ظهر عدد من النقاد الذين أسهموا في حركة النقد ما بعد الكولونيالي، مستفيدين من دراسات (سعيد) وما أثاره حول مصطلحي (الأنا) و (الآخر) أو (المركز والهامش) ، ومن هؤلاء الفاعلين في حركة ما بعد الكولونيالية الناقدة (سبيفاك) التي ركزت في دراساتها على عدد من المفاهيم ومنها (المهمش ، والتابع ، والآخر) إذ أسهمت بشكل فعال في تأسيس دراسات (التابع) ، حيث انخرطت في جدل معمق حول تبعية الهويات الثقافية ، ومفهوم الهيمنة الاستعمارية والطبقية والجنسية ، ولعل بحثها (هل يستطيع التابع أن يتكلم ؟) إذ ارادت الوصول الى اجابات محددة الى ان الشعوب التي خضعت للإستعمار سلب منها حق تمثيل نفسها ، وبالتالي سلبت منها حق التعبير عن ذاتها ، وجاء التعبير عن الذات الأصلانية بواسطة من يمثلها وليست بواسطتها ، فتبعيتها الثقافية تقع تحت تأثير الخطاب المسيطر (الكولونيالي) الذي تغلغل في كل مفاصلها الثقافية ، ملغياً ملامح الآخر الثقافية ، وجاعل منه تابع له ، وحتى إذا تكلم فيكون الصوت ممثلاً بخطاب غير حقيقي عن ذاته ، بل بخطاب صيغة له على وفق متطلبات العمل الكولونيالي ، التي ترى فيه (سبيفاك) أن وعي التابع تمثله النخبة وتأثيراتها التي توصف الثقافة العامة. فتلك التأثيرات تم توجيهها وبثها في الثقافة التابعة من قبل الاستعمار، الذي سيطر على ذلك الوعي الأصلاني وصورته الحقيقية ؛ لأنه مستعاد عبر تمثيل قوة النخبة وثقافة الاستعمار . وهذه التأثيرات النخبوية هي من طبق الخطاب الكولونيالي ، وخاصة في عهد الاستعمار البريطاني الذي صاغ ثقافة جديدة في الهند كمثال أول وحاول تطبيقه على الشعوب التي وقعت تحت الاستعمار البريطاني ، إذ تكمن ملامح هذا المشروع في جعل النخب الثقافية الهندية ، تتمثل بهويتها الهندية ولكنها بثقافة كولونيالية وتصبح ناطقة باسم الخطاب الثقافي الكولونيالي ، وليس بالخطاب الثقافي الهندي الاصلاني. مما يجعل الخطاب الكولونيالي هو الخطاب الرسمي الممثل للثقافة الهندية وبذلك تم إعادة كتابة تاريخ الهند على وفق نظرية النخب الثقافية.
استخدمت (سبيفاك) في مفهوم (التابع) منهج(دريدا) التفكيكي كإطار تحليلي للخطاب الكولونيالي ، حيث تأثرت بـه وبمصطلحاته وخصوصاً (الاختلاف) ، يتضح ذلك التأثير من خلال ترجمتها وتقديمها لـ (علم انساق الكتابة)لـ(دريدا) ، التي عدت من أفضل المقدمات التي يقرأ بها النص تفكيكاً ، وتناولت من خلالها مفهوم (الاختلاف) حيث توضح ذلك في النص الآتي: في أثناء قيامنا بفك شفرة نص ما على نحو تقليدي ، ولو صادفتنا مفردة يبدو أنها تضمر تناقضاً غير قابل للحل فإننا نمسك بهذه المفردة. ولو بدأ أن مجازاً يطمس ما ينطوي عليه من تضمينات فسوف نمسك بهذا المجاز. وسوف نقتفي أثر مغامراته عبر النص ، فنرى النص في طريقه إلى أن ينحل من حيث هو بنية إخفاء كاشفاً انتهاكه لنفسه وكاشفاً عدم قدرته على الحسم.
ان غاية النظرة التفكيكية عند (دريدا) هي مهاجمة التمركز الغربي حول الذات ، الذي استفادت منه (سبيفاك) في نقدها ما بعد الكولونيالي ونقدها للثنائية التي تقابل بين المركز والهامش ، لذلك عملت على اقتفاء أثر مفاهيم (دريدا) ونقده (للوغوس) الغربي أو ما يطلق عليه (العقل الميتافيزيقي) ، الذي يرى فيه (دريدا) أن هذا العقل ليس سوى نظام أنظمة معرفية واحد تجدده منظومة معينة من القيم قدست إنتاجه وأضفت عليه صبغة العقلانية التي لم تتخلص من قاعدة الثنائيات التي أخذت أشكالاً تقابلية : الخير / الشر ، الرجل / المرأة ، الدال / المدلول ، الكلام / الكتابة… الخ. هذا ويقوم العقل الفلسفي النقدي التفكيكي على قدر كبير من التشكك في اللغة بصفتها أبعد ما تكون عن التعبير الموضوعي.
لقد ركز (دريدا) في تفكيكه على (الكتابة) بدل (الكلام) ، ومصوراً بأن عملية التركيز على (الكتابة) قد غيرت من مفهوم التمركز حول اللغة التي ترتبط بالفكر الغربي، وما أنتجه من تصورات بالأفضلية والتعالي ضد الآخر ، دون مناقشة الفجوات في داخل (الأنا). أنَّ مفهوم الكتابة عند (دريدا) صيغ على وفق ثلاثة من المصطلحات التي تعمل في المفهوم الجديد للكتابة وهي (الاختلاف والأثر والكتابة الأصلية (الأولى).
فالمصطلح الأول (الاختلاف) ، الذي يشير إلى فعلين : الاول يقع في صيغة (أن يختلف differ) ، اي لا يكون متشابهاً. اما الثاني فيأتي في صيغة (أن يؤجل defer). والأول مكاني والثاني زماني. ويرى (دريدا) أن كل علامة تؤدي هذه الوظيفة المزدوجة:(الاختلاف والتأجيل) ، ولهذا السبب تكون بنية العلامة مشترطة من قبل الاختلاف والتأجيل ، وليس من خلال الدال والمدلول ، وإن العلامة التي تؤدي وظيفتها المزدوجة بين الاختلاف والتأجيل ، هي أثر وليست تمثيل مرئي ومحسوس للكتابة ، فهي تنطلق من كونها أثراً ثقافياً أو نفسياً أو روحياً أكثر من كونها طبيعة مادية أو بيولوجية، وبحسب مفهومي الاختلاف والتأجيل في العلامة وما ينتج عنها من أثر ، أصبح للكتابة مفهوم آخر لدى (دريدا) تعني النقش عموماً ، وليس فقط الكتابة الحرفية ، إذ يشمل هذا المفهوم كل النتاجات الأدبية والفنية ومنها التصوير السينمائي ، والرقص ، والبالية ، والموسيقى ، والنحت ، والعرض المسرحي ، وجميعها كتابة.
إن فكر (دريدا) التفكيكي أصبح يبحث عن قلب المعادلة التي تؤكد فكرة (الحضور) الذي تبناه العقل الغربي ، والبحث عن الغياب وما يخفيه من خلال النظر بفعلي الاختلاف والتأجيل في وظيفة العلامة ، فالقول بالنقيض وتحويل التركيز اتجاه الغياب هو ما تمركز عليه التفكيك من أجل الوصول إلى غايات وراء ما هو حاضر. فالغياب يعني أن في الذات جانباً خفياً وسرياً لا يحضر في الوعي ، ولا يمكن أن يتمثله ويعكسه ، فيبقى دائماً غائباً.
لقد استفادت (سبيفاك) في عملها التفكيكي من مفهوم الغياب في إتباع ما يخفيه الخطاب الكولونيالي ، وكذلك البحث عن صوت التابع في هذا الخطاب ، فالصوت المستبعد صوت الآخر الذي مثل بخطاب المؤسسة الغربية ، والذي ظهر في خطابها من خلال ما هو خفي فيه ، أي عن طريقة الإشارات الكامنة وراء المعنى والدالة على صناعة الآخر. وهنا عملت (سبيفاك) في توصيف صناعة الآخر من خلال إشارتها إلى العملية التي يخلق بواسطتها الخطاب الامبريالي (آخرين) بالنسبة لذاته. وبينما يقابل (الآخر other) بؤرة الرغبة أو القوة التي يتم إنتاج الذات من خلال العلاقة بها. فان الآخر (other) هو الذات المستبعدة أو التي يتم التسيد عليها ، التي يخلقها خطاب القوة. وتصف صناعة الآخر السُبل المتعددة التي يخلق بها الخطاب الكولونيالي تابعيه.