نهاية الإنسان بداية عصر آخر / الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

من يتطلع الى الدول في زمن الأزمات يكتشف حقيقة البناء الذي قدمته الحضارة الإنسانية للمجتمعات وكيفية نهضت هذه المجتمعات بالتكاتف والتعاون في تأسيس أنظمة في الظاهر هي قادرة على إيجاد التمدن والتطور والحضارة في القرون الماضية الى الوقت الحاضر ، لكن في الفترات والاخيرة تعرضت هذه المجتمعات ودولها الى هزات اقتصادية وصحية كشفت حقيقة هذه الانظمة القائمة على الافكار التي يعتقد أنها متطورة ومنها النظام الرأسمالي والليبراليات المتقدمة التي أوصلت الأنسان بسبب جريانها خلف التوسع والتطور التقني مبتعدة عن الإنسانية التي يجب أن تكون هي الأساس وليس التطور الذي يبعد الأنسان عن مكانه الحقيقي بين المخلوقات على هذا الكوكب . لقد تم التركيز على كل ما هو يضر بإنسانية الأنسان في جوانبه الروحية مقابل التركيز على مباهج الدنيا ومادياتها ، لذلك تطورت الأزمات في دول العالم المتقدم ووصلت الى مرحلة الانغلاق التاريخي في أطاره الإنساني ، وهذا ما يوجد في أغلب الشعوب تطوراً وسعادة ظاهرية كما يظن البعض ، هذا التطور التقني الهائل الذي أضر بالبيئة والأنسان معا ، وهنا يشير الفيلسوف الألماني (إدموند هوسرل) صاحب الفلسفة الظاهراتية ، في كتابه (أزمة العلوم الأوربية الفينومينولوجيا الترانسندنتالية) الى هذه الأزمة قبل قرن كامل مما نحن فيه اليوم بالسؤال الذي طرحه :” لماذا لم يظهر أبداً في هذا الجانب طب علمي ، طب للأمم وللجماعات فوق الوطنية؟ إن الأمم الأوربية مريضة ، أوربا ذاتها توجد ، كمل يقال ، في أزمة . ليس ثمة أي نقص في من هم هنا بمثابة محترفي العلاج الطبيعي .بل إن سيلاً من اقتراحات الإصلاح الساذجة والمبالغ فيها يكاد يغمرنا . لكن لماذا فشلت علوم الروح التي عرفت تطوراً خصباً،”(1) .
ونحن نتسائل أيضاً ، هل أن الأنسان قد فقد جزء من البناء الروحي المكمل للجانب الفسيولوجي في ظل أزمة هذه العلوم ؟ وما هي طبيعة الأنسان التي جعلته فريسة سهلة للأمراض في ظل الانهيار الصحي والنفسي الحاصل في العالم ؟ ، فالأنسان العالمي الذي يريده التقدم التكنولوجي أن يكون عبداً للألة ، والرأسمال ، وللأنظمة التي قولبته في مجال عمل صارم حتى ساعات متأخرة من يومه، مما أنعكس سلباً على عدة جوانب في حياته منها :
• البعد الانساني : الذي فقده لصالح العمل دون أي رحمة في ظل أن الفرد يعمل حتى ينتج ويكون قادر على المشاركة في بناء المجتمعات الجديدة ، لكن قد نسي إنسانيته في ظل هذه القوانين الصارمة .
• البعد الفسيولوجي: تراجع على مستوى الصحة البدنية بسبب ساعات العمل الطويلة ، جعلت من جسده ضعيف وعرضة للأمراض وأرض خصبة لأي انتكاسة صحية أو وبائية على مستوى العالم ,
• البعد الاجتماعي : قد ضعفت الروابط بين ابناء العائلة الواحدة بسبب أرتباط أفرادها في العمل المستمر حتى ساعات متأخرة من اليوم ، وعندما يصل الى سن التقاعد يكون قد فقد الكثير من الحميمية الروحية التي فقدها في التزامات العمل والإنتاج في أيام شبابه .
• البعد الأخلاقي : الذي أصبح مبني على وفق قوانين العمل الصارم ، وليس على وفق التكافل والتواصل والرحمة .
كل هذه النقاط وغيرها من أجل أن تصل الحضارة الى أنسان دمية، له مواصفات ترتبط بعصر التكنولوجيا على حساب انسانيته التي ضحى بها بموافقته أو من عدمها ، إذ لابدّ أن يخضع من أجل الرفاهية المزعومة التي تبعد الإنسانية لصالح التقنية الحديثة وهذا هو الأنسان الأخير ، على وفق فكر الفيلسوف والمنظر الأمريكي (فرانسيس فوكوياما ) في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) إذ يرى الآتي ” إلا أنه على وجه الإجمال كان قرن السلام وقرن تزايد الرفاهية لم سبق له مثيل . فكان للتفاؤل إذاً سببان أساسيان : السبب الأول يكمن في الاعتقاد بأن العلم الحديث قد يحسن الحياة الإنسانية بمحو المرض والفقر . والطبيعة، وهذا الخصم القديم للإنسان سوف يجري السيطرة عليها بواسطة التقنية الحديثة بحيث تضطر الى خدمة أهداف سعادته .أما السبب الثاني فهو أن الحكومات الديمقراطية سوف تستمر في الانتشار في المزيد من البلدان “(2) . وفي هاتين النقطتين السابقتين قد حصل ابتعاد عن الأهداف المعلنة لها ، فالتقنية قد جعلت من الأنسان بإنسانيته تابع لها ، من اجل أن يحقق أفضل ما يريده رأس المال من هذه التقنية ، لذا فقد وظف الأنسان لها ، ولم يوظفها لصالح الأنسان ، وفي النقطة الثاني قد حقق الانتشار فعلاً في مناطق الارض الأخرى لكن على حساب شعوبها ، فالأنظمة الديمقراطية في الغرب التي يسيطر عليها نظام الرأسمالي قد انتجت انظمة دكتاتورية ، أولاً ثم أنظمة قائمة على الصراعات القوميات والاديان والطوائف ، ومن خلال هذه السيناريوهات ، تدهور وتراجع الانسان الآخر في الشرق الأدنى والأوسط وافريقيا وامريكا اللاتينية وأمريكا الجنوبية ، تراجعت فيها الإنسانية لصالح للدكتاتوريات التي أغرقت بالصراعات والقمع ، ومن ثم بالتقاتل بين أبنائها لصالح مصلحة الغرب وسياساته التي انكشفت سياساته المخادعة في ظل الأزمات العالمية ومنها الحروب الكونية والاوبئة والامراض التي كشفت حقيقة الاستثمار في الانسان لصالح التقنية في الغرب والدول المتقدمة ، وفي الأسلحة والحروب من أجل تسويق تقنيتها الى دول العالم الثالث أو الدول التي اصبح فيها الانسان هو أداة رخيصة بيد الدكتاتوريات أو الصراعات الدينية والمذهبية والقومية الساذجة التي تسوق لها السلاح بتقنياته المتقدمة التي من المفترض أن تحيي أمولها المدفوعة من الدول المتأخر الانسان ما فوق الوطني حسب تعبير الفيلسوف (أدموند هوسرل)أصبح تقتل هذا الانسان ، من أجل بقاء مصالحها الضيقة ، وهي لم تحقق الانجازات على المستويات الاقتصادية والزراعية والصحية وغيرها.
فالإنسان في كل من العالمين المتقدم والمتخلف هو تكّون بطريقتين مختلفتين على وفق ازمة العلوم العالمية هما :
1. إنسان التقنية الحديثة الذي أصبح عبداً للتقنية ومالكيها من الرأسماليين العالميين ، وهذا الانسان فقد ثلاثة مقومات (إنسانية ، واجتماعية ، وفسيولوجية ) .
2. أنسان العالم المتخلف والذي ساعدت على تخلفه ايضاً الرأسمالية وتقنيتها الحديثة ، بإيجادها أنظمة دكتاتورية كمرحلة أولى ، انهكته في حروب وصراعات وقمع . وفي خطوة ثانية اوجدت له أنظمة ثانية قائمة على الاثنيات المتصارعة في دول قابلة للتقسيم ، وبالتالي هذا الانسان لا حول له ولا قوة في ظل هذه الهيمنة من جهة ، والصراعات الداخلية من جهة ثانية .
إذن ، ما طبيعة الانسان الذي نطمح اليه ، والذي يمكن أن يحقق انتصاراً على كل الظروف التي يواجهها في هذا المرحلة. أن الانسان الذي نعتقد به ، هو الذي يجب أن يعيد إنسانيته في ظل هذه الظروف ،فهو القادر على بناء حضارته الروحية والنفسية على وفق التوزيع العادل للثروات في الدول ، وتقديم الإنسانية على كل شيء ، وخصوصاً إذا ما نظرنا الى أن جميع الأديان السماوية والوضعية وجدت الأجل الانسان ومن أجل النهوض بقيمة الروحية والمادية على حد سواء بعيد عن الاستغلال ، وخصوصاً إذا ما وضعنا أمامنا مواثيق الامم المتحدة التي تنادي بالتعايش السلمي ، وحق التعلم والتعليم ، وحق الحياة لكل فرد على هذه الارض ، يجب أن نحصل على نظام دولي لا تكون فيه تراتبية والبقاء للأقوى ، بل يكون البقاء لكل أنسان قادر على الحياة على هذه البسيطة . أنسان ينعم بثرواته الطبيعية ، لا يجعل من الطبيعة عدو له ، بل يحيها على وفق الاستثمار الامثل لها ، الانسان الذي توضع كل رؤوس الاموال لخدمته ، وكل التقنيات من أجل اسعاده ، يكون قادر على تطويعها لخدمة الانسانية جمعاء . لكن هل القلة من اصحاب رؤوس الأموال تسمح بذلك ؟ ، وهل الانسان قادر على استرداد قوته البدنية وعلاقاته الاجتماعية ، وسمته الانسانية في ظل هكذا ظروف ؟ . وهل يستطيع العالم على ايجاد انسان ثالث ، بين إنسان التقنية وإنسان التخلف ؟
الهوامش
1. إدموند هوسرل : أزمة العلوم الأوربية الفينومينولوجيا الترانسندنتالية، ترجمة : د إسماعيل المصدق ، بيروت : المنظمة العربية للترجمة ، 2008، ص518.
2. فرانسيس فوكوياما : نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ترجمة : د فؤاد شاهين وأخرون، بيروت : مركز النماء القومي ، 1993، ص38.

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *