أهم ما رُكز عليه في الثقافة الغربية هو مبدأ تفعيل الحضور الميتافيزيقي في الذاكرة الجمعية الغربية لذلك فإن أغلب الفلسفات التي بحثت فيما بعد الحداثة استندت على تفكيك الحضور الميتافيزيقي في الذاكرة الغربية الجمعية ، والتي كانت قائمة على أساس نوايا اللوغوس الغربي في تثبيت نقاط مهم حول كيفية تكوين ثقافة كونية يقودها العقل الغربي ، وتكون فيه الثقافات الأخرى مجرد محاكي ومقلد للحضارة الغربية . لذلك فأن فك الارتباط بين ما قدمه الحضور الميتافيزيقي للعقل الغربي في الذهنية الغربية وذاكرتها الجمعية ، وبين الأهداف والنوايا الحقيقية التي قامت عليها الحضارة الغربية ، كان لابد من تقييم الحضور الغربي في الذاكرة الجمعية ، وهذا الحضور كان له مبررات خداعة للجماهير بحجج مختلفة أهمها: مبدأ نشر الحضارة الغربية ، التي يعتقد أصحابها والمؤسسات القائمة عليها بأنها هي التي يجب ان تسود وان تقود العالم ، لذلك فأن الذاكرة بمفهومها الجمعي ،أو الذاكرة المشتركة ،أو الذاكرة التاريخية كما يسميها الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913-2005) ،الذي يركز في مؤلفاته عليها ويعد التاريخ متداخل معها في سياقات ضمنية يستند عليها من يحاول قراءة التاريخ في ضوء الذاكرة الجمعية ،أو المشتركة ، وبالتالي فأن هذه الذاكرة (التاريخية الجمعية) ، هي من تستقي منها الذاكرة الفردية وتتناغم معها في إيجاد تناسق فكري ومعنوي لإنتاج ما يسمى بالتفعيل المستمر للصورة الخاصة بأحداث ،أو مواقع وأماكن معينة ، وهنا يؤكد (ريكور) على مبدأ الانسجام بين ما هو فردي ومستمر للصور الخاصة بأحداث أو مواقع وأماكن معينة ، ويؤكد (ريكور) أيضاً على مبدأ الانسجام بين ما هو فردي وجماعي في إنتاج الصور الذاكرانية ، لأن هذا الفعل يستند الى أفعال التناغم والتواصل ، لا بالاختلاف وعدم التواصل في هذا المجال ، والمهم في هذا ان تنسجم الأفعال الجزئية مع الكليات حتى لا يصبح البناء الذاكراني للصور متخلخل فيها ، لذا فأن الذاكرة التاريخية عند (ريكور) ليست ذاكرة فردية ، بل هي ذاكرة جماعية بالأساس، إذ يجب على الذاكرة الفردية ان تنسجم مع الذاكرة الجماعية ،أو كما يردد دائماً : (الذاكرة تهمني ايضاً كذاكرة مشتركة) بفعلها في زمن التجربة الذي يصارع النسيان ، من اجل ذاكرة تناظر التاريخ وهو ما لا يمكن ان يتحقق الا بعملية جدلية بين التاريخ والذاكرة ، وبما ان التاريخ وسيرته حافلة وقد وظف هذا التاريخ على وفق نوايا الحضور الغربي وميتافيزيقيته وأفعاله ضد الآخر ، فأن الذاكرة الجمعية والمشتركة للذهنية الغربية والبنى الاجتماعية لهذه المجتمعات ، حفلت بتنوع الصور المؤيد والمؤكد لأفعاله المنافسة مع خارج دائرة الثقافة الغربية ، ليس من اجل بناء عالم مشترك يسوده العدل والتنافس المثالي ، بل من اجل تحفيز كل ما هو يساق ضد المنافس ثقافياً وحضارياً ، فما معنى ان تقوم حضارة عالمية تكون فيها الشعوب مصنفة الى(أولى وثانية وثالثة) ؟ وما معنى ان يقوم عالم فيه طرف فاعل ومنتج وطرف آخر مقلد ومحاكي لما يقدمه الطرف الأول؟ ، وما معنى ان يحتكر كل ما هو مباح للطرف الأول وممنوع منه الطرف الثاني ؟ ، مثل السلاح النووي أو التكنولوجيا المتطورة التي تدخل في مبدأ الدفاع عن النفس وردع المعتدي ، وكذلك ما معنى ان يستبعد الآخر من مقعد دائم في الأمم المتحدة ؟ فلو كانت النوايا حسنة لتقاسم العالم بأجمعه القيادة والتناغم في بناء أمم متحضرة دون ان يوصّف البعض منها بأوصاف تجعلها في دائرة المستويات الأدنى من الحضارة الإنسانية ، لذلك فأن التاريخ بوصفه الباعث على إحياء الصور التي يريد إيقاظها اللوغوس الغربي في حضور متعمد في الذاكرة الجمعية بالأساس ، ويريد إعادة بناء جملة من المفاهيم التي ترسخ لمبدأ الخلاف في تقبل الأمر ، لا على مبدأ الاختلاف في الثقافة ، وبالتالي فان الاختلاف الثقافي سينعش حقيقة التنافس الإنساني لصنع عالم أفضل ، ولا بد من العودة الى ان التاريخ يكتبه المنتصر ، أو المسيطر بإمكانياته التي حرم منها الآخر والتي تعود في كثير من الأحيان الى ثروات الآخر المستغلة ، والتي حاول صياغة تاريخ الآخر ليحفظ لذاكرة شعوبه ما يريد ان يثبته ويصبح التاريخ هو المحرك والمفعل للذاكرة للتاريخ ، وما يقدمه التاريخ للذاكرة ، وكلاهما قادر على حفظ وتفعيل ما يريده القائم على تشكيل الوعي الإنساني في مكان معين من العالم ، مثلما حصل في تثبيت الصورة العقلية عن المغاير ثقافياً، مثل الشرق أوسطي ذات الملامح البدوية والعادات السيئة ، وطريقة الأكل والشرب اللاحضارية والمستمدة مما صوره الرحالة والمستشرقين عن الحضارة الإسلامية في الشرق الأوسط والتي سنناقشها في الفصول القادمة . لذلك فأن التاريخ حافل بصور المهزوم الذي يصوره المنتصر على طريقته الخاصة من اجل التهكم والسخرية وعدم الإنصاف الا في أحيان قليلة ، ومن هنا فأن العلاقة بين الذاكرة والتاريخ الجمعيين هي علاقة زواج كاثوليكي يؤيده ويصدق على أوراقه الأقوى وليس الأضعف ، ويصوغهما على ما يبقي استمراريته ، لذا فأن الجدلية قائمة بين الذاكرة والتاريخ تقوم على وفق الصيغ التالية : إذا كانت مهمة الذاكرة حفظ الماضي ، فأن مهمة التاريخ بناء ما حفظته الذاكرة ، ولما كانت الذاكرة عبارة عن صور ، فان التاريخ هو الصيغة اللفظية المعبرة عنها ، وعليه فالذاكرة نوعاً ما هي حوض الكائن الذي تتجمع فيه كل الصور العقلية والفعلية والماضية والحاضرة ، فهي عصب التاريخ الذي يحضر فيه الغياب. بل وأكثر من ذلك فأن التاريخ هو ليس فقط صيغ لفظية معبرة ، بل هو ايضاً ما سطّر في المجلدات التي اختلفت في طريقة تدوينها ، والتي أصبحت اليوم للقارئ عبارة عن مصداق لما حدث في الماضي هذا الذي حدث ودوّن، اختلف عما وقع فعلياً في ارض الحدث ، لأن من دوّن قد نقله بعد حين وليس بشكلٍ مباشر كما يحدث ألان ، فأن هذا التدوين قابل للزيادة والنقصان وقابل للتحريف والتعديل بما يتلاءم ومقررات المنتصر ، فالتاريخ الذي يحفظ الماضي ، فأن هذا الماضي لم ينتقل كما حدث بالفعل ، بل زينت فيه صور وشوهت فيه صور ، حتى ان عملية التشويه سيقت بما يتلاءم وأهداف مستقبلية قائمة على المصالح ، ومثال ذلك ما يذكرنا التاريخ المحلي للشعوب العربية بان العالم العربي لم يكن دويلات مقسمة على أساس ما هي عليه ألان ، بل كانت خارطة قديمة تمتد من الشرق وحواضره في الكوفة والبصرة وغيرها من المدن الى المغرب العربي ومدنه ، لكن المنتصر في الحروب العالمية الأولى والثانية جعل العالم العربي دول متناحرة ، وألان اتضحت ملامح التقسيم وأصبحت مذاهب وديانات وقوميات متناحرة ، وغداً ستصبح قبائل متناحرة ، في السابق لم تكن الأرض العربية ملك لأسر معينة ، أو ملوك ، بل ان المنتصر وزعها على من قال له نعم ، وقبل بما كتبه في تاريخه ، وأصبح التاريخ الإسلامي حافل بألغام ومفخخات أضافها المستشرق الفلاني والباحث الغربي ،الذي أصبحنا ننحني أمامه لأنه هو القائل دون ان نرجع الى التدقيق في المعنى هل يتلاءم مع دستورنا الشرعي وأحاديث إسلامنا الوسطي؟ ، أم فقط ان مصدر ما كتب أيدته مرجعيات غريبة لا غير ، فيجب ان نوافق على ما جاء فيه ، لذلك ليس لنا الحق في الاعتراض ، حتى على بنود الأمم المتحدة التي جعلنا فيها من أفراد العالم الثالث وقسمونا الى شرق أوسط و شرق أدنى وشرق أقصى ، بينما هم غربهم واحد ، لا يوجد غرب أوسط ، أو غرب أدنى ، أو غرب أقصى ، علماً ان مسيرة الحضارات السابقة لم يكن فيها هذا التقسيم ، لأن الصراع كان متكافأ بين الأطراف المتنافسة على قيادة العالم آنذاك.