صدر كتاب (التكوين الأنطولوجي ، دراسة في جماليات الوجود والماهية) من دار أفكار للنشر والتوزيع في سوريا ، ودار الفنون والآداب في العراق.2018.
نبذة مختصرة عن الكتاب
إن عملية التمظهر في الزمان والمكان ، والتي تنطلق من أفعال ولحظات الحضور الذي ينعكس في إيجاد هذه اللحظات المتمظهرة والمتمركزة في الوعي ذات الاشتغال المعرفي وحضور الشيء المتكَون ، هي ما تحيل هذا اللحظة الى حضور ، وهذا الحضور يأخذ معناه من التكوين الجمالي للوجود المتشكل في هذه اللحظة ، فالحضور يعد سمةً من سمات التشكيل الترابطي بين فضاء المشاهدة ، وفضاء التكوين الأنطولوجي للأشياء في طبيعتها ، التي تكاملت جماليا ووظفت ذاتها في لحظات الفرجة في داخل الوعي المتلقي ،أو المقابل للحظة التكوين الأنطولوجي الذي وجد في هذه النقطة من التقابل في بداياتها ، ومن ثم في التداخل وصولاً الى التبادل ، لأن هذا التكوين قد حضر، و” أن ما يوجد أي ما يحضر ، يوجد أو يحضر في الوجود، أي في الحضور ، ويكون حاضراً ،أو يعرض نفسه بوصفه موجوداَ” ([1]) ويأخذ فضاءه ولحظاته وتشكلاته الأنطولوجية في البعد الزمكاني ذاته . وهذا الحضور لا يمكن أن يكون موجوداً كحضور في ذاته ، بل هو حضور مرتبط بلحظة وجود الشئ وتكوينه الأنطولوجي ، الذي يستدعي ذاتاً واعية متلقية قابلة على التفاعل والتشاكل والتساؤل معه ، حتى يكون حضوراً منطقياً يجمع بين الطرفين في لحظة ما . هذه اللحظة التي اصبح فيها تكوين الشكل أنطولوجياً باعثاً لرسائل تحاكي وتناغم الذات الحسية والروحية ،”حيث توجد لذة حسية مثل لذة اللون ، وحيث تبعث عناصر الأنطباع الحسي ذاتها على اللذة ، لا يلزمنا ان نبحث عن أسباب أخرى تفسر لنا ما نشعر به من لذة(…) ويوجد هذا التأثير حينما تتحد مجموعة من العناصر الحسية ، التي هي ذاتها غير طريفة بحيث يبعث ائتلافها على اللذة”(1[2]) المنبعثة من الإحساس بإكتمال التكوين الناتج من اتحاد العناصر ،التي إذا تفرقت ،أو عادت الى أصلها لم تعطِ التكوين الجمالي أنطولوجياً ، بل بتعاضدها واندماجها تختلف في رؤيتها ، وهيأتها ، وأنطباعاتها المنبعثة للمتأمل والمستغرق في الصورة المتشكلة أمامه في إطار التكوين الفعلي للظاهرة الجمالية ، وهذا التكوين الأنطولوجي له وحدته المادية ، التي يتمركز فيها أصل الموضوع الذي انطلقت منه أجزاؤه في البناء والإنشاء والتكوين ، هذا الاشتغال الأنطولوجي زمكانياً هو الفاعل في انبعاث الإشارات القابلة للالتقاط ، والتي تولد الإحساس بقيمته الفنية ، كعمل فني قابل للتفاعل مع ذات متلقية واعية ، قادرة على أن تتسامى حسياً معه، لأنَّ هذا التسامي هو المنطلق من هذه الوحدة الأنطولوجية في تكوينه “التي تجعل منه موضوعاً حسياً يتصف بالتماسك والإنسجام من ناحية ، كما أن له مدلوله الباطني الذي يشير الى موضوع خاص ويعبر عن حقيقة روحية من جهة اخرى ، فلا بد للعمل الفني من بنية (مكانية) تعد بمثابة المظهر الحسي الذي يتجلى على نحوه الموضوع الجمالي ، كما أنه لابد له أيضاً من بنية (زمانية) تعبر عن حركته الباطنية ومدلوله الروحي بوصفه عملاً انسانياً حياً”([3]) ، ومن هذين المنطلقين المكاني والزماني وإشتغالاتهما في البناء العقلي الروحي الذي يتمركز فيه الموضوع في داخل الوعي للذات المتفاعلة والمنشغلة في التفسيرات والتأويلات المنطلقة نحو تكامل الموضوعة في داخلها ، تتشكل لنا العمليات الأولى لكلا المرجعيتين في الأبداع والتلقي ، لكنهما في كليهما يكون انطلاقهما وجودي حسي ، هذه العملية عند المبدع الباث والمتلقي للأبداع لها امتداداتها سواء أكانت في أجزائها المكونة ،أم كانت في تفسيراتها المتكونة ، وما بين المكون والمتكون يتشكل روابطها قائمة على التكوين سواء أكان هدف للمبدع ،أم كان للمرسل إليه في تقصدها واشتراطاتها الجمالية المؤشرة لأفعال التلقي المحددة والميالة للبناء الجمالي وتكويناتها الحسية التي تستمر في تأثير ، كلما توفر التكوين الأنطولوجي المناسب واللحظة التي تسهم في استقباله ، لأن العمل الفني كوجود هو ليس فعلاً ماضياً ، ينتهي في وقت محدد ،وحينما يعود تكون قيمته الفنية قد أنتهت ،بل هو قادر إذا توافرت الظروف في إعادة انتاجه بطريقة تجعل من لحظة الأبداع الحسي قابلة للاستمتاع والتناغم مع الإحساس، لذا فأن للتكوين الانطولوجي الذي يصاغ بطريقة بارعة ومبدعة منذ انطلاقاته الاولى ، وإعادته في لحظات أخرى له قيمة الحياة والاستمرارية شريطة توافر المعطيات الإبداعية ، لأن للعمل الفني “وجود وتاريخ فهو يستمر في الوجود ولكن تتغير خبرات الناس به، فلا نستطيع مثلا أن نقول أن إلياذة هوميروس ،أو مسرحيات شكسبير تثير فينا نفس التجارب التي كانت تثيرها عند المعاصرين لهما، واذا كان للعمل الفني وجود خاص إلا أنه ليس كأيّ حدث تاريخي وقع وانتهى، كما أنَّه ليس حقيقة جامدة لا تتأثر بالزمن ، وليس خبرة شعورية في وجدان البشر ،ولا هو تصور مثالي كفكرة المثلث الرياضية ،أنه بنية في نسق من القيم والمعايير المتفاعلة ببعضها “([4]) البعض لتكون في أطارها العام الموضوع الذي وظف في تكوين مميز قائم على مبدأ التفاعل لبناء أنساق بصرية سمعية حركية ، غايتها بعث القيم الجمالية مكانياً ،وبعث السرور روحياً ، و نفسياً لتنعكس على أفعال الوعي ، و الإدراك عند المتلقي لهذه الصورة الجمالية وتكوينها الأنطولوجي القائم على ثلاثة مبادئ لهذا التكوين في وجوده الجمالي ،وهي: الوحدة العضوية من خلال ترابط أجزائه حتى يتكامل العمل الفني ، وثاني المبادئ هو الموضوع وسيادته في العمل الفني ، وثالث هذه المبادئ هو التوازن وتماثل الأجزاء، والتوازن هو من المبادئ التي يتمظهر فيها التكوين الانطولوجي في صورته الجمالية ، التي تقدم الموضوع في وحدة من الترابط القائمة على عناصر العمل الفني ([5]) .
ومن بين أنواع الفنون المهمة التي تجعل من التكوين الأنطولوجي غاية جمالية في تشكيلاتها الإبداعية هي الفنون المسرحية ، وهي موضوع هذا الكتاب في فصوله اللاحقة ، فان المسرح كفن يشتغل على مبدأ التكوين ، كمنطلق أساسي في إيصال رسائله الى الجمهور ، الذي يتلقى خطاب النص ، أو العرض ، أو حتى ما يمكن أن تقدمه عناصر العرض المتحدة في عملها تارة ، أو المنفردة تارة أخرى من خطابات نابعة من تكوين أنطولوجي جمالي للمتلقي ، ومستنداً الى لحظة أنطولوجية متشكلة في فضاء العرض المسرحي في لحظة التقاء بين منجذبين الى نقطة إرتكاز مشتركة يذهب فيها الوعي المتلقي نحو الشئ المتكون في الفضاء المفترض والبيئة المميزة لهذا الشكل الجمالي ، وهنا يكون “للحظة الانطولوجية المتميزة والتي تبذل المحاولات الحقيقية نحو اهميات الأعمال ، هذه النزعة ،أو الغرض ، والذي يعلن عن نفسه في وضوح تجاه الوجود ، يحمل ثم يكشف عن صيغه إعلانه التي تشير الى الظهور المتضح للعيان”([6]) في هذا الفضاء المسرحي وقيمته الجمالية الدالة على اللحظة الأنطولوجية لأفعال التكوين في المسرح.
إن العمل المسرحي كظاهره أنطولوجية في المقام الأول، الذي ينتج أفكاراً تأخذ حيزها وطابعها الوجودي من ذات المكان والزمان المشكلين لصورة العرض المسرحي ، لتتحول هذه الوجودات وأعراضها الى وجود آخر ، هو وجود ذهني عارضاً للتكوين الأنطولوجي الأول المنبثق من المكونات والعناصر الحسية من على خشبة المسرح ، وهذه العناصر التي لها الحضور في الفضاء الأدائي للعرض المسرحي ، هي من تتفاعل مع بعضها و تكون صورة العرض وخطابه ليتفاعل فيما بعد الكل المكون لعمل العناصر واشتغالاتها الأنطولوجية مع الجمهور، ليتحول المكان في المسرح “مكاناُ ادائياً ، لأنه يفتح إمكانية خاصة للعلاقة بين العارضين والمتفرجين إمكانيات في الحركة والأستقبال ، وهي التي ينظمها المكان و يبنيها ، كيفية التعامل مع المكان والطرق التي ينظم بها ، هي تحدد طبيعة المكان الأدائي ، كل حركة بشرية ، كل ضوء ،وكل مؤثر صوتي ، وكل مواضعة مادية ، يمكن ان تغير المكان الادائي”(2[7]) لتوجد لحظة انطولوجية قائمة على مبدأ التوازن في التكوين الأنطولوجي ، والذي يتحدد أبعاده بحسب الاشتغال الوجودي العارض للعناصر المسرحية.
إن العمل المسرحي كوجود أصيل في موجوداته العارضة التي تشغل المكان والزمان ، هو من يعطي للوعي الصور الذهنية وماهياته المتشكلة والمأخوذة من الوجود الأصيل للتكوين الأنطولوجي ، وهذا التكوين الانطولوجي (عنوان الكتاب) هو ما يركز عليه المؤلف في إشتغالاته المعرفية لدراسة ظاهرة العمل المسرحي.
الكتاب يتألف من أربعة فصول نتناول فيه القراءات الأنطولوجية لكل من النص والعرض والتلقي لدى الجمهور المسرحي ، و كذلك نعرج أيضاً على دراسة التكوين السمعي للمؤثرات الصوتية في العرض المسرحي ، وكل هذه القراءات للتكوين الأنطولوجي نحاول أن ندعمها بنماذج تطبيقية من نظريات ونصوص وعروض مسرحية .
[1]سليمان، جمال محمد احمد: ايمانويل كانط، /انطولوجيا الوجود، بيروت: التنوير للطباعة والنشر والتوزيع،2009،ص343.
[2] سنتيانا ، جورج :الإحساس بالجمال، ترجمة :الدكتور محمد مصطفى بدوي ، القاهرة :مكتبة الانجلو المصرية ،ب ت، ص107 .
[3] ابراهيم، زكريا: مشكلة الفن القاهرة مكتبة مصر، 1977،ص27.
[4] مطر، اميرة حلمي: مدخل الى علم الجمال وفلسفة الفن، القاهرة :دار التنوير للطباعة والنشر ،2013،ص69
[5] ينظر: مطر، اميرة حلمي المصدر السابق ، ص60،ص61.
[6] توماش، بيتشى: أحدث نظريات الدراما الاوربية انطولوجيا المسرحية، ترجمة :كمال الدين عبد ،القاهرة :المشروع القومي للترجمة ،2009،ص129.
[7] ليتشه ،ايريكا فيشر: جماليات الاداء ، نظرية في علم جمال العرض ، ترجمة :مروة مهدي ، القاهرة: المشروع القومي للترجمة ،2012،ص201.