلام في تحليل الساعدي، حيث يرى أن الاتصال الشخصي يلعب دوراً في تحقيق الانسجام بين ما يُعرض في وسائل الإعلام وبين ما يدور من أحاديث بين الجمهور، وأن تسليط الضوء على قضايا الجدال يرفع من أهميتها، وقد يؤدي إلى موقف سلبي إذا لم يتحقق الانسجام بين النقاش الفردي والمحتوى الإعلامي. هذا يؤكد أن دراسة الظاهرة الإعلامية الجديدة تدمج بين البعد التقني والبعد الاجتماعي المتجذر في السياق المحلي.
IV. المقارنة والتقييم: القيمة المضافة والموقع في الأدبيات العربية
تكمن القيمة العلمية لكتاب الساعدي في مقارنته النقدية الفائقة التي تختلف عن الاتجاهات السائدة في الدراسات الإعلامية العربية، والتي غالباً ما تتسم بالوصف أو بالتركيز على الجوانب الوظيفية المباشرة لوسائل التواصل الاجتماعي.
4.1. موقع الكتاب في سياق دراسات الإعلام العربي
يُلاحظ أن جزءاً كبيراً من الإنتاج الفكري العربي حول الإعلام الجديد يركز على تعريف المصطلح ، أو تحليل أنماطه وتقنياته ، أو تحليل قضايا تقليدية مثل التفاعل الاجتماعي ، أو تقديم تفاصيل ببليوغرافية لأعمال غير مترابطة. أما كتاب الساعدي، فيمثل تحولاً نوعياً نحو التركيز الجيوسياسي النقدي.
فبدلاً من التركيز المحلي على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، يركز الساعدي على بنية السيطرة العالمية لهذه الوسائل، ويستخدم أدوات نقدية متقدمة (ما بعد الكولونيالية والنقد الأنطولوجي) لتفكيكها. هذا المنحى يجعله إضافة علمية مهمة تسد فراغاً في المكتبة العربية التي تحتاج إلى نماذج نقدية أصيلة قادرة على مقاومة خطاب الهيمنة التكنولوجية. ويؤكد التحليل النقدي للكتاب أنه يسهم في تقديم إضاءات عميقة عن الظاهرة الاتصالية المستحدثة.
4.2. النقد الثقافي واستخدام أدوات المسرح وفلسفة الجمال
إن الخلفية الفنية للساعدي، المتخصصة في فلسفة الجمال والإخراج المسرحي ، تمنح الكتاب مقاربة نقدية متعددة التخصصات (Transdisciplinary). المسرح هو المساحة التقليدية التي ناقش فيها الساعدي قضايا الجسد والهوية (الرد بالجسد، التلقي البصري ). إن نقله هذا النقد إلى الفضاء الرقمي يدل على أنه يرى هذا الفضاء كمسرح جديد (Digital Theatre) تدور فيه دراما السيطرة والهيمنة.
هذه المقاربة تسمح له بتحليل آليات التلقي البصري للمحتوى الرقمي، وكيف يتم بناء “المشهد” (Spectacle) الرقمي، وتلقيه، بدلاً من الاكتفاء بتحليل الرسالة النصية أو الإخبارية. وهذا يضيف عمقاً لتحليل جماليات التشويه الناتجة عن الكولونيالية الجديدة. إن تحليل الإعلام الجديد من منظور فلسفة الجمال يعني دراسة كيف يتم تشيئ الإنسان واغترابه، وكيف يتحول إلى بضاعة وأشياء لا قيمة لها. هذا الإحساس بالمسؤولية الفكرية والأخلاقية تجاه طغيان التكنولوجيا يضع الكتاب في إطار النقد الجذري الذي يتحدى منطق الآلة.
4.3. ربط النظرية النقدية بالواقع العراقي/العربي
على الرغم من الطابع الفلسفي والنظري العميق للكتاب، إلا أنه يظل متجذراً في سياقه الإقليمي. فقد أكد التحليل المنهجي أن دراسة الظاهرة الاتصالية في الكتاب اكتسبت أهميتها من “حداثة وجدة المجتمع والبيئة الاتصالية المدروسة بوصفها بؤرة اتصالية تتسم بكثافة الاستخدام والاعتماد على الوسائل الجديدة”. هذا يعني أن النظريات النقدية المقدمة لا تستورد بشكل جامد، بل يتم تطبيقها وتأصيلها بناءً على الملاحظة الدقيقة للسلوك الاتصالي العربي، الذي يتسم بالاعتماد المتصاعد على التقنيات الجديدة.
