أ.د محمد كريم الساعدي

    إنَّ من الملاحظ أن بعض الملامح المسرحية في التاريخ العربي الإسلامي لم تولد في أماكن مغلقة ، بل هي وجدت منذ البداية في الأماكن المفتوحة ، وبما أن المرحلة الإسلامية التي كانت تحكم البلاد العربية وغير العربية لم تعط للمجال المسرحي استقراره وتطوره الملحوظ، فكانت أغلب هذه الممارسات تقام في الساحات العامة ،أو الأسواق ، أو أمام البيوت وغيرها من الأماكن المفتوحة التي تعرض فيها هذه الممارسات المسرحية .

    بغض النظر عن المجادلة في قضية هل أن العرب كان لديهم مسرح ؟، أو ممارسات وملامح مسرحية؟ ، فأننا سنركز في هذا المقال على التجربة المسرحية القريبة من مسرح الشارع ، والتي تعدّ من المرجعيات المهمة لنشوء هذا الفن في الساحة العربية ، والمقصود هنا هو الظاهرة الفنية التي كانت تقام في الساحات والأسواق والطرق العامة ، دون أن تتخذ لها أماكن وقاعات محددة كما هو معمول في المسرح التقليدي الغربي ، وهذه الظاهرة هي التعازي الحسينية ذات الطقس الإسلامي وما يقابلها في الديانة المسيحية.

    أنَّ من أهم المتقابلات الفنية ذات الملمح الديني بين المسيحية والإسلام هو الطقوس الدينية ذات النشاط الفني المسرحي الذي أقيم في الساحات العامة والطرقات على الرغم من الإختلاف بين الوعي بالظاهرة الفنية المسرحية في المسيحية عن غيرها في الإسلام . ومن ثم فإن الطقس المسيحي عمل على الأستفادة من المسرح بوعي كونه قد حارب هذه الظاهرة في البدء ومن ثم عمل على توظيفها في بعض المقاطع المسرحية في داخل الكنيسة ،ثم وسّع هذا النشاط ليقدم حلقات طقسية درامية لموضوعات من الكتاب المقدس خارج الكنسية ، وقد أصبحت هذه الظاهرة مكملة لتاريخ العروض المسرحية التي تنتمي لمفهوم مسرح الشارع . أما في الإسلام فقد نشأت هذه الظاهرة الطقسية ذات الملامح درامية من خلال بُعد شعبي خالص دون التزام المؤسسات الدينية لها في بادئ الأمر ، وبعدها أصبحت جزءاً مهماً من مراسيم تقدم في أيامنا هذه في عدد من البلدان العربية والإسلامية .

 توجد عدة آراء في ماهية هذه الظاهرة الخاصة بالطقس الإسلامي المعروف بالتعازي المرتبطة بواقعة كربلاء ونشأتها في المنطقة العربية الإسلامية . في هذا السياق يرى أدونيس : ( ليس الحسين أول من قتل في تاريخنا بهذا الشكل المأساوي . إنَّ قتل الإنسان – كما يقتل أي حيوان – ظاهرة مألوفة ، عادية في تاريخنا كله ، قديماً وحديثاً ، لكن لقتل الحسين خصوصية تتمثل في صيرورته ذكرى ، أي في تحوله الى احتفال ، وهو احتفال – محاكاة تمثيلية قولاً وعملاً ، وألفاظاً وحركات ، للحدث الفاجع). ومن خلال هذا الكلام لأدونيس ؛ فإن صيرورة هذه الذكرى هي التي جعلت من هذه الواقعة وهذه الشخصية الإسلامية الكبيرة تتحول ذكراها إلى احتفال عند محبيها ، ،أي لولا هذا الاحتفال لما أستمرت هذه الذكرى ، على الرغم من اختلاف هذا الرأي مع الرأي الديني الذي يعدّ الحسين عليه السلام من الشخصيات الدينية المهمة لما له من قرابة من الرسول محمد (ص) ، وكونه من الرموز الإنسانية والإسلامية المهمة التي ميزت الفترة الأولى من الإسلام . ومن ثم فإن هذا الاحتفال الذي أنطلق في بداياته الأولى في المناطق التي تكثر فيها الشيعة في المناطق الإسلامية وخاصة في الشرق الإسلامي . كما يرى المنظر لهذه التعازي الباحث (أندريه فيرث) في نشأتها بإن التعزية نشأت  كشكل مسرحي احتفالي ، من امتزاج نوعين من الطقوس الدينية والشعبية ، التي تصاحب إحياء ذكرى استشهاد الحسين في العاشر من المحرم عام (61ه ، 680م) ، وهما :

