إنَّ تفكيك أطروحة الأستعمار سواءً بمعناه القديم (البريطاني والفرنسي ) الذي قسم الوطن العربي إلى دول في محاولة لأضعاف هذا البناء الكبير (الوطن العربي ) من خلال زرع كيان غاصب للأرض العربية في (فلسطين) ،أو بمعناه الجديد (الأمريكي) الذي دعم هذا الكيان الغاصب بمختلف أشكال الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي وغيرها ، وهذا الدعم الذي توضح في الحرب الأخيرة على فلسطين وطوفان أقصاها . لكن تفكيك هذه الأطروحة الاستعمارية بقديمها وجديدها تصدى لها الكثير من الداعمين للقضية الفلسطينية ، وبأدوات ووسائل مختلفة إعلامية وفنية وأدبية وثقافية لفضح الجرائم الصهيونية في الأرض المغتصبة ، ومن بين هذه الأدوات المهمة يأتي المسرح العربي عامة والعراقي خاصة من خلال تقديم عدد من النصوص والعروض المسرحية التي تناقش واقع الاستعمار بتوجهاته المختلفة ، وكذلك القضية الفلسطينية ، وهذا المنتج الفني الثقافي قد طرح القضية الفلسطينية بوصفها ظاهرة مهمة في المسرح العربي ولها تأثيرها في الواقع العربي . تأتي أهمية دراسة المسرح ودوره في القضية الفلسطينية على وفق رؤية في خطابات ما بعد الاستعمار ، وخاصة الجديد كون أن هذا الاستعمار عمل على تشكيل ” حياة ما يزيد على ثلاثة أرباع شعوب العالم اليوم ، من خلال الخبرة الاستعمارية. وقد يكون من اليسير إدراك مدى أهمية هذه المسألة في المجالات السياسية والاقتصادية ، لكن تأثيرها العام على أطر إدراك الشعوب المعاصرة عادةً ما يكون أقل وضوحاً” (اشكروفت ، الرد بالكتابة ،2006، ص15.) ومن بين هذه المساحات الجغرافية والاجتماعية التي أثر عليها الاستعمار هي فلسطين ، هذه الأرض وهذا الشعب الذي تعرض إلى مختلف أنواع التغيير الثقافي والاجتماعي لهويته وأرضه ومجتمعه.
العرب ومسرح ما بعد الاستعمار
إنَّ استلهام التراث العربي في المسرحيات ما بعد الاستعمارية المناهضة للمستعِمر والأوضاع القلقة التي أوجدها وخططه الرامية إلى إسكات الصوت المقاوم ، وغيرها من الأسباب جعلت من كتّاب المسرح العربي يستخدمون أساليب التلميح والإشارة على الوضع الراهن من خلال مسرحيات تتناول أحداث مشابهة وقعت في التاريخ العربي والإسلامي ، ومن بين الكتّاب الذين وظفوا هذه الصورة في أعمالهم المسرحية الشاعر والكاتب المسرحي المصري (أحمد شوقي) الذي عرض في مسرحيته (علي بك الكبير) أو (دولة المماليك) حكم والي مصر الذي قاوم السيطرة العثمانية ، والذي وقع في فخ الخيانة الذي نصبه له مملوكه محمد أبو الذهب. وهذه الصورة مقاربة مع وضع مصر الحديث، (ينظر : هلال ، محمد غنمي : في النقد المسرحي ، ص95). كذلك تكررت فكرة الاقتباس من التاريخ عند الكاتب السوري (محمد الماغوط) الذي وظف شخصية (صقر قريش) ، ولكن هذه المرة بإعادة بعث روح هذه الشخصية التاريخية على المسرح تتساءل عن أمجاد الأمة وانتصاراتها في الأندلس وغيرها من بقاع المعمورة التي وصل إليها الإسلام ، وبشكل إيحائي- للدلالة على التفرقة والتجزئة التي أرادها المستعمر في خطابه الاستعماري وحققها على أرض الواقع -، ينطق مهرج (محمد الماغوط) بإجابات موجعة على تساؤلات (صقر قريش) بأن الأرض قد ضاعت وانجازاتكم وتضحياتكم لأجل رفع شأن الأمة ، قد تمكن منها من دحرتموه سابقاً (ينظر : محمود ، فاطمة موسى : قاموس المسرح ، ص1463 – ص1464). في إشارة واضحة إلى حجم التأثير الذي حققه الغرب ، فهو من جهة يذّكر بأهداف المستعمر ، ومن أهم دلالاتها التقسيم لإضعاف الأمة العربية الإسلامية ، ومن جهة ثانية يظهر (الماغوط) حجم التغلغل للسلطة الاستعمارية وتحقيق أهدافها ، وهنا يكمن وعي المؤلف في خطابه ما بعد الاستعماري ضد الأهداف الخفية للاستعمار الثقافي.
لم يقتصر الخطاب المسرحي النقيض في سوريا ومصر ، بل انتقل أيضاً للمسرح الفلسطيني وقضيته الفلسطينية ودوره أيضاً في مجابهة الخطاب اليهودي ومخططاته المستندة إلى خطاب الغرب الاستعماري ولاسيما في مسألة تهويد القدس والأراضي العربية المحتلة ، إذ قدمت ضمن مسرحيات المقاومة ، مسرحية (الباب) للمؤلف المسرحي (غسان كنفاني) ، وكانت قصتها تدور حول المقاومة ومجابهة الموت بدلاً من الدعوة إلى الخضوع والخنوع والاستكانة للمحتل(ينظر : البشتاوي ، يحيى : توظيف التراث في المسرح العربي ، ص102) .كما أن القضية الفلسطينية كانت محور عدد من المسرحيات العربية التي حاول الكاتب العربي تسليط الضوء عليها لكونها جزءاً من مخطط ثقافي غربي يريد تفكيك المنطقة العربية من خلال إيجاد كيان دائم لهذا النفوذ الثقافي الذي اتخذ من الدين اليهودي مصدراً لأفكاره ، حيث قدم (عبد الرحمن الشرقاوي) مسرحية (وطني عكا) التي يخاطب بها أهل فلسطين لمقاومة المحتل بدلاً من الاعتماد على الآخرين في استرداد الأرض ، والمسرحية مكونة من خمسة عشر مشهداً حبكتها الرئيسة تدور حول موضوعة النفع الخاص ، ولكن بتقدم الأحداث تتكشف عدم جدوى الاعتماد على الآخرين في إيجاد حلول للقضية الفلسطينية (ينظر : فتحي ، كرامي : القدس في المسرح العربي ،ص67).
كما صاغ (سعد الله ونوس) هذه القضية في مسرحية (حفلة سمر من اجل (5) حزيران) وتناول هزيمة يونيو 1967 ، محاولاً منه استخدام المسرح في إدانة السلطات العربية التي أسهمت في إضاعة الأرض والانسياق وراء مبررات ومسوغات تدخل في إطار تشويه حقائق الشعوب العربية ومن أهم هذه المبررات هي (تفرقة) بين أبناء الأمة والابتعاد عن هدفها المشروع ، واستخدام (ونوس) في مسرحيته أسلوب الكتابة التحريضية في مواجهة الأحداث العنيفة التي هزت الساحة الثقافية العربية وكشف عن طريق التهكم الذي يبتدئ به عنوان مسرحيته ، لنسف العقائد السياسية المطروحة على الساحة العربية (ينظر :محمود ، فاطمة موسى : ، ص1809). كذلك توسعت اهتمامات كتّاب المسرح العربي في خطابهم النقيض بأكثر من قضية ، حيث تناولوا قضايا الأستعمار الفرنسي للمغرب العربي ، وقدمت مسرحيات نادت بمقاومة الاستعمار وعلى أثرها أغلقت المسارح في المغرب بعد أن أدت الانفعالات الجماهيرية إلى حدوث إضرابات سياسية ، على أثرها صدر مرسوم في مايو 1930 في هذا الشأن ، ومن هذه المسرحيات المقاومة للاستعمار مسرحية (انتصار البرابرة) لـ محمد الزغاري ومسرحية (انتصار الحق بالباطل) لـ (عبد الخالق الطريس) (ينظر : محمود ، فاطمة موسى ، ص1571)..
وفي (الجزائر) التي خضعت للاحتلال الفرنسي ، وقدمت العديد من التضحيات في سبيل التحرر والاستقلال ،حيث وظف المسرح الجزائري لخدمة هذا الغرض ، ومناهضة التركة الثقافية الاستعمارية التي خلفتها فرنسا في هذا البلد العربي ، فقد استلهم المؤلف الجزائري (كاتب ياسين 1929 -1989) “مسرحياته من بطولات مقاومة الشعب الجزائري للاستعمار الفرنسي وكفاحهم ضد المشاكل الداخلية بالبلاد ، عُرضت أولى مسرحياته (دائرة الانتقام) (1958) ببروكسل بسبب الموقف السياسي في فرنسا وفي (1967) نشرت له ثلاثية بعنوان (دائرة الانتقام) (…) بصفة عامة تصور مسرحياته المذابح والفضائح التي ارتكبها الجيش الفرنسي” (محمود ، فاطمة موسى ، ص1831) بحق أبناء وطنه.
أما في (العراق) فقد قدم المسرح العراقي العديد من المسرحيات التي تتصف بطابع المقاومة للخطاب الثقافي الاستعماري ، ومن أهم ما قدم في المسرح العراقي من مسرحيات فكانت لـ (يوسف العاني) حيث اتصفت مسرحياته بنقد الواقع السياسي الذي كان مسيطراً عليه الخطاب الثقافي الاستعماري البريطاني ، ومن هذه المسرحيات مسرحية (أنا أمك يا شاكر) ومسرحية (الخان) التي تناولت موضوع ثورة (رشيد عالي الكيلاني) وزملائه للوصول إلى حكم وطني دون تبعية للتاج البريطاني وحكوماته المنصبة في العراق ، حيث أرخ (العاني) لفترة حرجة من فترات العراق ، وقد استخدم الوثائق التاريخية التي سجلها المؤرخون عن هذه الانتفاضة التي قمعها العسكر البريطاني لمساعدة حكومته في العراق ، إن (العاني) بمسرحيته أراد أن يذكر بالتدخلات الغربية في الوطن من أجل بث الوعي عند الجمهور بمخاطر هذه التدخلات على الساحة العراقية والعربية (ينظر : حسين ، علي : مخرجون عراقيون ، ، ص53.)
كذلك قدم الكاتب العراقي (نور الدين فارس) مسرحية (جدار الغضب) التي يتناول فيها (ثورة الزنوج) من خلال محاكمة يدلي فيها أطراف النزاع بشهاداتهم عن الثورة ، وكيف أن (الزنوج) قد شعروا بالتفاوت الطبقي بينهم وبين الآخرين ، هذا التفاوت الطبقي ومن بعده التمييز العنصري اتجاه فئة من الشعب جعلت (فارس) يوظف هذه الطبقة الفقيرة في ، صفوف الثائر (علي بن محمد) للدلالة على توحد صوت المظلومين لكن سرعان ما يحصل انقسام في الثورة لصالح الخليفة الذي يبدأ بشق صفوف الثوار والإطاحة بالثورة (ينظر : الراعي ، علي : المسرح في الوطن العربي ص327 ، ص328.) أراد (فارس) من هذا الصورة المسرحية أن يذكر بوحدة الصف الجماهيري اتجاه الأطماع الأجنبية واليد الخارجية التي أسهمت في ضياع الثروات في العراق ودعم المتسلط باسم الاعتماد على الأجنبي الذي يفرق الشعوب لصالح مصالحه الخاصة.
أما على مستوى الإخراج ومسرح ما بعد الاستعمارفي المسرح العربي ، فقد قدم المخرجون العرب عدد من مسرحياتهم التي أرادوا من خلالها كشف الخطاب الثقافي الاستعماري عن طريق خطاب نقيض له .
إنَّ أهم النقاط في مجال العرض المسرحي ما بعد الاستعمار هي التي فتحت المجال أمام المسرح المناقشة القضايا التي تخص الجماهير وليس النخبة المسيطرة على الوضع الثقافي والتابعة للخطاب الاستعماري، وعلى هذا الأساس قدمت عروض مسرحية في مصر اهتمت بتوجهات الشعب المصري والعربي وقضاياه المصيرية. ومن المخرجين الذين قدموا خطاب مسرحي ما بعد استعماريالمخرج (سعد اردش) من خلال مسرحية (النار والزيتون) التي اخرجها على وفق أسلوب المسرح التسجيلي ، والتي تناولت الصراع العربي الصهيوني ، وظف فيها عدد من الوثائق والشهادات التاريخية التي تدين الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية ، كذلك استخدم الغناء والحركات الأدائية المدعومة بالحركة العنيفة من اجل دعم الجانب التثويري لصالح هذه القضية. (ينظر : أبو دومه ، محمود : تحولات المشهد المسرحي .ص 159.)
كذلك قدم المخرج (فهمي خولي) عرض مسرحية (لن تسقط القدس) لدعم القضية الفلسطينية ، وهذه المسرحية من تأليف (شريف الشوباشي) ، حيث تناولت المسرحية حقبة تاريخية من الصراع بين الشرق والغرب ، هي الحروب الصليبية ومالها من دلالات معاصرة تنطبق على الاستيطان الصهيوني للأرض العربية وغزو أمريكا للشرق في حربي (أفغانستان والعراق) ، فقد اعتمد (الخولي) في لتفكيك الخطاب الثقافي الاستعماري، على فكرة المسرحية التي تفكك موضوع إعادة الشرق للدائرة الغربية ، بل بنفس المواصفات الاستعمارية في وصف الشرق الغرائبي و الهمجي ذات الأهداف الشريرة والأفكار الأسطورية الخرافية. لقد عمل (الخولي) في كشف الأهداف الاستعمارية من خلال استخداماته لقطع الديكور التي تربط بين الواقع والرمز والإيحاء من خلال الحبال التي تتعامل مع تغير الديكور وكأنها قضبان سجن ، وكذلك قلب القبة وتحويلها إلى العكس نحو التقعر ، في دلالة إلى محاولة تحويل الإسلام في القدس من فكر ديني ذي قيم عالية إلى مجرد أفكار بالية قديمة مفرغة من أهم نتاجاتها الإنسانية ، وإيحاء بأن الشرق هو سجن للعقل البشري بعد إفراغه من حضارته الإنسانية ، وهذه كلها من أهداف الخطاب الثقافي الاستعماري نحو الشرق (ينظر : سلماوي ، محمد : لن تسقط القدس ، ، ص40-ص44.)
وقدم المخرج (روجيه عساف) أيضا عرض مسرحية (الجرس) ، من تأليف (رفيق علي احمد) والتي تتناول قضية الجنوب اللبناني بعد الاحتلال الإسرائيلي ، وهي تحكي قصة راعي غنم من الجنوب اللبناني الذي يقتل ولده على يد المحتلين ، حيث ينسحب من الحياة ، التي دلل عليها من خلال تجريد (معزته) من جرسها المربوط في رقبتها ، وهنا دلالة على توقف الحياة وصوتها الذي يرمز له بالجرس ، حيث يقدم (عساف) هذه المسرحية في عرض مسرحي يرفض من خلاله المسرح الغربي المستورد ، ويقدم العرض في صيغة الحكواتي ، التي أسس فرقته على هذا الشكل الدرامي التراثي ، الذي كان سائداً في العصر الإسلامي(ينظر : محمود ، فاطمة موسى : ، ص1032). أتخذ (عساف) من فكرة (الجرس) عرضاً لتفكيك الخطاب اليهودي وادعاءاته في إسكات صوت الآخر بحجة الحضارة والمدنية التي يمتلكها ، والآخر العربي ساكن الصحراء أو راعي الغنم الذي يعيش في أرض لا يستحقها بل هي ملك لليهود ، فإسكات صوت (الجرس) وقتل الابن واستباحة الأرض ، هي من مرتكزات الخطاب اليهودي ضد الآخر التي يفضحها (عساف) في عرضه المسرحي.
أما في العراق ، وتوجد نماذج أخرى في المسرح العربي تناولت مناهضة الخطاب الاستعماري مثل مسرحية (الخان) للمخرج (سامي عبد الحميد) ، كما قدم المسرح العراقي دعمه للقضية الفلسطينية من خلال أخراج مسرحية (قضية الشهيد الرقم 1000) ، وهي من أخراج (قاسم محمد ) ، تناول فيها (حرب سيناء) ، حيث قَدَّمَ العرض المسرحي صورة عن قضية الشهداء المصريين الذين ضحوا من أجل تحرير (سيناء) ، وإبعاد المطامع الصهيونية في تجريد (سيناء) من ثوبها العربي .
ويتناول النص المسرحي أحداث تقع بعد الحرب وتبدأ بزيارة (السادات) للقدس وتوقيع اتفاقية السلام مع (اليهود) وبعد عدد من المشاهد يأتي صوت (الشهيد الرقم 1000) الذي ينادي بسرقة دماء الشهداء وتضحياتهم ، لتتحول المسرحية إلى ثورة احتجاجية من قبل الشهداء بعد أن يخرجوا من قبورهم ، وفي المشهد الأخير يحاول إسكات صوت الشهيد من خلال القبض عليه والحكم عليه بالإعدام ليتحول صوته ودمه علامات رفض لمعاهدة السلام (ينظر : عطية ، احمد سلمان : الاتجاهات الإخراجية الحديثة ،ص211 ، ص214) . يوثق (قاسم محمد) في العرض المسرحي لمفهوم الرفض لمعاهدة السلام التي جعلت من اليهود المغتصبين لأرض (فلسطين) أصدقاء لبعض الحكام العرب ، وفتحت الأراضي العربية أمامهم من أجل التطبيع، الذي أسهم فيه الخطاب الغربي من خلال تسويقه لثقافة الاستسلام على حساب الأرض العربية ، أي بمعنى أن المعاهد شرعنة الاحتلال والاستيطان وتثبيت أحقية اليهود في فلسطين .
يتمظهر الإخراج عند (قاسم محمد) بتركيزه على عمل الممثل واللحظة التي يتعامل بها معه في التمارين المسرحية هي المقياس الحقيقي في الإخراج لديه ، حيث لا يعتمد على التخطيط المسبق للعملية الاخراجية ، بل يعتمد على تدريب الممثل و تطوير مهاراته قبل الدخول في التمرين المسرحي في أي مسرحية يريد إخراجها. كذلك يتميز (قاسم محمد) بملامح واقعية وشعبية ينطلق منها في إخراج مسرحياته من حيث النص المسرحي معتمداً في أغلب الأحيان على التراث والاشعار الحماسية والموروث الشعبي ، بل حتى على المفردات الشعبية التي تنمي الإحساس الوجداني عند المتلقي منطلقاً من التركيز” على واحدة من أبرز سمات (الدراما الشعبية) المتمثلة في المشاركة الوجدانية بين الصالة وخشبة المسرح ويتم فيها بحث المتلقي على الإحساس بأنه مشارك في العرض وبقوانين اللعبة ، ومن ثم بناء العرض ومفردات الأداء ووسائل التعبير” (عباس ، علي مزاحم : عباس ، علي مزاحم : لا تسدلوا الستار ، 2005: ص126) في عرض مسرحية (قضية الشهيد الرقم 1000) يبني (قاسم محمد) العرض المسرحي من عشرة مشاهد مسرحية يتناول فيها أوضاع الشهداء المصريين الذين قتلوا في حرب سيناء من أجل الوطن وليس الرئيس (أنور السادات) الذي خطط للحرب قادها لتحرير (سيناء) من (الصهاينة)، وقدمت مصر فيها عدداً من الشهداء ، لكن بعد ذلك عبر(السادات) على أجساد الشهداء ليصافح (الصهاينة) من أجل السلام ، ومن هذه المفارقة تبدأ عملية ترتيب المشاهد في المسرحية. فالمشهد الأول يبدأ بصدمة زيارة (السادات) للقدس المحتلة لعقد معاهدة السلام هذا الخبر يسربه للجمهور باعة الصحف الثلاث وتصدر صرخة ومن ثم تساؤل عن سبب الصرخة من ثلاثة أشخاص يؤيدون اتفاقية السلام على المسرح ويجيبونهم كورس الشهداء من أعلى المسرح الذي يقسمه (قاسم) إلى نصفين أعلى وأسفل ، بأن السلام يتم على حساب تضحياتهم. ثم يبدأ المشهد الثاني بنداء يشق الصمت صوت (الشهيد الرقم 1000) وهو ينادي بالقتال ،ويسأل المؤيدون عن أسباب سرقة دماء الشهداء حتى يتحول المشهدان الثالث والرابع عن إعلان باعة الصحف عن الشهداء وخروجهم من القبور ليهرع أهالي الشهداء للبحث عنهم وتظهر ثلاث نساء ، هن عائلة الشهيد (الأم ، الأخت ، الزوجة) حيث يعلن عن فخرهن بالشهيد الذي ينادي بالقتال ، ويبدأ بعد ذلك صراع بين السلطات الداعية إلى السلام والشهيد (رقم 1000) ،الذي يحاول عبور الحدود من أجل القتال ورفض الاستسلام للعدو ، وهذا يتم من خلال أربعة مشاهد ، أما المشهدين التاسع والعاشر فيتم القبض على الشهيد ويصدر أمر الإعدام بحقه ، وبالتالي يتحول دمه إلى رفض للسلام مع العدو (ينظر : عطية ، احمد سلمان : ص214 ،ص211.)
. يستخدم (قاسم محمد) مجموعة من العناصر المسرحية في كشف الخطاب الاستعماري والمتمثل في إخضاع الشعوب العربية إلى سلام غير عادل مع (الصهاينة) والمتمثل بمعاهدة السلام التي وقعها الرئيس المصري (محمد أنور السادات) ورفضتها الشعوب العربية ، هذه المعاهدة التي أنهت الحرب بين (مصر والصهاينة) على حساب باقي الجبهات الأخرى وأبرزها الجبهة الفلسطينية. فالمخرج يكشف عن رؤيته في خطابه المسرحي ما بعد الاستعماري ،من خلال ما يأتي:-
يقسم (قاسم محمد) خشبة المسرح إلى قسمين علوي وسفلي ويقسمهما من خلال قطعة قماش سوداء اللون وهو الحد الفاصل أو البرزخ بين عالمين ، حيث أعطى لكل واحد منهم عدداً من الصور المتحولة من مشهد إلى مشهد آخر ، في الأعلى يرمز للعالم العلوي عالم القيم والمثل والمحبة والشهادة وكذلك يرمز إلى سلطة الشعب التي تخيم على كل ما في البلاد، والأسفل يرمز إلى عالم الدنيا العالم الأسفل الذي يتصارع فيه البشر والذي يخضع للمقاسات الدنيوية الضعيفة، فالشهيد ينزل جسده الى العالم السفلي لكن روحه تنتقل إلى العالم الآخر لتشاهد ما يفعل البشر في الأرض. لا يستخدم (قاسم محمد) قطعاً ديكورية بقدر اعتماده على الأجساد في تشكيل صور العرض ،إذ يتم تشكيل المشاهد على هذه الشاكلة ابتداءاً من المشهد الأول وظهور باعة الصحف وانتهاء بإعدام الشهيد مروراً بأحداث تشكلها الأجساد وهذه الأجساد (الممثلين) تتحول من صراع داخلي بين الأرض والشهداء ومن ثم بين الشهداء وأصحاب معاهدة السلام ، وبين الشهداء (الأجساد) وأصحاب النفوذ في الضفة الأخرى ، بالإضافة إلى أن المسرحية تحمل الصفة العددية للشهداء والمتمثلة (بالرقم 1000) ، وهذا ما يدل على إن الأجساد الألف (الشهداء) يلخصون بالشهيد الأخير الذي يحمل (الرقم 1000) كلهم يحملون القضية نفسها.
يستخدم (قاسم محمد) العملية التوثيقية من خلال الصحف وفي عمليتين متناقضتين الأولى: توثيق لدور السلطة التي توقع معاهدة السلام ومن يقف وراءها ويدعمها بالمال والإعلام وحتى السلاح الذي توجهه بعد ذلك إلى الشعب ممثلاً بالشهيد (رقم 1000). أما التوثيق الثاني فهو للرفض والرافضين لسياسات الإملاء والخضوع وبيع الأوطان ، رفض الأهداف الاستعمارية التي تريد أن تجعل الآخر الشرقي (العربي) خاضعاً وهو يرى أرضه تتجزأ أمام عينيه ، ففصل (مصر) من الصراع هو إبعاد قوة مؤثرة في الصراع وبالتالي ستكون فلسطين (لقمة سائغة) بالإمكان ابتلاعها وكأن (قاسم محمد) يحذر في مسرحيته من الأيام الحاضرة التي أصبحت فيها فلسطين مجرد ضفتين متصارعتين (الضفة الغربية وغزة) ، وأصبحت اغلب الأراضي تسمى اليوم دولياً (إسرائيل) فجاء التوثيق الثاني لإعلان حالة الرفض الشعبية وليست الحكومة الميالة إلى المصالح الشخصية. والأزياء في المسرحية كانت (واقعية) فكل زي يشير إلى الشخصية ودورها وبخاصة ملابس الشهداء العسكرية الممزقة ، حيث أراد (قاسم) من خلالها إلى توثيق واقع الهزيمة أولاً ومن ثم إن الملابس الممزقة لا تصلح للاستخدام مرة أخرى، وبذلك أراد (قاسم محمد) إظهار حقيقة مؤلمة وهي تجريد القضية من حقيقتها والمرتكزة على الجهاد والقتال من أجل تحرير الأرض العربية ، لكن الملابس العسكرية البالية هي عنوان الانهزامية . (ينظر : عطية ، احمد سلمان: ص216) وكذلك استخدام السواد هو للدلالة على الحزن على الأبطال الذين ذهبت دمائهم سدى دون أن تكرم هذه الدماء ، حيث افقدنها معاهدة السلام عزتها ، إذا لماذا قتلوا لو إن الأمر سينتهي بالاستسلام؟.
إنَّ التشكيل الجسدي للممثلين يدخل في عدة أشكال ويعطي عدداً من الدلالات ففي مشهد” خروج الشهداء من قبورهم ، وفي مشهدية (هيئة المحكمة) نجد أنها تخلو من منصة الحاكم أو قفص الاتهام أو مقاعد الجمهور ، فالتمثيل يجري وقوفاً (…) فأجساد الممثلين لا تتوقف عن خلق صور المناظر المسرحية على عدد دقائق العرض ، فهي قبور ، وهي شهيد وهي سلاح ، وهي صرخات ، وهي رقصات متوحشة وكثير من الصور الأخرى ، يساعد في ذلك إيقاظ مخيلة المشاهد ليتوغل مع هذه الصور في تأليف المكان والزمان”( عطية ، احمد سلمان: ص214) .إن (قاسم محمد) الذي يبحث في المسرح عن تفكيك التأثير الذي يفرض على الزمان والمكان في مخيلة المتلقي العربي التي تشكلت بفعل الأحداث التي أدارها الأقوى، ليشكل الذاكرة حسب ما يريد فيما بعد وحسب مفهوم الهدم والبناء أو ما يسمى بنظرية (الفوضى الخلاقة)، التي تقوم على هدم وبعثرة أشياء المكان الأصلية ثم إعادة صياغتها مرة أخرى ، فـ(قاسم محمد) يعود بالأحداث قبل البعثرة والهدم ليتزامن بناء الزمان والمكان وإعادة تشكيل الذاكرة وفق مفهومه الخاص وليس وفق ما يرسم في عالم السياسة والمصالح الخاصة ، بل وفق الوعي الجماهيري الشعبي المتماسك بصورة (الوطن الأصل) وليس صورة (الوطن المعاد) ، لهذا بادر (قاسم محمد) إلى تفتيت (الصورة الملقنة) وكشف (الأصل المغطى) ، لهذا ساعدت التشكيلات الجسدية للمثلين في رسم ملامح الزمان والمكان الأصليين وكشف زيف المكان والزمان المزيفين (معاهدة الاستسلام وبيع القضية الفلسطينية للمحتل). وفي نهاية العرض المسرحي (قضية الشهيد الرقم 1000) نهاية مفتوحة تبقى فيها الاحداث مستمرة ، والقضية متابعة ومراقبة من أبناء الشعب الذين يعبرون عن حزنهم بصمت وكبرياء ، فالشهداء قد يصبحوا (2000) أو (3000) ما دامت القضية غير منتهية ، وما إعدام (الشهيد الرقم 1000) إلا إعادة بعث روح القضية إزاء خطاب يريد لها أن تنتهي.