إن عمل الساعدي يمثل محاولة لتأسيس نموذج نقدي عربي مضاد (Counter-Hegemonic Model) يرفض الاكتفاء باستيراد النظريات الغربية التي قد تكون هي نفسها جزءاً من آلة الكولونيالية الجديدة. فمن خلال بناء جسر بين النقد الفلسفي المسرحي والنقد ما بعد الكولونيالي، يقدم الساعدي إطاراً تحليلياً فريداً من منظور مركزه المعرفي (جامعة ميسان/العراق)، وهو ما يعزز قدرة الباحثين العرب على فهم آليات القوة التي لا تستطيع الدراسات الإعلامية التقليدية الكشف عنها.
V. الخلاصات والتوصيات
يمثل كتاب “الإعلام الجديد ووسائل التواصل / شبابيك اعتراف رقمية لصالح الكولونيالية الجديدة” للأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي، عملاً فارقاً في الدراسات الإعلامية النقدية العربية. إن الجمع بين خلفية المؤلف في فلسفة علم الجمال والدراسات ما بعد الكولونيالية مكنه من تقديم تحليل جذري وغير مسبوق لظاهرة الإعلام الجديد.
5.1. الاستنتاجات الرئيسية حول الأطروحة النقدية
الإعلام الجديد ككولونيالية معرفية: أكد الكتاب أن السيطرة في العصر الرقمي قد تحولت من احتلال الأرض والموارد المادية إلى استخلاص البيانات والوعي المعرفي، مما يعيد إنتاج علاقات الهيمنة العالمية تحت مسمى “الكولونيالية الجديدة”.
التفاعلية كأداة للمراقبة: نجح المؤلف في تفكيك مفاهيم التفاعلية والمشاركة، ليظهرها كـ “شبابيك اعتراف رقمية” تعمل كآليات بنيوية للمراقبة والتشيؤ، حيث يتحول الإنسان إلى مجرد “بضاعة وأشياء” لخدمة آلة السيطرة الرأسمالية.
تأصيل النقد العربي: إن الكتاب يمثل محاولة لتأسيس خطاب نقدي عربي متكامل، حيث يدمج نقد الهيمنة الرأسمالية (الماركسي) مع نقد التبعية الثقافية (ما بعد الكولونيالي)، مما يجعله نموذجاً نظرياً أصيلاً لتحليل الهوية الثقافية في ظل تحديات العولمة الرقمية وعدم التوازن في التدفق الإعلامي.
الفوضى المنظمة: يقدم الكتاب رؤية للـ “فوضى” الظاهرة في الإعلام الجديد على أنها ليست غياباً للنظام، بل هي فوضى منظمة تُدار خوارزمياً لخدمة مصالح المراكز العالمية للهيمنة، وتدمير البنى الإعلامية التقليدية.
5.2. توصيات للبحث المستقبلي
بناءً على القيمة العلمية العميقة للكتاب والمسارات النقدية التي فتحها، يُوصى بما يلي:
تبني الإطار النظري: يُدعى الباحثون وطلاب الدراسات العليا لتبني الإطار النظري الذي أسسه الساعدي، خاصة مفهوم “الاعتراف الرقمي”، لفهم أعمق لظواهر رأسمالية المراقبة (Surveillance Capitalism) في السياق العربي، وتقييم كيفية استخلاص البيانات وتأثير ذلك على اتخاذ القرار السياسي والاجتماعي.
دراسات مقارنة مع النقد الغربي: ضرورة إجراء دراسات مقارنة معمقة بين مفاهيم الساعدي النقدية (التي تستمد من الفلسفة والمسرح وما بعد الكولونيالية) والمفاهيم النقدية الغربية السائدة، بهدف تحديد مساهمة الساعدي في إثراء الحوار النقدي العالمي حول الإعلام الجديد.
تحليل الجماليات الرقمية: يُشجع على تطبيق أدوات تحليل “التلقي البصري” و”فلسفة الجمال” التي يمتلكها المؤلف، على تحليلات تفصيلية للبنى الجمالية والمشاهد الرقمية المتداولة، لفهم كيفية بناء الهيمنة من خلال الصورة والمحتوى البصري.