  1. أما النوع الأول ، فهو المواكب ومسيرات الندب والرثاء ، التي كانت تجوب شوارع المدن والعواصم الشيعية ، والتي بدأت منذ القرن السابع الميلادي .
  2. وأما النوع الثاني من الاحتفالات ، فقد بدأ في القرن السادس عشر ويتمثل في رواية سيرة الحسين وأهله في محافل شعبية ، ويجلس فيها الراوي على منصة عالية ، ليقرأ على السامعين أجزاء من كتاب روضة الشهداء .

     وفي منتصف القرن الثامن عشر ، أمتزج هذان النوعان من الأحتفالات الدينية ، وظهرت التعزية كشكل مسرحي.. ، وحسب رأي (فيرث) ؛ فإن هذين النوعين اللذين شكلا الصورة الدرامية للتعازي بشكلها الفني المسرحي يبين فيهما ملامح فنية ترتبط بملامح مسرح الشارع ، وهي :

  1. الأمكنة التي تقام فيها هذه التعزية هي أمكنة مفتوحة وغير مغلقة .
  2. الاحتفال هو احتفال ارتجالي تشترك فيه أعداد كبيرة من المشاركين ، وأعداد أخرى من الجمهور ،
  3. العفوية في المشاركة من القائمين على هذه المظاهر الاحتفالية ، وكذلك من الجمهور في تكوين الصورة الطقسية الدرامية للتعزية . 

     وفي هذا المجال يرى الباحث الدكتور (محمد سيف) أن التعزية تعبر  في جوهرها عن فكرة المسرح الجوال الذي يمكن إقامته في أي مكان لاحتوائه على اكسسوارات بسيطة يمكن نقلها والترحال بها في أي أتجاه في احتفال شكله ومضمونه قريب كل القرب من مسرح الشارع. واعتقد أن القرب بين التعازي ومسرح الشارع حسب الرأي السابق ، يقصد به مسرح الشارع بصيغته الحالية ، أو كما يقدم في أيامنا .

    في الشرق الإسلامي والعربي تتميز التعازي في كونها تمتلك ملامح مسرح الشارع من حيث الأمكنة المفتوحة والارتجال المرافق للفعل الدرامي المرافق لهذه الظاهرة ، كما أن هذه الظاهرة الدرامية تمتلك من العناصر الأخرى القريبة من عناصر العرض المسرحي من إكسسوارات وأزياء تعبر عن الفترة التي وقعت بها واقعة كربلاء للمجسدين وغيرها من العناصر التي يمكن أن تستخدم بشكل مطابق في أي عرض لمسرح الشارع ، مع أعتبار أن هذه التعازي تقدم الى يومنا هذا بشكل واسع وبأعداد كبيرة من المشاركين ، وتقدم في أكثر من مكان في المدينة الواحدة ، مع استمرار المظاهر الأخرى التي أشار لها (فيرث) ، أي تصبح ظاهرة التعزي تضم ثلاثة أنواع قريبة من مسرح الشارع تدخل فيها المظاهر الدرامية في الأماكن المفتوحة ، وهي:-

  1. ( التعازي ) أو ما يطلق عليها في المصطلح الشعبي (تشابيه) ، وهي تقوم على تمثيل قصة مقتل الحسين (ع) كاملة من صباح العاشر من محرم حتى لحظة مقتله وشهادته هو أهل بيته وأصحابه .
  2. المواكب ومسيرات الندب والرثاء ، وهي التي تقام من الأول من شهر محرم لغاية العاشر من الشهر نفسه .
  3. الراوي الذي يروي قصة الحسين (ع) واستشهاده ، وهذا الراوي ، أو ما يسمى بالمصطلح الشعبي (القارئ) الذي يستمر بسرد قصص مسير الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه لغاية استشهادهم جميعاً ، ويرويها لمدة عشرة أيام ، ولكل يوم قصة عن حدث في الواقعة ، بعض هذه المظاهر السردية تكون في الساحات العامة والأسواق ، وبعضها الآخر تتم في البيوت ، أو المراكز الدينية ، وما يهمنا المظاهر التي تقام في الأماكن المفتوحة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *