فلسفة الجسد في الخطاب ما بعد الكولونيالي / الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

يشكل الجسد كمفهوم ما بعد كولونيالي جزءاً مهماً في الرد الثقافي للمفاهيم الكولونيالية، التي أخذت بتأكيد تطبيقاتها مع استخدام الوسائل المتاحة التي أوجدها الإستعمار بصورة عامة والإستعمار الثقافي بصورة خاصة ،لذا فأن الجسد في هذه الدراسات أصبح يشكل مساحة لدراسة التعارضات بين الخطابين الكولونيالي وما بعده في هذا المجال ،وهنا أصبح لمفهوم التمثيل بعد آخر عن سابقه في الإجراءات ما بعد الكولونيالية، لذا فإن لفضة الجسد كانت محورية للخطابين الكولونيالي بأنواعه المختلفة فقد جاء في الكثير من كتابات ما بعد الكولونيالية في الأزمنة الحديثة أن الجسد مكان حيوي للنقش فالطريقة التي ينظر بها الناس تتحكم في الطريقة التي يتعاملون بها والإختلافات الجسمانية كمكان للتمثيل والسيطرة محورية لدى الكثير من المحللين الأوائل لتجربة ما بعد الكولونيالية لا سيما فرانز فانون ( 1961 )، الذي نظر للعودة الى الجذور التاريخية للثقافة الأفريقية التي كان الجسد ذات البشرة السمراء محور الطقوس فيها رافضاً لثنائية التعامل بين الجسدين الأبيض الأوربي والأسود الافريقي، من خلال رفض العنصرية التي كانت تروج بشكل مباشر ومكثف في لغة التعامل بين اللونين والتي تنتج عنها مفهوم الإستلاب ،أو عقدة النقص المتشكلة في نفسانية الشعوب الافريقية والمنعكسة في سلوكيتهم وأفعالهم تجاه المركز الأوربي ،لذلك تحول هذا الجسد الأفريقي الى خادم لدى السيد الأبيض، بل كان يمارس الأعمال التي لا يطيقها البشر بل تقترب من الحيوانية ،وكذلك ما نظر له كل من ( أيمي سيزار والبير ميمي ) في مفهوم ( الزنوجة ) للدفاع عن حقوق الأجساد الأفريقية المضطهدة من قبل العقل الكولونيالي ، هذا العقل الذي اخترع شكل الجسد المستعَمر من خلال مواقف عنصرية وإستلاب الوعي الثقافي للشعوب التي وقعت تحت سلطة الأستعمار .إن هذه الصورة من التعامل والأستلاب عُممت على أغلب الشعوب التي وقعت تحت السيطرة الكولونيالية سواء في أفريقيا ،أو أمريكا اللاتينية والشرق الادنى ،أو المتوسط وغيرها من المساحات الجغرافية الواسعة التي خضعت للفكر الكولونيالي .
إنَّ الأعتماد على مبدأ المفاضلة بين الشعوب وبين الأجساد وحسب الأستجابة للخضوع جعلت من عملية تدوين الثقافة الكولونيالية قابلة للتحقق في أوقات معينة مقابل الرد في أوقات اخرى تجاه السياسات الكولونيالية للمستعمر التي قد قسمت العالم الى نوعين من السلوكيات والأفعال ،أي الى عرقين من الأجساد وإذا ما أخذنا تصور كل من ( ماكس هوركهايمر وثيودور ف . أدرنو ) في كتاب ( جدل التنوير ) في حقل (أهمية الجسد ) : ثمة عرقان في الطبيعة ؛ عرق أعلى وعرق أدنى، وتحرر الفرد الأوربي يتم بالعلاقة مع التحول الثقافي في العالم الذي حفر بعمق الحفرة بين الشعوب المحررة في وقت كان الأكرة الجسدي اخذ بالتقلص. فالجسد المضطهد يجب أن يمثل الشر بالنسبة للأدنى ،والعقل الذي كان على الآخرين الوقت الكامل لتخصيصه له، يمثل الخير الأعلى. إن تصورهما يمكن أن يطبق على النظرة الكولونيالية الكونية للشعوب على وفق تقسيمات العقل القائد والجسد التابع ، العقل الذي يمثل الطابع الأوربي الغربي في التقدم والحضارة والجسد التابع الذي يمثل الأنحطاط والخضوع والتبعية الى السيد مقابل العبد الأدنى الذي لا يفقه شيء من الحضارة الانسانية التي أوجدها السيد الاوربي صاحب الإنجازات الكبيرة ،وهنا يضع ( فوكو) تصوره عن الطريقتين لصورة الجسد في كلا الجانبين وهذا التصور يأخذ في النظر الجسد في حقبة الخضوع ،أي أن الجسد يصبح ساحة للصراع بين الخطابين وكل خطاب منهم يعطيه ( فوكو ) طريقته الخاصة الطريقة الأولى هي طريقة السلطة على الأجساد : أن لعلاقات السلطة نفوذاً مباشراً على [ الجسد ] بحيث تستثمره وتقنعه وتروضه وتعذبه وتجبره على تنفيذ الواجبات وعلى أقامت الطقوس وعلى إرسال علامات الطريقة الثانية للسلطة هي سلطة الجسد قوة الإرادة والرغبة لديه ، فاذا كانت سلطة الجسد تعارض السلطة على الأجساد فأنها بذلك تمثل مصدر كل ثورة ،وكل رد على الطريقة الأولى ،أي على فعاليات وسلوكيات الإكراه التي تمارسها السلطة على الأجساد وهاتان الطريقتان توضحان اليات الخضوع والرد عليه التي يمكن أن نطبقها على الخطابين الكولونيالي وما بعده ،اللذان أتخذ كل منهما الجسد مساحة للصراع وحيز لترجمة الأفعال في ساحته المعرفية وخصوصاً اذا فهمنا أن الجسد هو النص ،أو العرض ،أو المشروع الذي يدون عليه ،وفيه، ومن خلاله كل الرغبات سواء كانت رغبة السلطة الكولونيالية ،أو رغبة الأنفلات منها تجاه فضاءات معرفية لا تعرف الخضوع والتبعية للمركز ،بل تأخذ في نظرها البحث عن أحقية الهامش في تجسيد ذاته والبوح عن مكنوناته في أزمنة الأنفتاح على اكثر من ثقافة لذلك فان سلطة الجسد مقابل السلطة على الجسد هي التعبير الأمثل لهذا الصراع .
إنَّ البحث في آليات الرد في حيز ثقافي للجسد لا بد من النظر والبحث والحفر في الحوادث التي سطرت على الخارطة المكانية للجسد وما يمكن أن تعكسه من ملامح وعلامات جديدة من خلال الأفعال التي تمارس في ضوء الضد الثقافي لتلك الحوادث التي سطرت بشكل قسري ساهم في إبراز ملامح الخضوع والتبعية في مجال الخطاب الاول ( الكولونيالي ) ، ومن هنا يمكن أن نعثر فوق الجسد على أثار الحوادث الماضية لأن الرغبات والإخفاقات منه تتولد ،وفيه تنعقد عراها الجسد مسافة لتسجل الحوادث ، التي تحاول أن تشكل صورة الأجساد وطبيعتها في ظل الصراع بين الرغبة وبين الخضوع، بين أمل التواصل وبين خوف الخروج من تلك الحوادث التي أصبحت ترسم ملامح الخوف وتقولب في إطار ما رسم لها في الظهور وأبعاد الرغبات المتخفية، لذلك يدعو ( فوكو ) في ضوء آليات الرد على مفهوم المقاومة للقولبة التي وضع فيها الجسد وما ترتكز عليه السلطة من أفعال في إخضاعه ، فهو يرى بأن العملية في الرد تحتاج الى أن تقوم على أسلوب بحث مغاير لما وضعته السلطة في هذا المجال ،أي مجال التخضيع للأجساد ، وهذا الأسلوب القائم على الرد من خلال إعتماد أشكال مقاومة مختلفة لأنواع السلطة كنقطة انطلاق ،أو باستعمالها لتشبيه آخر نقول إنه يعتمد على أستخدام المقاومة باعتبارها حافزاً يسمح بتوضيح العلاقات السلطوية وتوضيح موضع إندراجها واكتشافها نقاط أرتكازها ، والطرائق التي تستخدمها ، يستطيع الفرد بنظر ( فوكو ) على تشكيل ذاتياته بمعزل عن كل سلطة ، ومن ثمة فهو قادر على التخلص من هيمنتها وهنا يكون الخلاص بالمقاومة لأساليبها بعد أن يستطيع تفكيك أهدافها ونواياها التي رسمت على الجسد ، فمثلاً يعد في حاضرنا اليوم من ضمن آليات الهيمنة التي تمارس على الجسد في طريقة الملبس ،أو التقليد لبعض ما يروج في إطار الثقافة العالمية ، وما يقدم من خلالها من وسائل إخضاع على الجسد سواء كانت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، فمثلاً وسائل الإتصال الحديثة وما أتت به الحضارة الغربية التي تعمل على إكمال مشروعها في الهيمنة وإخضاع الآخر عمدت على أن تجعل الاجساد تعيش في حالة عزلة عن ممارسة الطقوس الحياتية القائمة على التواصل اليومي بين افراد العائلة الواحدة او بين ابناء المجتمع في القرية أو المدن الصغيرة ،وجعلت هذه الاجساد تحاكي العالم الافتراضي الذي بدأ يبتعد بهذا الجسد شيئاً فشيئاً عن وجوده المادي وتأثيره في الحياة الاجتماعية والأخلاقية ،وهذه واحدة من أساليب الهيمنة التي تمارس ضد الجسد وإذا رجعنا الى الوراء سنلاحظ أن العديد من أساليب الهيمنة قد مورست ضد الأجساد الخاضعة بحجة الثقافة والتنوير والخروج عن عالم الخرافة السحر الذي كان غارقاً فيه الشرق ، كما روجت له السياسات الكولونيالية التي مارسها المستشرق ،أو الفيلسوف ،أو المفكر الغربي تماشياً مع المساحات الكافية التي وفرت له ، والمتزامنة مع السلطات المحتلة المستعرة للشعوب ، والتي فرضت شكل التعليم والصحة والأقتصاد ،وحتى ما يجب أن يقرأ على المستوى الأدبي كي يكوّن ملامح هذا الجسد يقع ضمن الحضارة العالمية ، وفي هذا المضمون يوضح ( نغوجي واثيونغو ) كيف كانت تمارس سياسة التمييز الكولونيالي في التعليم ، والتمييز الذي يمنح للجسد الافريقي الذي كان يتقن اللغة الكولونيالية لغة الثقافة العالمية وهي الانكليزية ، وهنا يروي كيف كان يتم القبول في الجامعات على هذا الأساس ،إذ يقول؛ أن متطلبات القبول في الجامعة في كلية ( ماكير يري ) الجامعية فتكاد تكون مثل السابقة : لا أحد باستطاعته ان يرتدي عباءة الطالب الحمراء مهما كان متفوقاً في المواد الاخرى إلا اذا كان لديه امتياز في اللغة الانكليزية، وليس مجرد مقبول ! وهكذا كان ارقى مكان في الهرم والنظام مقصوراً على من يحملون بطاقة إمتياز في اللغة الانكليزية ، كانت الإنكليزية الواسطة الرسمية والوصفة السحرية للنخبة الكولونيالية . صارت اللغة المسيطرة تقرر الدراسة الادبية وتعزز السيطرة وتجعل من الجسد الذي يرتدي العباءة الحمراء والذي يحمل الفكر الكولونيالي وعلى ضوئه تسير كل الأمور الأخرى مثل السلوك والأفعال والأكل والشرب ، وطريقة التعامل وكل هذه العلاقات وغيرها ستجعل من الجسد في هذه الجامعات في ( كينيا ) في القارة السمراء تقع تحت بند الخضوع للثقافة الجديدة مقابل التخلي عن الثقافة الأصلانية ،أي كان بالإمكان أن يمد السيد الكولونيالي يده لمساعدة الشعوب الفقيرة ،أو التي تحتاج الى تطور دون أن يسلبها انتماءها الى الأرض التي عاشوا فيها ، لكنه أراد أن يسلب الشعوب انتماءاتها وإبعادها عن إرثها وتاريخها مقابل أن يكون جزءاً من الثقافة الجديدة ،وهذه السياسة مورست أيضاً في أرجاء أخرى من العالم تحت نفس الحجج والمسوغات من أجل التغيير والدمج في الحضارة الجديدة ، فالسلطات الكولونيالية هي من عملت وتعاملت على صناعة القوالب الأخرى للأجساد والبحث في المختلفات والمغايرات في هذه الأجساد ، هي من صياغة الدراسات ما بعد الكولونيالية ،أي هي جزء من حفريات بما في هذه الأجساد من صناعة لهذه الاجساد على اعتبار أن السلطة صنع وإعادة صنع جسدي ، ولنكون أكثر وضوحاً نقول أن السلطة هي فن صناعة الاجساد فلولا هذه الاجساد ما كان يمكن أن يكون للسلطة حضور في الخارطة الثقافية للبلد الذي وقع تحت سلطتها وبخاصة السلطة الكولونيالية التي عملت على ترويض الأجساد للشعوب المستعمرة , إنَّ هذه القوالب المادية المبنية على أفكار ليست بالواقعية بل هي مصممة في أماكن أخرى مثل ما نعيشه اليوم من استيراد ثقافات في كل الأشياء من مأكل وملبس وترفيه ، وكل هذا مدعوم بالتكنولوجيا وماكنة إعلامية ضخمة التي اصبحت حكراً على أمم مصنعة لها مقابل أمم مستهلكة لا تستطيع أن تخرج من هذه الدائرة ،كون كلمة السر لا يمكن أن يمتلكها الهامش حتى يصبح مركزاً منافساً للمركز الكولونيالي ، وتعمل السلطة الكولونيالية على تكييف هذه الأجساد ، وكما يرى ( فوكو ) أن السلطة تعمل على أن تجعل من الجسد الصورة المقابلة الى تبريز خطاباتها وسياساتها من خلال ممارستها عليه وضبطه من كل انحراف تعتقد بأنه خارج خطاباتها وهو بذلك يكون الحد النهائي للتكييف وتطبيق هذا التكيف بحسب تداول علاقات القوة تجاه وضعه في أنظمة من الهيمنة والسيطرة .

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *