الفنان وجدلية السؤال الجمالي / الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

عندما يبدأ الانسان بالسؤال عن معنى الحياة وطبيعتها وماهيه مظاهر الخلق والوجود والابداع في هذا المنتج العظيم الذي يحاول تفسيره للوصول الى حقائق ترضي تطلعاته وتجيب عن اسئلته التي لا تنقطع يوما ما ، أذا ما عرفنا بأن هذا السؤال لا يأتي من افق واحد بل يأتي من افاق متعددة وتزداد وتتوسع في فترات من الزمن نتيجة لتغيرات الطبيعة والحياة او قد يتقلص حجمها وتصبح محدودة في ازمنة اخرى … هذا السؤال الذي يطرح لمحاولة إيجاد اجوبة لما وراء العلامات الاستفهامية التي تتطلب جهد معرفي لصياغتها سواء كانت انية او ممتدة عبر الآفاق ، لذا توصل الكائن العاقل الى اساليب متعددة لمحاولة ترويض الصور الكونية ووضعها في اطر محددة ومتنوعة ومختلفة منها ما هو طقسي ومنها ما هو تأملي، يصيغها في رؤى وأفكار ،من الأجل فهمها والعيش معها ، بعد ان سكَن من روعه وخوفه اتجاهها بعد ان توصل الى صيغ تواصلية معها ، واصبحت اغلبها جزء من مظاهر حياته اليومية والتي أراد أن يفهم ما ورائها وما مضمونها وشكلها المترائي، وهل هي متجزأ في مظهر كلي ؟ ام هي كُلية في اجزاء ؟ . وما هو جميلها وقبيحها والرائع فيها والخير المتأتي منها؟ , ولذلك بدأ الانسان من خلال تساؤلاته عن هذه المظاهر والاشياء والبحث في مسمياتها وانتماءاتها ومن هنا بدأ التفكير يتجه نحو فلسفة الاشياء والتي تحولت فيما بعد ,اي الفلسفة, الى تقييم معرفة مظاهر الكون وطبيعة الانسان وتعاملاته مع اقرانه ومع الطبيعة . فقسما الى اقسام ، فمنها مهتم بالمعرفة ، والقسم الاخر بالمثل ،والثالث بالطبيعة ووجودها والرابع بالأخلاق
لم يغفل الفيلسوف في بحثه في الكون والطبيعة عن الجمال وعن نظرة الانسان إليه ومدى شعوره واحساسه بهذا الانطباع الرائع الذي اثر بالفعل والاحساس معاً والذي ولَد شعوراً باللذة المتأتية من الموجودات وما ينبعث منها حتى جعلت اصحاب الفلسفة منبهرين امام هذه الظواهر وهنا يسأل (سقراط) تلميذه (هبياس) عن الجمال إذ يقول ماذا عسى أن يكون الجمال؟ وقد أجاب هبياس على سؤال أستاذه سقراط بأن عدد له بعض الاشياء الجميلة , فلم يجد سقراط بداً من ان يلفت نظر تلميذه الى انه لم يكن يسأل عن (الجزئيات)التي تنطبق عليها صفة الجمال , وأنما هو قد كان يقصد من وراء سؤاله معرفة ما هيه ذلك المدرك الكلي الذي نسميه بأسم الجمال.
لقد تعددت الرؤى فيه واخذ كل فيلسوف يرى فيه ما يعتقده ملائماً فعرفة (ديمقراطيس)بأنه انتظام اجزاء الاشياء التي تتناسب فيها اجزائها المادية ورأى (افلاطون) بأن الجمال يصدر عن عالم
المُثل والذي يتجسد فيه الخير والحق والجمال , والذي لا يبتعد عن ذلك (افلوطين) الذي رأى بأن جمال الالوهية غير المحسوس اي العقلي , ويرى (الجاحظ) نفس رؤى (افلوطين) بأنه لا تدركه الابصار والذي هو ارق منها , و(توما لاكويني) يربط الجمال بقيم سامية و هي الحب والجمال , اما حديثاً ،فيرى (كانط) بأنه الاحساس بطبيعة الاشياء من خلال اندماج الفكر والمخيلة عند الانسان , وذهب (هيجل) الى ان الجمال هو جمال ذهني وهو لا يظهر في الطبيعة بل ينعكس في اذهاننا.
إن النظرة الجمالية التي فسر بها الفيلسوف الجمال اختلفت بين فريقين فالنظرة الاولى كانت عقلية وهي نظرة ذاتية معتبرين بأن للجمال معناً عقلياً وليس في شيء يقع خارج ادراكنا له ، اما الفريق الاخر فتبنى النظرة الموضوعية والذي يعتبر بأن الجمال شيء قائماً بذاته وموجود خارج النفوس الشاعرة اي انه تكوين خارجي مستقل بكيانه عن ادراكنا.
ان اختلاف النظرة الجمالية من قبل الفلاسفة لم تأتي لغرض الابتعاد عن الحقائق وابعادنا عن طبيعة الاشياء ولكن كانت نظرتهم من أجل المعرفة لا غير فدراستهم للأشياء والاعمال الجميلة سواء كانت فنية ام غيرها هي من اجل الوصول الى المعرفة و بطرق مختلفة لأنه لو تشابه الكل بالطريقة ذاتها لما حصل الاختلاف والذي اوجداه ،أي هو يخدم قضية التنوع الذي اوجدها الخالق في الاشياء وفي نفوسنا , وكذلك لأن كل الأشياء المراد تقييمها هي بالأساس متنوعة و مختلفة عن بعضها البعض لذا لم يكن اهتمام الفلاسفة بدراسة الظاهرة الجمالية مجرد أثر من آثار اهتمامهم العقلي بتوضيح معاني المفاهيم المختلفة (على اعتبار أن الجمال مجرد مفهوم من المفاهيم)؟.. الواقع أن الفيلسوف إنسان متفتح لشتى التجارب الانسانية , فهو لا يتلقى الجمال على صعيد الفكر المجرد , بل هو يلتقي به في صميم خبرته العادية ,حيث يتذوق الأعمال الفنية , وحين ينفعل ببعض المؤثرات الجمالية , وحين يصدر على هذه وتلك أحكامه التقويمية , ولكن ,ليس من شك في أن الفيلسوف حين يحاول تفهم (الجمال),والنفاذ إلى معنى (العمل الفني), فأنه لايرمي من وراء ذلك الى تحديد معايير للجمال , أو وضع قواعد للتطبيق في مضمار الإنتاج الفني ، وانما يريد لفلسفته الجمالية أن تكون دراسة نظرية غايتها المعرفة .
اذن، فأن فلسفة علم الجمال لم تأتي من فراغ او من محاولة الانسان للعبث بالموجودات من حوله او محاولة إيهام نفسه بأشياء قد لا تشكل له ضرورة حياتية بل جاء بحثه عن الجمال لسعيه لفهم الظواهر في حياته , حتى أن الانسان بادر دون سابق معرفة بالإحساس والشعور به قبل ،أي عمل يقوم بأي نتاج فني في هذا الاتجاه , على اعتبار أن الشعور بالجمال سابقاً على النشاط الفني , فلقد احس الانسان اولاً بجمال الزهرة أو غروب الشمس قبل أن تكون هناك لوحات جميلة او منحوتات رائعة . لذا كان هذا النشاط الفني الذي أتى بعد الاحساس الاول بالأشياء انما هو سؤال عملي طرحه الإنسان حول الاشياء وامكانية محاكاتها وبالتالي اصبح لكل من الفيلسوف والفنان أدراك لطرح الاسئلة الجمالية والاجابة عليها, فالفنان برؤيته للطبيعة وانبهاره بها حاول من خلال التأمل فيها تكوين اسئلة عن تكوينها مهتدياً بإجابة عملية من خلال أعماله الفنية المختلفة والمتنوعة بتنوع الكون والطبيعة كما ذكرنا.
أما الفيلسوف الذي وضع رؤيا للشيء وتقليده واختلفت في مدى فهم الجمال الطبيعي للوجود والجمال الفني المحاكي له وبذلك يكون السؤال الجمالي سؤالاً معرفياً مبني على طبيعة الاشياء وماهيتها ومكوناتها للوصول الى جواب جمالي تعددت فيه الرؤية لفلاسفة الجمال .

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *