قصدية الإساءة في الثقافة الغربية / الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

في بدء الكلام نطرح تساؤلات نفترض فيها نسق الموضوع، من أجل أن نتواصل مع الموضوع الى ما نصبوا اليه من أفكار حول مسألة الإساءة وقصديتها، والتشويه وأفعاله في المنجز الفكري الفلسفي الغربي وقصديته التي أنتج مثل هكذا تعميمات على الآخرين الذين عدهم مختلفين ومخالفين في المجالات الحضارية والثقافية المختلفة .
نبدأ هذه التساؤلات بما يأتي :-
1. هل انَّ الإساءة والتشويه وما صدر فيهما في المنتج المعرفي الغربي على مستوى الرسوم الكاريكاتيرية ، أو الأفلام المسيئة بحق الرسول محمد (ص) كانت نتيجة طبيعية لما قام به الفكر القاعدي والداعشي والافكار المتطرفة التي تنتمي لما يسمى بالإسلام السياسي وغيرها ؟، أم أن هذا المنتج هو نتيجة طبيعية للأفكار المشوهة التي حفل بها التاريخ الغربي وثقافته القصدية ضد الآخر، التي ملأت ذاكرة مواطنيه بصور حول الآخر وما يمثله من مقاومة فكرية وإنسانية وحضارية للمركزية الغربية ودورها في إخضاع العالم؟.
2. وهل لهذه المركزية مبررات تجعل من الأخر تابعاً ويوصف بأوصاف دونية في سجلها التاريخي ، على الرغم من ان الحضارة الغربية كما يزعم البعض صاحبة المساواة والعدالة الاجتماعية؟. وفي ظل هذا التحضر، هل يسمح للقائمين على هذه الحضارة لأنفسهم بأن يثبتوا ويؤكدوا في أنساقهم المختلفة فكرياً وثقافياً واجتماعياً وغيرها، تخلف الآخر المغاير، وجعل هذه المغايرة والانتقاص من المسلمات الثابتة في إحكامهم اتجاه الآخر المختلف في أشكال المعرفة والثقافة والفنون وغيرها ، مما يجعل منها مبررات لإعطائهم الحق في تأكيد الإساءة والتشوية على الآخر؟. أم أن القائمين على الحضارة الغربية استفادوا مما يقدمه الآخر من ثغرات في تاريخه المتأزم وظهور تيارات منافية للشرعية وللقيم الإنسانية ،إذ إنهم عملوا مع هذا الظهور للتيارات السلبية في المجتمعات الشرقية الإسلامية على تثبيت وتأكيد تلك الصور الموهومة بحجة ان هذا هو الوجه الحقيقي للشرق المسلم الذي حذرنا منه في حضارتنا الغربية ؟.
3. أليس من المنطق أن تعمل هذه المؤسسة الغربية بإداراتها المختلفة وقوتها المطلقة في المساهمة في تحسين وضع العالم وحجتها الدائمة بأنه يجب على الإنسان ان يعيش بكرامة على وفق قوانينها الحضارية , التي جعلت للإنسان حقوقاً وللحيوان حقوقاً؟ , أم ان هذه الحقوق لا تشمل الآخر ؟, بل ان عليها فقط جعل المجتمعات الأخرى تابعة لها في المحاكاة والتقليد دون ان تسهم في التغيير نحو الأفضل؟ .
إنَّ هذه التساؤلات في هذا المجال كثيرة ومتعددة ومتشعبة، وكثير من أفراد مجتمعاتنا قد يرى بأن الغرب بريء مما يجري في (ساحاتنا الثورية وشعاراتنا التحررية) وأن الموطن العربي والإسلامي كما وصفه بعض مفكري الغرب , هو في الأساس رازح تحت جذور الدكتاتوريات منذ زمن الحضارات الأولى في الشرق ، التي وصفها (هيغل) ، بأن (الروح المطلقة) كانت تعبر عن أصالتها بشكل رمزي في الشرق بسبب ملوكها وفراعنتها ، الذين جعلوا من أنفسهم أنصاف آلهة بل أله’ في بعض الأوقات ، إذ انسحب هذا الوصف على قياداتها الحالية ، والبعض يرى بأن هذه الأوصاف مازالت مستمرة حتى بعد التغيير، والعهدة على من حاول تأكيد الأوصاف التي نعت بها الإسلام ، وإعطاء الحجة لتثبيت النعوت والإساءة ، وإيصاله الى ما نحن عليه من قتل وذبح بأسم (الله أكبر) وراية الرسول محمد (ص) ، حتى يزيد يقين البعض الذي تغريه الصورة دون ـن يبحث في القصديات وما تخفيه من نوايا وسلوكيات متقصدة ، يهرول نحو المقولات والنعوت والتشويه والإساءة التي أتى بها الغرب ويعدها صحيحة ، كونها نتيجة للإسلام وفكرهِ المتمثل في الوقت الحاضر بالحركات التي تدعي الجهاد ، والجهاد مع الأسف ليس ضد المحتل الغاصب للأرض العربية ، ولا حتى ضد بعض طواغيت العصر، بل ضد الجماعات والأقليات والطوائف والمذاهب وأبناءها الأبرياء الذين قُتلوا وشُردوا على الهوية كما في العراق وسوريا وليبيا ، وغيرها من شعوب في المنطقة الأوسطية الذين وقعوا بين الفكر المنحرف والنوايا المخفية القادمة من وراء البحار والقارات.
لذلك فأننا نفترض بأن الإساءة والتشويه هي أفعال قصدية ، من أجل التسويغ للقادم من صور التشويه التي وقعت في الأزمان الماضية، وتشتيت لما تبقى من الأوطان ، وتهيئة لنظريات جديدة بعد (النخب الثقافية) و(الشرق الأوسط الجديد والكبير) و(خارطة الطريق) و(الفوضى الخلاقة) و (تقسيم المقسم) ووعود أخرى بعد (سايكس بيكو) و (بلفور) واتفاقات أخرى بعد (مدريد) وغيرها ، الهدف منها ليس تحرير الإنسان الشرق أوسطي والمسلم والعربي، لأنه يذبح تحت مرأى الدول صاحبة المقعد الدائم ولم تفعل شيئاً لصالحه ،كما في الصراع على ارض فلسطين ، دون ان تحرك ساكناً ، فقط الشجب والاستنكار ، الذي (لا يسمن ولا يغني من جوع) ، والبقاع ملئت بالمهاجرين والمهجرين والنازحين ، الذين قتلهم الجوع والبرد في الشتاء ،والعطش والحر في الصيف ، كأنهم أمام رحلة الموت المستمرة.
إنَّ أتباع المتطلع لأسس الفكر الغربي ، يرى بأن أصول الإساءة والتشويه هي مقدمة للقادم من التغيير، الذي يخفي وراءه من مقصديات التدمير الذاتي للهوية ، ويضع للقادم من الأيام الانحرافات في داخل الفكر الشرق أوسطي المسلم من أجل إبعاده عن أصالته، وإظهار البديل الثقافي من أجل اعتناقه ، بأنه الأفضل مما نحن عليه . فكلما كانت المصاديق أكثر تطبيقاً – وهي ليست من وضع أصحاب الشأن أنفسهم ، بل من وضع أيدي أخرى- كان الإتباع لها أكبر حجماً وأكثر اندماجاً فيها، وليست القضية ألآن حتى نتكلم عن نظرية المؤامرة ، بل هي عقيدة سار عليها الماضون ويحصد نتاجها القادمون من بعدهم .
إنَّ الإساءة والتشويه قانون وضع منذ زمن بعيد يرجع الى ظهور الإسلام بوصفه قوة مهمة في الخارطة العالمية والبعض يعتقد بأنه ظهر قبل الإسلام ، ونحن نؤكد من خلال المراجعة لبعض المصادر بأن المقصود في حركات الإستشراق والدراسات الإستشراقية التي تعود الى قبل (800) سنه وما قبلها من محاولات لإخضاع الشرق ، كانت تستهدف الآخر المسلم حتى وأن تبدلت هذه الصفات بين الغرب والشرق، (الغرب المتحضر، والشرق البربري) و(الغرب المؤمن، والشرق الكافر) و(الغرب المتنور، والشرق الظلامي)، لكن تأكيدنا بأن المقصود في هذه المرحلة والتي بدأت دراساتها في القرن الحادي عشر ميلادي عندما فتحت كراسي الإستشراق والدراسات الإستشراقية في الجامعات الغربية بأمر من مجمع الكنائس، توجت هذا الدراسات بأطروحة (صامويل هنتنجتون) في كتابه(صدام الحضارات) ، وهو إعادة صنع النظام العالمي ، إذ يرى (هنتنجتون): إنَّ الحضارة الإسلامية والمتمثلة بمركزها العربي محط لكل الصراعات مع باقي الحضارات ، إذ اعتبر كل من الحربين العالميتين الأولى والثانية وبعدها الحرب الباردة ،بأنها حروب مصالح ولا ترتقي الى صدام حضاراتي، باعتبار أن كل المتصارعين ينتمون الى حضارة واحدة ،وأن الصراع الحضاري أو الصدام الحضاري يقوم على امتيازات حضارية بين حضارتين متنافستين على مركز القيادة ، وهذا الامتياز بينهما هو في الجذور الثقافية والاجتماعية والدينية والعادات والتقاليد التي تتميز بها كل حضارة وما يمثلها من شعوب ذات هويات ثقافية غير قابلة للإلغاء. لذا فقد قسم (هنتنجتون) العالم على ستة حضارات عالمية هي (الغربية والصينية واليابانية والهندية والإسلامية والإفريقية) وجعل الحضارة الإسلامية هي محور في كل صراع حضاري ، ومن حق الحضارات الأخرى الحفاظ على هويتها اتجاه الخطر الدائم الذي يسببه الإسلام أو سببه الإسلام (1). وللمتتبع الحاذق لما جرى منذ (800) عام الى الوقت الحالي، وللنشاط الفكري والإستشراقي والثقافي الغربي ، سوف يأتي بتصور مفاده : بأن القصدية في التشويه والإساءة لم تكن ردة فعل تجاه ما قام به الفكر المنحرف والمتطرف الذي نضع بعده علامات تعجب عديدة وكثيرة حول مرجعياته والأسس التي تقبع خلف تكوينه ، بل أن الرسوم وغيرها من الأفلام والصور المسيئة لرسول الإسلام ،هي انطلاقاً من ميتافيزيقيا الفكر الغربي الحافل بنشاط قصدي ، حتى أن البعض يرى بأن الإساءة ، هي ما أشار اليها الرسول محمد (ص) بأنه (ما أوذي نبي مثلما أوذّيت) ليس المقصود فقط على ما وقع في الإسلام من تشويه وتغيير لبعض أحاديثه الشريفة ، بل إنَّ الأذية التي تعرض لها الرسول (ص) ممتدة الى الوقت الحالي عندما يوصف بأوصاف سيئة في الصحافة العالمية تحت بند حرية التعبير ولا تتحرك الأمم المتحدة لتلك الإساءة، فقط تتحرك الدول الكبرى ومجلس أمنها عندما يدافع الآخر عن حقوقه في أرض مستلبه ، وتصبح القضية ذات أبعاد عالمية ،حينما يذكر اليهود ومحرقتهم، واتهام الآخرين بالخروج عن احترام السامية وعدم المساس بها ، فهل اليهودية دين الله الأوحد ، والشعب اليهودي شعب الله المختار ؟ والإسلام هو دين كفر والحاد ، وهذه الحقيقة التي انعكست في السياسة الأمريكية خاصة والغرب عامة، وخير دليل على تأكيد هذه الصورة ، وما يقبع خلفها من تداعيات على شعوب الشرق الأوسط العربي المسلم ما يظهره الكاتب (جانيس ج تيري) في كتابه (السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط) بقوله:” وتمتد عملية تجريد الثقافة العربية الإسلامية من الصفات الإنسانية من قمة الهرم في الحكم وحتى أصغر متطوع في الجيش ، وإضافة الى المقترعين في الانتخابات الأمريكية” (2). وهذه الصورة واضحة الى المدى الذي وصلت اليه عملية ازدراء الإسلام في الثقافة الغربية وقمتها ،التي ينظر اليها من يدعى الإنسانية بأنها النموذج العالمي في التطور وحقوق الإنسان واحترام الآخر كما يظهر في المانشيتات والفضائيات ، حتى أن الناخب الأمريكي يرى بأن الإنسان المسلم هو بعيد عن محور الإنسانية وصفاتها الخاصة ،التي تشكلت بعيداً عن وعيه السالب ،بحسب الاعتقاد الغربي ، وأصبح جسده الذي ملئ أثاراً من الاستعمار والاحتلال (فأر) تجارب للأسلحة الغربية صاحبة حقوق الإنسان والحيوان معاً ، وهذا ما انعكس في تعامل جنود الاحتلال الأمريكي في العراق وغيرها من البلدان الإسلامية.
وفي مثال أخر عن الإسلام ورسوله (ص) وقصديه الإساءة والتشويه ، يرى الكاتب (تيري هنتش) في كتابه (الشرق الخيالي ورؤية الأخر): أن ” الأدوات الأساسية والتي بفضلها ينتقص الأوربي العادي وبشكل غريزي من العربي المسلم جاءتنا من بعيد . إنها تستمد جذورها من الخطاب الحقود الذي قامت بإشاعته الكنيسة الكاثوليكية حول الهرطقة والشعوذة (المحمدية) اعتباراً من القرن الحادي عشر ، ودوام هذا الخطاب تحت أشكال مخففة نوعاً ما ليعود الى الاشتداد في بعض المناسبات من هذا القرن ولم يتخلص منه بعد ، ولا حتى إدانته من قبل السلطات الرسمية الكاثوليكية – الا مؤخرا – ويأتي هذا الأمر في إطار سعي هذه السلطات الى إخفاء مظهر العالمية على الرسالة المسيحية” (3). وهذا المثال الثاني يشير الى أن عملية الانتقاص المستمرة ، والتي شكلت جزئية مهمة في ذاكرة التعالي الغربي على الآخر الشرقي العربي المسلم ، تنطلق من أسس بعيدة ، كما تم ذكرها سابقاً في هذه المقدمة وأكدها (هنتش) في رأيه واستقصائه للمعلومة وتدوينها في كتابه ، فهذا الكاتب يؤكد أن من ضمن أطر التشويه والإساءة هي ما رمي به الرسول محمد (ص) بالشعوذة والهرطقة التي استمرت في ذاكرة المجتمعات الغربية ، وهي مرسومة ويتم تأكيدها ، حتى إننا لم نلحظ في الوقت الحاضر وبعد ظهور الرسوم المسيئة للرسول تظاهرات كبيرة رافضة من قبل المجتمعات الغربية ، بل كانت هناك تظاهرات للجاليات الإسلامية ومن أيدها وهم قلة من الغربيين ، إلا أن الإساءة والتشويه استمر في صحف أخرى وفي أكثر من بلد أوروبي غربي وهذا دليل على ازدواجية المعايير في استخدام السلطة الغربية للتمييز بين المسلم وغيره ، ومن أشد انواع التمييز ثقافي وديني وسياسي الذي حصل على مر التاريخ هو ما تعرض له نبي الإسلام في الغرب من تشويه وما زال مستمر بحجج كثيرة وتعبيرات وصلت الى تقديم صورته بشكل مشين بحجة حرية التعبير في الغرب.

الهوامش
1. ينظر : هنتنجتون ،صامويل ،صدام الحضارات، إعادة صنع النظام العالمي ، ترجمة : طلعت الشايب، نيويورك :مركز سيمو وشوشتر روكلز،ط2، 1999،ص57،ص78.
2. تيري.جانيس ج ،السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، دور جماعات الضغط والمجموعات ذات الاهتمامات الخاصة، ترجمة حسان البستاني، بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون ،ط1،2006،ص53.
3. هنتش، تيري : الشرق الخيالي ورؤية الآخر، ،صورة الشرق في المخيال الغربي ، الرؤية السياسية الغربية للشرق المتوسط ، ترجمة :د.مي عبد الكريم محمود ،دمشق ،دار المدى للثقافة والنشر ،ط1،2006،ص89.

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *