الدلالات البصرية في الخطاب والتلقي لدى الصم والبكم/ الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

إن الإنسان ككائن اجتماعي ميزه الله ( جل جلاله ) عن باقي مخلوقاته بالعقل الذي يفكر به ويكتسب من خلاله المعرفة عن الأشياء والموجودات في محيطه ، للوصول إلى مبتغاه الأسمى في أن يكون إنساناً اجتماعياً متحضراً يخدم مجتمعه وبلده وأمته .
وصحيح أن العقل الذي تقع عليه مسؤولية تلقي المعلومات والتفريق بين الصواب واخطأ ، السليم والرديء في حياتنا . ونستخلص أيضاً عن طريقه العبر من الأحداث التي حدثت في الماضي ، ونوظفها في خدمة حياتنا المستقبلية . ولكن كل هذه الأمور لا تأتي ألينا بشكل مباشر عن طريق العقل ، بل عن طريق وسائل زودنا الله ( جل جلاله ) بها ليجعلنا نتوصل عن طريقها إلى معارفنا ، ونتصل عن طريقها بالآخرين ، ولولا وجودها لكانت حياتنا صعبة التعامل والتفاعل مع البيئة التي نحيا بها . وهذه الوسائل هي الحواس الخمس ( اللمس ، الشم ، الذوق ، السمع ، البصر ) ، وأن نقص أي حاسة من تلك الحواس سوف يشكل لنا عائقاً في طريق تعاملنا مع الآخرين ، مما يسبب صعوبة في تلقينا للمعرفة الإنسانية .
ويحدث النقص في الحواس عادة نتيجة لتعرض الفرد لحادث معين يفقده إحدى حواسه ، أو يولد وهو فاقد لإحداها بسبب عوامل وراثية أو بسبب مرض يلم به أثناء الولادة أو في مرحلة الطفولة . وهنا تدخل إرادة الله ( جل جلاله ) ثانية وتعوض الحاسة المفقودة ، وذلك بأن يجعل حاسة ثانية تنشط لتغطي جزءاً من عمل الحاسة المفقودة ، وفي هذا الجانب يقول ( الفريد أدلر ) : أن من الحقائق المعروفة ، أن أعضاء البدن الأساسية للحياة تزيد في النمو ، وتجيد أداء وظيفتها ، إذا أصيب جزءاً منها ، أو جانب من الأعضاء الأخرى التي تتصل بها . وهذا القول ينطبق على الصم والبكم الذين فقدوا حاسة السمع التي تعد من الحواس الأساسية في تلقي المعرفة .
ومن أجل معرفة الطريقة التي يتم من خلالها استخدام ( حاسة البصر ) والإشارة ( كلغة تخاطب ) في التعويض عن الحاسة المفقودة عند الصم والبكم لتلقي المعلومات.
رغم كل المشاكل التي تخلقها الإعاقة السمعية للصم والبكم ، إلا أنهم لم يبقوا مكتوفي الأيدي أمام البيئة وتغيراتها ، فأوجدوا لهم لغة تخاطب خاصة بهم لتعويضهم عن لغة الكلام التي يستخدمها السامعون ، وهي لغة الإشارة . وهذه اللغة ليست لغة مصطنعة بل هي لغة طبيعية أبتكرها الصم والبكم أنفسهم ، وهذا ما يؤكده المدرس ( الفرنسي ) ( الأب Epee ) الذي قام في أواخر القرن الثامن عشر بمراقبة حقيقة الصم وتواصلهم مع بعضهم من خلال الإشارة ، وحتى قد تبنى هذا التواصل كقاعدة ثقافية في النهج الذي يتبعه ، وهذا يظهر أنه كان لدى الصم لغة خاصة بهم.
ويتعلم الصم والبكم لغة الإشارة بشكل طبيعي وخصوصاً إذا تعرضوا وهم أطفال إلى لغة الإشارة الطبيعية في السنين الأولى من حياتهم ويكتسبون الإشارات بالطريقة نفسها التي يكتسب بها الأطفال السامعون الكلام. وتأخذ لغة الإشارة بالتطور تدريجياً لديهم نتيجة الممارسة الطبيعية لها ، واكتساب حركات إشارية جديدة ، فالأصم الأبكم كلما تقدم في العمر يتعلم كيف يكتشف البيئة المحيطة به بمهارات تتطلب منه استخدام يديه وأعضاء حسية معينة محاولاً ترسيخ المعلومات والرموز كأدوات في جهده التعليمي . ويستخدم الأصم الأبكم هذه المعلومات والرموز في لغة الإشارة للتفاهم مع الآخرين من خلال إشراك اليد والعين ـ تآزر بصري حركي ـ لتقديم إشارات تعبر عن معظم الأفكار العامة وهي قادرة على تمييز وتحليل هذه الأفكار كما أنها ملائمة للتعبير عن مختلف الأساليب الدقيقة تماماً كما هو الحال في اللغة الشفوية المسموعة.
وتعتمد لغة الإشارة أساساً على أيجاد إشارات خاصة مقلدة لما في البيئة من أشياء لتتحول تلك الإشارات إلى دلالات خاصة ورموز محددة يستطيع الأصم الأبكم أن يتعامل بها وأن يعرف عن طريقها الإشارة للأشياء وللأشخاص ، فمثلاً ، عندما يريد الأصم الأبكم التمييز بين شخصين أو أكثر في عائلته ، نلاحظه يعطي لكل فرد في العائلة إشارة خاصة للاستدلال عليه يميزه بها عن باقي أفراد العائلة كأن تكون هذه الإشارة مثلاً كبر الأذنين أو كبر الأنف أو كثافة الشعر أو طول القامة أو قصرها .. الخ . وبالطريقة نفسها يميز بين الأشياء الموجودة في البيئة التي يعيش فيها . فهو يتوصل إلى معاني الأشياء من خلال تمثيل تلك الأشياء ، أي من خلال ربط المعاني بالإشارات ، وتقوم بأدائها اليدان والذراعان والوجه ، حيث يتكون المعنى من شكل الإشارة وحركتها وكيفية أدائها ومكانتها بالنسبة لباقي أعضاء الجسم ولا يختلف حال الأداء الإشاري عن حال الأداء اللغوي فأحياناً نجد الصم يستخدمون الإشارات بطريقة سريعة غير كاملة ، ورغم ارتكاب الأخطاء تبقى الكفاءة اللغوية ثابتة في نظام لغة الإشارة بالنسبة لهم .
وتعد لغة الإشارة وسيلة اتصال بين الصم والبكم أنفسهم ، يستطيعون من خلالها أن يعبروا عن ما في دواخلهم لبعضهم البعض ، بحيث ترتكز عملية الوصل بين المتحاورين على تفسير العبارات والمحتوى لما قد قيل . ولغة الإشارة وحدها تدع الصم يدخلون إلى جوهر عملية الاتصال دون عوائق ، وهذا الاتصال يحصل بطريقة بصرية ضمن لغة تسمح للتواصل اللغوي أن يمر بعملية طبيعية ، وهي التي تدع الصم يأخذون مكانهم كأشخاص أكتمل نطقهم ، تماماً كما يحدث مع الأشخاص باللغة الصوتية.
وتتوفر في لغة الإشارة قوانين لغوية خاصة تشبه في نظامها وتنظيمها لغة الكلام بالنسبة للسامعين ، حيث تعد الإشارة المرئية في اللغة الإشارية هي منظمة بالطريقة نفسها التي تنظم فيها الإشارات الصوتية في اللغة الصوتية ، من حيث مضاعفة اللفظ ، وبعبارة أخرى فأن التواصل الإشاري يمكن تحليله ضمن وحدات المعنى الكامل الذي يحتوي على الدلالة اللفظية الإشارية.
كما يستطيع الصم والبكم الحصول على التغذية الأسترجاعية التي يحصل عليها السامعون من اللغة الصوتية ، فقد اكتشف العالم اللغوي (William stokoe) وعدد من اللغويين أن ” النشاطات الشفوية ليست بالضرورة أن تكون صوتية ، حيث تعتمد راحة الأشخاص السامعين في اللغة الصوتية على محيط التغذية الأسترجاعية للكلام المسموع ، وبكل بساطة لو فتحنا أعيينا لتمكنا أن نرى أنه ليس لدى الصم هذا الرابط . لذلك يرتكز تفاعل الصم الشفوي على محيط التغذية الأسترجاعية المرئية ، وبالتالي فأن الصم يستمتعون بالأداء الطبيعي لعملية التغذية الأسترجاعية التي يحصلون عليها من خلال ما يوفره الوسيط البصري لهم في هذا المجال ، أي أن الصم والبكم يستطيعون ممارسة عملية التغذية الأسترجاعية الذاتية المرتكزة على محيط الإشارة المرئية ، وتتوفر التغذية الأسترجاعية من خلال الحس البصري ، فعندما يتحدث الصم بالإشارية المرئية فأنهم يستطيعون التعبير عن أنفسهم شفوياً دون صعوبة أو إعاقة ، ومن خلال تسهيل العجز الحسي يستطيعون أن يعدّلوا ويتلاعبوا بنطقهم ، تماماً كما يتلاعب السامعون بأصواتهم.
إذن ، فلغة الإشارة هي اللغة الوحيدة التي تضمن للصم والبكم تواصلاً لغوياً سليماً يجعلهم يحققون ذاتهم من خلالها ، ويضمن لهم تغذية أسترجاعية كاملة التي لا يجدون فيها أي صعوبة ، على اعتبارها لغتهم التي نشأوا عليها ومارسوها منذ أن وعوا طبيعة عوقهم ، فهذه اللغة وحدها تقدم للصم محادثة في إطار بصري تمكنهم من المشاركة الكاملة ، وعملية نزع جميع العوائق التي تعترض العلاقات الشخصية تجعل الصم يجدون أماكنهم في المحادثة . وهذا يعني أنهم يستطيعون فرض موقعهم كأشخاص متحدثين ولكن بلغة خاصة بهم قد لا يفهمها البعض إلا إذا تأقلم عليها وذلك من خلال مخالطتهم وممارستها معهم بالشكل الذي يؤدي إلى فهم مشترك بين الطرفين .

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *