التفكيك و الخطاب الثقافي / الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

يتمظهر الخطاب ما بعد الكولونيالي في تفكيك الركائز المعرفية والثقافية التي قام عليها الخطاب الثقافي الكولونيالي ، من خلال رصد أفعاله الثقافي في الساحة العالمية ومنها دول العالم الثالث ، إذ اشتغل منظرو الخطاب ما بعد الكولونيالي في البحث عن أهم ما تركه الاستعمار الثقافي من نتاجات حملت معها أفكاره وخططه ورؤيته للآخر للوصول إلى آليات تفكيكه وبيان تأثيراته في الساحة الثقافية للدول التي وقعت تحت تأثيرها ، وفي هذا المجال ، سيتناول الباحث ، أهم الآليات التي اشتغلت في فعل تفكيك الخطاب الثقافي الكولونيالي .
لقد تمحورت الذات الغربية المؤسسة للخطاب الكولونيالي في مرجعياتها الفكرية والمعرفية ، على ثلاث مرجعيات ، هي: الأولى (فكرية فلسفية) ،والثانية (أدبية فنية) ، والثالثة (الإستشراقية) ولاسيما في جوانبها الأيديولوجية المبنية على مبدأ التمييز بين الشرق والغرب ، علماً أن أصل الدراسات الإستشراقية بنيت على وفق التنافس الذي كان قائماً بين الشرق والغرب ، لكن هذه الدراسات أخذت في مراحل عديدة فكراً إيديولوجياً تمييزياً على وفق صراع ثقافي سياسي حول الهيمنة على الساحة العالمية. وبذلك ركزت الذات المؤسسة في توظيفها للدراسات الإستشراقية على ما أنتجه الفكر الإستشراقي في مراحل ثلاثة ، والذي ظهر في ثلاث صور ، وهي صورة التبشير الديني تارة ، وصورة التمثيل التصويري (تصوير الشرق) تارة أخرى ، وصورة الاستعمار المباشر تارة ثالثة ، وفي كل تلك التجسيدات والتحققات فان طبيعة الثقافة السائدة والمسيطرة ، هي ثقافة امبريالية ، تمثيلية ، وليست انعكاسية ؛ أي لا ترمي إلى تصوير واقع موضوعي ، وإنما تسعى إلى تصوير شعور داخلي ، مثار بمناسبة موضوع خارجي هو (الشرق) ، أدت هذه الأثارة اللجوء لكافة الوسائل للتفوق على الآخر ، مما جعل الإستشراق يعد من الركائز المهمة في بناء الخطاب الكولونيالي على وفق نظرة ثقافية امبريالية هدفها إنتاج واقع آخر للشرق ، حتى وان كان بعيداً عن السياق التاريخي والإنساني لشعوبه.
إن إنتاج الشرق في الخطاب الكولونيالي المطبق على الآخر ، لم يكن موجهة ضد الآخر فقط ، بل كانت (الذات المؤسسة) بحاجة إلى بناء مخيال غربي يعزز من قدراتها في صناعة فارق من التفوق ، وهذه كانت حاجة ملحة في ضرورة تأكيد الانصراف من الشأن الداخلي نحو آفاق جديدة تأكد هذه الصورة في الداخل الغربي ، إذ تمت صياغة صورة الشرق عبر مراحل مختلفة ومتعاقبة بصورة بطئيه داخل الثقافة الغربية ، ويؤشر هذا الاختراع مراحل تحولات الوعي الغربي بذاته ، ويرسم صوراً للشرق تتنوع وتختلف طبقاً إلى الاختلاف والتنوع الظرفي من الناحيتين التاريخية والسياسية ، فيكون إدراك الغرب للشرق قائماً على نظام الصور المتنوعة والتي تعكس الصراع السياسي والتاريخي في العالم الغربي ، فلم يكن نظام التصور نظاماً واحدياً ، إنما هو تصور مقترن بما يحدث في عالم الغرب أكثر مما يحدث في أي عالم آخر.
فضلاً عن ذلك كان للفكر والفلسفة دور مهم في تضخيم (الذات المؤسسة) لواقعها وفي نظرتها إلى الآخر من خلال ما أنتج الفكر الفلسفي صورة عن الآخر على وفق نظرة متعالية ، إذ حفل التاريخ الفلسفي الغربي بالعديد من النتاجات ، والتي تناولها البحث سابقاً، والتي كان أوجها في (عصر الأنوار) أو الحقبة التنويرية التي تقر بكونية القيم ، ولما كانت الدول الأوربية مقتنعة بأنها تحمل قيماً أرقى من القيم السائدة عند غيرها من الأمم اعتقدت أن من حقها حمل حضارتها إلى الذين هم أقل حظاً منها ، وكي تضمن نجاحها في أداء هذه المهمة كانت مجبرة على احتلال المناطق التي يقطنها سكان تلك الأمم.
أما الفنون والآداب الغربية ، فكانت لها دورٌ بارزٌ في تسويق فكرة التفوق للذات الغربية ولخطاب الكولونيالي إذ حفلت العديد من اللوحات الفنية التشكيلية ، بصورة الآخر الشرقي الذي أظهر فيه وكأنه كائن غريزي فقط مغيب للعقل ، وبالمقابل كان صورة الغربي هي أكثر عقلانية وإنتاجاً للأفكار النافعة للبشرية. إذ أسهمت الحركة التشكيلية تأكيد الصور المنقولة إلى الغرب عن طريق قصص (ألف ليلة وليلة) ، وبذلك استوحى عدد من الرسامين من هذه القصص صوراً عن الشرق أسهمت في تثبيت فكرة الشرق في المخيال الغربي ، حيث حفلت الحقبة الممتدة من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين بالقصص التي ترويها (شهرزاد) في (ألف ليلة وليلة) وهو الكتاب المعروف على نطاق واسع في أوربا باسم (الليالي العربية) بنجاح ملحوظ ومستمر في الغرب ، وعلى الرغم من تمتع القصص بمغزى روحي قوي ، إلا أن مواضيع الجنس ، الحب ، العنف ، المكر والخداع وروح الدعابة التي تضمنتها هي التي تركت الانطباع الذي لا يمكن إزالته عن عالم الشرق بأنه خيالي ، شهواني ، عنيف ، كما حفل المسرح الغربي بعدد من المسرحيات التي تناولت المفاهيم الكولونيالية – سيتناولها الباحث في المبحث الثاني – ومن أهمها مسرحيتي (العاصفة وعطيل) لـ (وليم شكسبير).
ويمكن القول أن (الذات الغربية المؤسسة) انطلقت في تـأسيس خطابها الكولونيالي الثقافي في الشرق من المرجعيات التالية :-
1. (الخطاب الإستشراقي) : المتشكل في الساحة الثقافية والفكرية الغربية عبر مراحل زمنية طويلة ، ساعد في خلق صورة مغايرة للآخر عن الذات أو الأنا الغربية استفيد منها في صياغة الخطاب الكولونيالي التمييزي ، الذي تكون فيه صورة التفوق حاضرة في الذهنية الغربية في مقابل الصورة الدونية للآخر الشرقي.
2. (الخطاب الفلسفي والفكري الغربي): الذي أسهم في بناء صورة فكرية متضخمة للانا الغربية التي وظفت في بناء صورة العقل الغربي المتفوق على حساب الآخر الذي اتخذ من الجنس والغرائبية أساساً لحياته وتفكيره.
3. (الخطاب الفني والأدبي): من خلال تسويق صورة الشرقي المغايرة عن صورة الذات ، إذ أسهم في إيجاد فوارق بين الشرق والغرب من خلال المنتج الثقافي (ادبي فني) وظفت في دعم الخطاب الكولونيالي داخلياً على مستوى المؤسسة الغربية ، وخارجياً على مستوى تأكيد صورة الآخر.
4. (الدافعية نحو الخارج) ، وذلك للتخلص من التنافس الداخلي بين الدول والممالك الغربية ، مما جعل البحث عن تصوير الشرق كمنافس ثقافي والعمل على اختراع اوصاف تُسهم في استدراج الشعوب الغربية اليه ، حيث ساعد هذا الأمر في التخلص من الخلافات الداخلية وتوجيه النشاطات العسكرية وغيرها للتوسع في الخارج.
إن إرادة (الذات المؤسسة) تعمل على إخضاع الآخرين وتدعوهم إلى ترك ثقافتهم وتراثهم الحضاري ، لأنه دون المستوى في التمثلات أمام الذات المهيمنة على الخطاب العالمي والذي تصف فيه الشعوب إلى درجات ومستويات تجعل من هذه الشعوب تسعى إلى التأثر والانبهار بما ينتج في الغرب وما يقدمه الغربي المتفوق ذاتياً على الآخر الشرقي الذي يفهم على وفق منظور التفوق الغربي بأنه من جنس أدنى في الدرجة الثانية ويعتقد أن الغربي من جنس أعلى وفي الدرجة الأولى وصانع للثقافة ، فان علاقته به تشبه علاقة الطفل بأمه ، علاقة من هذا الصنف سوف تقوم تلقائياً بين المستعمَر (بفتح الميم) والمستعمِر (بكسرها) فالمستعمر يسمى دولته (الوطن الأم) ، أما الآسيويون والأفارقة فهم أطفال مفتقرون إلى التربية عليهم أن ينشأوا في حجرة، فالأم تنهر طفلها ، والطفل يلوذ بحضن ألام خوفاً منها وطلباً للأمان .
إن إرادة الإخضاع في الذات الغربية وتكييف الآخر لأهدافها وطموحاتها ، جاءت لتثبيت (صورة ذهنية) هي في أغلبها بعيدة عن الواقع الشرقي ومختلفة عنه ، بل كانت هذه الصورة الذهنية مبنية على وجهة نظر واحدة غربية وظفت في خارطة متخيلة وفي جغرافيا منسوجة في ذهنية متعالية وفي نفس الوقت قلقه من الآخر. لذلك حاولت في تطبيق ما نسجته في جغرافية تخيلية على أرض الواقع للوصول إلى شرقنة الشرق واستبعاده تاريخياً ونفسياً من موقعه في الصراع ، والعمل على تثبيت هذه الصورة التي أنتجت على أثرها تمثيلات وتصورات عديدة ، وأوصاف ، ونعوت عن الشعوب الشرقية من أجل ثبات مقولاتها في الواقع الشرقي ، ومصطلح الثبات هو المرحلة الثالثة والأخيرة في تطبيق فعل الهيمنة على جغرافيا وواقع الإنسان الخاضع لتلك الإرادة. وهنا تتحول كل النتاجات المبتكرة للشرق في الفضاء الغربي إلى الفضاء الشرقي لمحو ملامحه وتثبيت المبتكر حتى وان كان غير أصيل ولا يتواصل في فضاء الآخر.

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *