المسرح في ميسان بين التعليم والموروث / الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

إن للعامل التعليمي الدور البارز في نشأة المسرح العراقي وذلك من خلال احتضانه للعروض الأولى لهذا المسرح حيث أطلق على العروض التي كانت تقدم في المؤسسة التعليمية اسم المسرح المدرسي والذي يعود تاريخه “في العراق إلى نهاية القرن التاسع عشر اذ كانت أكثر المدارس تقدم عروضا للجمهور مما حدا بالمتتبعين والمؤرخين الذين درسوا النشاط التمثيلي بالاعتقاد بان بدايات المسرح العراقي الحديث مبعثها وظهورها المسرح المدرسي .
وفي نهاية القرن التاسع عشر لم تكن المدارس منتشرة في اغلب مناطق العراق ، حيث كانت بعض المحافظات تفتقر لهذه المؤسسة التعليمية ومن بينها محافظة ميسان وذلك لان أهالي ميسان عاشوا أوضاع تتسم بتفشي الأمية إبان فترة الاحتلال العثماني وذلك بسبب سياسات سلطة الاحتلال العثماني التي عمدت إلى عدم فتح مدارس أو مؤسسات تربوية أو تعليمية بلغة الـبلد الوطنـــــية ، ولكنها فتحت مدارس باللغة التــــــــركية في اغلب مناطق العراق ومن بينها ميسان والتي فتحت فيها مدرستين تركيتين في مطلع القرن العشرين واحدة منها في مدينة العمارة والثانية في قلعة صالح وقد انخرط فيها عدد قليل من أبناء ميسان. وان هذا العدد القليل ممن درسوا في هاتين المدرستين كانوا يشاهدون بعض النشاطات المدرسية والتي يتخللها بعض العروض المسرحية باللغة التركية التي تقدمها هاتان المدرستان وقد ألقتا بظلالهما على المشاهدين من أهالي العمارة الذين كانوا يحضرون لمشاهدة تلك النشاطات فكان محاولة البعض منهم لتقليد ما يشاهده وارداً وبما ينسجم وطبيعة المجتمع في ميسان.
وعند نهاية الاحتلال العثماني وبدء حقبة الاحتلال البريطانية اختلفت السياسة البريطانية عن سابقتها العثمانية ،إذ قامت الأولى بتعين معلمين عراقيين قد تخرجوا من دار المعلمين التي افتتحها جون فاين ايس عام 1915م ودار المعلمين التي فتحت في بغداد عام 1917م، والبعض الأخر خريجو المدارس التركية وعيدوا ثانية لممارسة التعليم فهؤلاء تلقوا علوما في المسرح أو على اقل تقدير شاهدوا عروضاً مسرحية في بعض المدارس التركية وكما ذكرنا سابقا . ولكن لم تكن في ميسان أبنية مدرسية جاهزة لاستقبال المعلمين الذين أرسلهم المستر (هنري دوبس)إلى مدن المحافظة ومن بينها مدينة العمارة وقلعة صالح . وفي الأخيرة اصطدم اثنان من المعلمين بعدم وجود بناية فيها تصلح بان تكون مدرسة ، لذلك بادر عدد من وجهاء القضاء على العمل لجمع التبرعات لبناء مدرسة في قلعة صالح ، وكانت خير وسيلة لجمع الناس تجاه هذا العمل هو المسرح.
توضح لنا المصادر التاريخية بان الشيخ فالح الصيهود بادر مع عدد من رجال الدين ووجهاء المدينة إلى تقديم عرض مسرحي في بيته حيث قام هو والمجموعة معه بأداء الأدوار الرئيسة فيه وكانت المسرحية تتحدث عن (النعمان بن المنذر وصراعه مع كسرى ملك الفرس) وبعد إن تم تقديم العرض المسرحي الأول في ميســـــــــــان عام 1917م، وهو أول عرض مسرحي موثق قام الشيخ فالح الصيهود من خلاله بجمع التبرعات لبناء أول مدرسة وطنية في قضاء قلعة صالح.
وبعد ذلك توالت العروض المسرحية ولأجل أهداف تدخل في خدمة العملية التربوية ومن بينها إن عدد التلاميذ في المدارس التي فتحت فيما بعد في ميسان كان قليلا جداً حيث وصل عدد طلاب المدارس الرسمية قليلا لا يتجاوز المائة في كل مدرسة فقد لجأ بعض مدراء المدارس من الوطنين إلى وسائل عديدة من اجل زيادة الطلاب ، ومن ذلك أنهم كانوا يقيمون الروايات التمثيلية ويبثون الدعايات الواسعة لهذه المدارس ، لذا أصبح النشاط التمثيلي(المسرحي)هو الوسيلة الفاعلة لجذب الطلاب من خلال التطرق في بعض العروض إلى الفائدة من وراء بناء جيل متعلم قادر على خدمة وطنه وشعبه وبذلك جاء النشاط المسرحي الذي جسد تلك الروايات كنتيجة لحاجة تعليمية تمثلت بنشر الوعي وبناء مجتمع متعلم من خلال توسيع النشاط التعليمي عن طريق توفير كوادر من المتعلمين.
إذا فالنشاط التعليمي والنشاط المسرحي اللذين شهدتهما ميسان كان أحدها يكمل الآخر ، فالمجتمع يحتاج إلى النشـــاط التعليمي والأخير يحتاج إلى النشاط المسرحي باعتباره وسيلة اتصــــــــــال فاعلة في الجمهور . لذلك قام المـــعلمون في المحافظة بنقل الممارسات المسرحية التي اكتسبوها فمن دور المعلمين والمدارس التركية إلى المناطق التي عينوا فيها ، وقاموا بتقديم عروض تمثيلية كانت الغاية منها جذب التلاميذ إلى المؤسسة التعليمية الناشئة آنذاك ، وقد استفاد من ذلك النشاط في بناء قاعدة ثقافية أولى تعنى بالمسرح وذلك من خلال تسخير المؤسسة التعليمية عن قصد أو عن غير قصد لبناياتها وكوادرها التقديم عروض مسرحية للتلاميذ وأهالي التلاميذ في المناسبات الوطنية والقومية في ميسان

عامل الموروث الحضاري (القصص):-
تميزت الحضارة العربية بتاريخ عريق مليء بالإنجازات في مختلف المستويات الفكرية والأدبية والمآثر البطولية، والتي كونت موروثا كبيرا استلهم منه الكثير من الكتاب العرب في العصر الحديث العديد من القصص وحولوها إلى نصوص ممسرحة . ويطلق الكاتب الفرنسي(الفريد دي موسيه 1810-1857) مصطلح الموروثات الممســــرحة على بعض مســرحياته وكانت كل مسرحية عناها بذلك تصور أحداثها حكمة أو مثلا أو قولاً مأثوراً يتخذ كعنوان لها .
لقد قدم لنا الكتاب العرب والعراقيون العديد من المسرحيات التي تستمد من روح التاريخ العربي لمآثره وبطولاته صورا مجيدة عن ذلك التاريخ، لإعادة بث تلك المآثر للإنسان العربي المعاصر . وهنالك مجموعة من الأمثلة عما حققه هؤلاء الكتاب في الإفادة من خصائص تراثنا الفني والذي مازال يحتفظ بإرث الإنسان العربي خاصة في مجال المسرح ومن هؤلاء الكتاب (توفيق الحكيم)في مسرحياته ومنها (الكهف ، السلطان الجائر) و (سعد الله ونوس) في مسرحياته ومنها(مغامرة رأس المملوك جابر، الملك هو الملك، الفيل يملك الزمان) و(عزالدين المدني)في مسرحيته (الغفران) والذي استطاع أن يضع متلقيه في أفق التصور الإنساني وهو مشحون بطيب التراث وذلك من خلال شخصية المعري ورؤاه الفلسفية والاجتماعية ، أما (احمد شوقي )فقد ابتكر حدثا مسرحيا ارتكز فيه على التاريخ ليقدم لنا صوراً مسرحية كما في مسرحياته ومنها(مجنون ليلى، علي بك الكبير ،وعنتر وعبلة) .وكذلك الشاعر (عزيز أباظة) في مسرحية( قيس ولبنى )والتي اخذ إحداثها من كتاب الأغاني (للأصفهاني)،ومحمود تيمور في مسرحية (صقر قريش). أما في المسرح العراقي فالكتاب الذين استلهموا من التراث العربي مسرحيتهم عديدين ومنهم( عادل كاظم وقاسم محمد) فالأول كتب مسرحية (الموت والقضية) ،حيث آنتزع من ألف ليلة شخصيتيها الدائمتين :شهرزاد وشهريار وجعل منهما رمزين للحرية (شهرزاد) وللضياع (شهريار)، وانشأ ما بين الاثنين علاقة جديدة هي علاقة الحرية التي تحوم حول الضياع(…)وعلى الدرب استلهام التراث أعد (قاسم محمد ) مسرحيته الطريفة(بغداد الأزل بين الجد والهزل)وفيها يخوض قاسم في بطون كتب التراث: كتب الجاحظ، مقامات الحريري ، وما رواه الرواة عن (أشعب الطفيلي) ، وما سجله الباحثون عن الشعراء والظرفاء والصعاليك.
ومن خلال تلك المقدمة البسيطة في بيان الموروث الممسرح لدى الكتاب العرب والعراقيين يمكن إن ننطلق تبين ذلك المورث العربي ودوره في المسرح في ميسان ليكون الفاصل الوحيد في بحثنا المتمركز في 1917تحديداً وذلك بسبب إن هذا التاريخ هو الانطلاقة لأولى في عمل مسرحي في ميسان وتحديداً في قلعة صالح ليضعنا أمام اتجاهين وهما:-
الاتجاه الأول :- (قــــــبل عام 1917) أي قبل ولادة المسرح في ميسان هنا يطرح تســـاؤل مهم هل كانت هنــــــاك نصوص مـــــسرحية قدمت في ميســـــــان تجسد فيها المــــــــوروث العربي قبــــل هذا التاريخ؟ ، والجواب هو إن المصادر لم تؤكد لنا وجود نصوص أو عروض مسرحية تناولت المـــوروث العربي في ميسان .
الاتجاه الثاني:- (بعد عام 1917) أي في مرحلة نشوء المسرح حيث كان العرض الأول المقدم في قلعه صـــــالح يحمل عنوان(النعمان بن المنذر) متناولين من خلاله قيم البطولة والشجاع التي تحلى بها النعمان بن المنذر في تصديه لكسرى ملك الفرس ، حيث قدم هذا العمل لبعث قيم البطولة والشجاعة في أبناء قضاء قلعة صالح خير دلـــيل في بيان الموروث العربي المــتأصل في ذاكرة أبنـــاء ميســـان ، وبعد ذلك استلهم عدد من المهتمين في الجوانب المسرحية في ميسان من المـــــوروث العربي وظفوها في مناسبات وطنية وقومية شهدتها مدن ميـــــسان في ذلك الوقت ، ومنها مسـرحية (عنتر وعبلة) والذي أعدها (توفيق لازم الزهيري) ومثلها مع مجموعة من المشتغلين معه ومـنهم (مالك حسين خضير ، عبود ملة خصاف ، علي عودة) في المسرح الريفي الذي إنشائه في الكحلاء وكذلك مسرحية (مجنون ليلى لأحمد شوقي ) الذي اشرف على اخراجها (محمد جواد جلال ،الـــســيد عبد المـطلب الهاشمي) وقد عرضت هذه المــــسرحية في متوسطة العمارة في أواخر الثلاثيـــــنيات كما قدمت المســرحية ذاتها في قضـــــاء علــــي الغربي وقد أخرجها المـــــعلم(عوني محمد) ومثلها (فخري محمد ، ناصــر حســـين خضير، عبد الجــبار يوسف العبـــيدي، فاضل يوســف) ، كما قــــدم ( ناصر سعد ) عدد من المسرحيات التي تناولت بعض المآثر الــــتاريخية التي تتـــعلق بالمـــوروث العربي ومنها مسرحية (من ليالي المأمون).وكذلك أعيد تمثيل مسرحية (النعمــــــان بن المنذر) في عام 1933من قبل مدرسة قلعة صالح للبنات كما قدمت مدرســــــــــة الكحلاء في مركز مدينــــة العمارة مسرحية تناولت الشهامة والنخوة العربـــــية جاءت تـــحت عنوان (شهــــــامة العرب) وقــد حضر العرض متصرف لواء العمارة ومدير منطقة المعارف في العـــــمارة كما قدمت مجـــــــموعة من المسرحيات في عدد من مدن ميسان تناولت المـــوروث العربي ومنها مــــــسرحية (فتح مصر) عام 1935 في قلعة صالح ومسرحية (المرؤة والوفاء) في مدرســـة العزير الأولـــــية ومـــــسرحية (مستقبل العرب) في قضاء المجر الكبــــــير في ثلاثينيات وأربعينـــيات القرن الماضي. كما قدمت (جمعية الطليعة) نصوص مسرحية تنـــــاولت فيها الموروث العربي ومنها مسرحية (حمدان وفاشية الأسبـــان) والتي تتــحدث عن تــاريخ العرب وأمجــــادهم ، وكذلك مســــرحية(تيــــمور لنك) والتي تناولت طريقة معاملة التتر للعراقيين في فترة الاحتلال المغولي .

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *