قبل أن نمضي قدما في دور الطقوس الدينية في نشأة المسرح في ميسان ،لابد من الإشارة إلى دورها في نشأة المسرح عند الأمم والحضارات الأخرى .إذ ترجح البحوث والدراسات إن الطقوس الدينية لها دور في نشأة المسرح عند الإغريق لما لها من دلالات خاصة ومتغلغلة ومؤثرة في الشعوب الإغريقية فكانت الطقوس لديهم عبارة عن عمل شعائري مقدس وهو عادة تعبير منظم عن تقاليد راسخة تتعلق بمعتقد ديني أو سلوك اجتماعي نشأت عليه الأجيال وأصبح جزء مهما في تكوين الشخصية الإنسانية لديهم .
وأهم تلك الطقوس التي كان لها الدور المباشر في نشأة المسرح الطقوس المقدمة في أعياد( ديونيزوس) والتي كانت تتخللها مجموعة من الأناشيد التي تلقيها الجوقة والتي تمثلت في قصائد الديثرامب تنشدها الجوقة تكريما لديونيزوس وقد بلغت صيغتها النهائية مع (آريون الكوزنثي)الذي يقع مولده ما بين سنة 540الى 545قبل المسيح، ثم تحولت قصيدة المدح من مقطوعة غنائية إلى جوقة من الساتر. وقد انفصل عنها قائدهم ، وهو يقيم حواراً درامياً معها ، لتنشأ بذلك أول صورة درامية، فعملية انفصال قائد الجوقة في حوارات منفردة لم تأت جزافاً بل جاءت لحاجة إثراء الجانب الطقسي وذلك من اجل جعل العملية أكثر تأثيرا في المتلقي وهذه العملية تطورت بشكل متقدم أنتجت من خلال مراحل التطور الطقسي ما سمي بعد ذلك بالتراجيديا، وهذا ما يؤكد ه أرسطو في كتاب (فن الشعر)بان التراجيديا ترجع في أصلها إلى مرتجلات قادة جوقات الأناشيد الديثرامبية التي كانت تؤدى في عيد الإله ديونيزوس.
وفي فترة القرون الوسطى أيضا ساعدت الطقوس الدينية في داخل الكنيسة في ظهور نوع من المسرحيات ارتبط بالعامل الطقسي المسيحي وهذا النوع سمي بالإسرار والغامض التي كانت تحاكي الام السيد المسيح وهي عبارة عن التمثيليات البسيطة التي كانت تتخذ موضوعاً لها من الكتاب المقدس كما يعني بنوع خاص التمثيلية التي كانت تعالج حياة السيد المسيح. لقد ساعدت هذه التمثيليات المقدمة في داخل الكنيسة على إظهار الجانب الطقسي بصورة أكثر قبولا وأكثر تأثيراً في المصلين لان الطقوس المقتصرة على الصلوات في داخل الكنيسة لم تكن كافـية ،فكان لابد من جذب المصلين من خلال عرض مشاهد تحاكي الجانب المأساوي في حياة الشخصية المؤثر فيهم وهي شخصية السيد المسيح . حيث يرى (باندولفي)في هذا الصدد أن الطقس وقد أصبح عاجزاً عن إرضاء مقتضيات جمهور محب للعرض ، لقح ما بين القرنين التاسع والحادي عشر بالعديد من التوسيعات والتنويعات التي ارتبطت أولا ببنيته الخاصة ثم تطورت بصورة مستقلة وقد أدخلت أولى الإضافات إلى نص الصلوات ، وقد كانت وجيزة جداً كلمة أو جملة بواسطة جمهور المؤمنين ، ثم أقيمت عروض حقيقية داخل الكنائس وكان ممثلوها الرئيسيون هم القائمون بالطقوس ،الكهنة ومعاونوهم ، وبذلك أصبح الطقس البسيط المقدم داخل الكنيسة أكثر تطوراً وتأثيراً مع هكذا ممارسات درامية قد أصبحت فيما بعد جزءاً لا يتجزأ من الصورة الطقسية الكنسية .
ومن خلال ما تقدم يتضح لنا :-
1. إن المسرح نشأ من رحم الطقوس الدينية وأصبح جزءا مهماً فيها وتطور بتطورها.
2. أصبح المسرح وسيلة تعبير أكثر تأثيرا وفاعلية في جمهور المصلين من الطقوس الدينية المتمثلة بالصلوات التقليدية وبالتالي كان لابد من إدخال الصور الدرامية لتلك الطقوس لجعلها أكثر ثراء وحيوية من ذي قبل.
3. جاءت نشأة المسرح كحاجة إنسانية لتطوير الطقس الديني والنهوض بالجوانب النفسية والأخلاقية لدى الجمهور المشارك في تلك الطقوس.
عامل التشابيه الحسينية (طقس إسلامي) :
إن التشابيه الحسينية هي نوع من أنواع الطقوس الدينية كان يمارسها المسلمون لتحاكي قصة استشهاد الحسين بن علي (ع)يوم عاشوراء في كربلاء من عام 61هـ . حيث اختلف الباحثون في نوعية هذا الطقس وصلتها بالمسرح فنقسم هذا الاختلاف إلى رأيين :-
الرأي الأول:- يرى بان التشابيه الحسينية لا تمت بصلة للمسرح وهي مجرد طقوس دينية تقام لمناسبة معينة وهذا ما يراه الدكتور( علي الزبيدي) إذ يقول : (لا جدال في إن هذا النوع من التمثيل الديني ليس له علاقة بالفن المسرحي الحديث ، ولكن الذي لاشك فيه انه قد اعد الجمهور لتقبل الفن الجديد ومهد السبيل لتبنيه كفن يجد الناس في مشاهدته شيئا من المتعة والفائدة ، ولهذا لم يجد التمثيل المسرحي حين ظهر لأول مرة في الموصل وبغداد في وجهه آو يتصدى لمقاومته أو محاربته أو تحريمه لا من رجال الدين ولا من غيرهم من الناس) .من خلال الرأي الأول نستطيع إن نخرج بثلاث نقاط مهمة وهي كالآتي:-
1. يرى الدكتور علي الزبيدي التشابيه الحسينية نوع من أنواع التمثيل الديني ، ورغم أننا لا نعرف تحديد ماذا يقصد بالتمثيل الديني وماهي أنواعه ولكن أشار إلى كلمة تمثيل وهذا ما يهمنا في هذا الموضوع. أذا فالتشابيه الحسينية تحوي على عنصر التمثيل.
2. ويرى بان التشابيه الحسينية أعدت الجمهور لتقبلها من خلال توفير عنصري المتعة والفائدة مما مهد السبيل لتقبله كفن.
3. يؤكد الدكتور الزبيدي بان التشابيه الحسينية كفن (التمثيل الديني) أقدم من التمثيل المسرحي في العراق (الموصل وبغداد) وكانت (التشابيه الحسينية)أكثر انتشاراً في أوساط المجتمع العراقي وأكثر تأثير ، لذلك لم تستطع حتى الجهات الدينية من وجهه نظر الزبيدي بالتصدي لهذا النوع.
الرأي الثاني :- يظهر رأي مناقض يتبناه لدكتور (مناضل داوود) بان التشابيه الحسينية هي مسرح عراقي محلي مشى دربا عميقا وتطور بفعل الإبداع العفوي والمغرض في الوقت نفسه ونقصد بالعفوي هو ما يضاف كل عام لهذه الطقوس من خلال الارتجال ، انه طقس ذو فضاء مفتوح وفرصه ارتجالية تتجدد كل عام في الهواء الطلق .
والرأي الثاني يشير إلى ما يأتي:-
1. إن التشابيه الحسينية هي طقوس مرتجلة تشارك فيها عامة الناس وتتم الإضافات عليها كل عام وبشكل عفوي أي من غير دراسة مسبقة.
2. تقدم في أماكن مفتوحة وعلى الهواء الطلق وليس في مسرح مغلق أو في مسارح أعدت لهذا الغرض كما في الطقوس الإغريقية أو في الكنائس. وهذا يعطينا نظرة بان هذه الطقوس تتغير الأماكن فيها كل عام ولا تستقر في مكان واحد.
3. الصفة الارتجالية هي الصفة الغالبة على هذه الطقوس سواء كانت من قبل المجسدين لها أو الجمهور المشاهد.
إن الصورة الدرامية التي تقوم عليها التشابيه الحسينية – من خلال الرأيين الأول والثاني مع اختلافهما في كونهما مسرحية أم غير مسرحية – تحوي عدة عناصر أساسية ومنها التمثيل المرتجل ، مكان العرض المفتوح، والجمهور الذي يبغي المتعة والفائدة ،وكذلك هي صورة سبقت ظهور التمثيل المسرحي في العراق وأخذت انتشار أوسع منه لما لها من عمر زمني طويل يرجع إلى فترات زمنية سابقة استطاعت هذه الطقوس الدينية لما تميزت به “من حيث جوهرها الديني والتراجيدي والدرامي تفرض جواً خاصا ً بحيث يكون متميزا عن أي طقس أخر من خلال استخدام السيوف والرايات والألوان المختلفة والموسيقى العنيفة ومشاهد العنف والحوار الحزين الغاضب والإيقاع الصاخب والأدوات التي تعبر حرفيا عن الطابع المميز لذلك العصر فيكون الجو مشحونا بالقيم الدرامية والوسائل التي يمكن إن تنقل الطقس من جوه الديني إلى جو الشعائر(الدرامية الشعبية) التي كانت تقام في أماكن مختلفة من العراق ، وقد تميزت محافظة ميسان بهذا النشاط الطقسي الذي كان يقام في كل عام من عشرة محرم وذلك لان غالبية سكان المحافظة هم من المسلمين الشيعة والذين كانوا يمارسون هذا النشاط الطقسي . ففي ميسان كانت نسبة المشاركة الشعبية جيدة مما جعل التشابيه الحسينية تقام في عدة مناطق وفي وقت واحد “إذ كانت في كل منطقة من مناطق العمارة وضواحيها (فرق تمثيلية )تقوم بالأدوار التمثيلية في العاشر من شهر محرم الحرام في كل سنة هجرية.
إن التشابيه الحسينية المقدمة في ميسان وكما في مناطق أخرى من العراق لم تقتصر فقط على الحركات التشخيصية الصامتة كالهجوم والدفاع وإظهار الشجاعة وجلد الحسين (ع)ورجاله وإلام وفجيعة الأطفال من جهة وقساوة الأمويين من جهة أخرى ، بل كان يجري بالإضافة إلى ذلك حوار وكلام بين الشخصيات المذكورة وذلك الحـــــــــوار
مأخوذ من بعض الكتب الدينية والتاريخية وكتب السير التي تروي استشهاد الحسين (ع) وهذه الحوارات تكون مدعمه ببعض القصائد الشعرية المؤثرة تتناول الواقع بشكل تراجيدي وهذه الصور الشعرية تنشدها مجموعة قراء أي جوقة وهي نصوص شعرية يكتبها شعراء يتبارون في كتابة القصيدة التي تتلاءم وهذا الطقس.
إن الشخصيات الرئيسة في التشابيه الحسينية كشخصية الحسين (ع)وشخصيات من أهل بيته يجسدها أشخاص من أهالي ميسان يتصفون بأخلاق وصفات حميدة تعطي انطباعاً مميزاً للجمهور المشارك كرجال دين وشيوخ عشائر وغيرهم من علية القوم وذلك لأهمية هذا الطقس بالنسبة لهم ولمكانة تلك الشخصيات العظيمة عندهم ، وهذا ما يؤكد انخراط الشخصيات التي مثلت في التشابيه الحسينية في عروض المسرح في ميسان فيما بعد حيث قدم أول عرض مسرحي في قضاء قلعة صالح سنة 1917بمشاركة ممثلين من مشايخ ورجال دين ومنهم الشيخ حسن خلف الخزعلي والشيخ عمران الباوي والحاج علي بهار الظالمي وهؤلاء يتصفون بصدق الأمانة والسيرة الحسنة والسلوك الجيد في مجتمعاتهم.
ومن خلال ذلك نستدل إن تجربة التمثيل عند هؤلاء في العرض المسرحي الأول 1917 لم تأت من فراغ بل لابد من أنهم قد مارسوا هذه التجربة التمثيلية في مكان أخر مكنتهم من أداء شخصيات مسرحية أخرى على المسرح علما إن العرض المسرحي الأول كان تحت عنوان (النعمان بن المنذر) ولعدم وجود معاهد أو مدارس لتعليم فن المسرح في ميسان آنذاك فالرأي المرجح يرى بأنهم كانوا من المشاركين في التشابيه الحسينية التي كانت تمارس من أبناء المحافظة بشكل مستمر في كل عام . وبما إن هؤلاء الأشخاص تتوفر لديهم مؤهلات من الصدق والأمانة في التأثير في مجتمعاتهم باعتبارهم من علية القوم ، فكانت مشاركتهم واردة في التشابيه الحسينية وتجسيدهم شخصيات رئيسية كشخصية الحسين(ع) وشخصيات من أهل بيته وذلك لان الصفات التي يحملونها هي الصفات المطلوبة والتي يحملونها في تجسيد تلك الشخصيات .
عامل الأقليات الدينية (اليهود، المسيح، الصابئة):-
إن محافظة ميسان كغيرها من محافظات الجنوب العراقي يوجد فيها غالبية عربية مسلمة وبعض الأقليات الدينية الأخرى ومن ابرز هذه الأقليات التي عاشت في ميسان (اليهود، المسيح، الصابئة).حيث أختلف تواجد أبناء هذه الديانات الثلاثة في الساحة الثقافية في ميسان في القرن العشرين ،وما قدموه من النشاطات الثقافية والفنية بحيث ساعدت في نشأة المسرح فيها، إذا فلا بد لنا أن نتتبع الدور الذي قام به أبناء الأقليات في نشأة المسرح في ميسان ، وهل كان هذا الدور مميزا أم كان ثانوياً ؟ وما هي إسهاماتهم في هذا الجانب ؟.
اليهود:-
سكن اليهود في محافظة ميسان منذ زمن بعيد يصل إلى أكثر من إلفي عام مضت وخير دليل على ذلك وجود مرقد نبي الله العزير (ع) في الناحية المسماة باسمه ، مما يدل على وجودهم في هذه المحافظة قبل مجيء المسلمين إلى ارض ميسان بالإضافة إلى وجود مناطق سكنية عرفت باسم كتابهم المقدس وهي محلة (التوراة)التي تقع في قلب مدينة العمارة
وكان لليهود بضع مدارس في المحافظة كانت تقيم نشاطات مختلفة قد يكون من بينها المسرح ، ومن هذه المدارس مدرستان أو ثلاث أسستها جمعية الاتحاد الإسرائيلي الفرنسي التقدمي (الاليانس) وهي جمعية يهودية تأسست في العراق سنة 1865م،أسست بضع مدارس لها في العراق منها مدرسة ابتدائية للبنين في بغداد وأخرى للبنات كما أسست مدارس أخرى في الموصل والعمارة ، و نستدل من هذا الاقتباس بان لليهود في العمارة مدرستين على الأقل وهاتان المدرستان افتتحتا بإشراف جمعية يهودية قد يكون من أهدافها حفظ التراث اليهودي أو اللغة العبرية أو نشر الديانة اليهودية في العراق ومنها ميسان وقد يكون لها كذلك أهداف أخرى مثل تطوير المستوى الثقافي والعلمي لأبناء الجالية اليهودية ، وخير وسيلة في تحقيق هذه الأهداف فضلا عن التعليم هو المسرح ، لأنه وسيلة اتصال مباشرة وفعالة متوفرة في ذلك الوقت على اعتبار انه لا وجود للتلفزيون والسينما آنذاك .
ولكن هل كان لليهود دور فاعل في نشأة المسرح في ميسان ؟ وهو ما يهم الباحثين في هذا الموضوع ، فالدلائل التي تشير إلى دور اليهود في ذلك قليلة جدا ،والدليل الوحيد هو وجود المدارس التي ذكرناها ، ولكن هل كانت تقدم عروضا مسرحية يشاهدها عامة الناس أم لا؟ فهذا لم يتوفر لدينا حتى بعد نشوء هذا المسرح وتطوره ، هذا من ناحية أما من ناحية أخرى فلم تذكر أسماء يهودية مثلت في بعض العروض المقدمة في المحافظة وكذلك لا توجد إشارات حول الطقوس الدينية للديانة اليهودية في محافظة ميسان.
أما أسباب عدم توفر بعض المصادر فهي تقع في نقطتين رئيستين هما :-
1. هجرة اليهود إلى فلسطين في أربعينيات القرن الماضي من العراق بصورة عامة وميسان بصورة خاصة مما أدى ذلك إلى عدم وجود جاليات يهودية تقوم بحفظ المنجزات الثقافية والفنية لأبناء الديانة اليهودية في ميسان.
2. لتعتيم الإعلامي على دور اليـــــــــــهود في العراق من قبل الحكومات التي سيطرت على الــسلطة وذلك لأن اليهود أصبحوا أعداء للعرب بعد احتلالهم لدولة فلسطين وإعلانهم الدولة العبرية لعام 1948م.
المسيحيون:-
لقد سكن المسيحيون في محافظة ميسان منذ حقب طويلة قد ترجع إلى مئات السنين ، وقد مارسوا نشاطات وطقوس دينية تميزت بالجانب الدرامي ، كانت تقدم في داخل الكنيسة، والعبادة المسيحية درامية في جوهرها . فالقداس صورة لمأساة تل الجلجلة عبر نقاب خفيف . وكان الكاهن يمد ذراعيه في إثناء القداس رامزاً إلى شكل المسيح على الصليب وما أقدم جزء من القداس سوى حوار تذكاري بين مقدم الذبيحة ومجمع المؤمنين في يوم احد السعف ، كانت الأصوات تتعدد مرتلة قصة الآلام المسيح ، وكان هذا الشكل الدرامي الطقسي يقدم في كل الكنائس في العالم ومن بينها كنائس ميسان ،ولكن في ميسان لم يقدم هذا الطقس الديني في الساحات العامة وذلك لان هذه الصورة الدرامية ارتبطت بطقس ديني مسيحي ، بينما كان أهالي ميسان من المسلمين . وهذا ليس في ميسان وحدها بل حتى في مناطق أخرى من العراق ، فوجود” المسيحيين في بلد إسلامي وضمن أكثرية اجتماعية ودينية إسلامية في مدينة الموصل وحتى في العاصمة بغداد لم يحقق الانتشار الذي حظى به المسرح في أوربا ، لان التمثيليات الدينية التي كانت تقام في روما وباريس وغيرها ، كانت تقدم في الميادين العامة الكائنة أمام الكنائس، أما في العراق فانحصرت في الكنائس والمدارس الدينية الملحقة بها”(2) ، وهذا السبب الرئيس الذي جعل الطقس الديني في الديانة المسيحية في ميسان منحصراً داخل الكنيسة فقط مما جعل تأثيره اقل في أبناء المحافظة وهذا في الجانب الأول .
أما في الجانب الثاني فقد قدمت بعض من النشاطات الثقافية والفنية لأبناء الأقلية المسيحية في ميسان من خلال المدارس التبشيرية وكذلك الجماعات الإرسالية ، فالأولى فتحت مدرستين أهليتين للأولاد عام 1884م ، وثالثة للبنات في عام 1899م (3) ، أما المبشرون من الشباب المسيحي فقد شكلوا منظمة تحت اسم (جماعة الإرسالية العربية) في بغداد وفتحوا لهم فروعا في عدد من مناطق العراق ومنها مدينة العمارة عام 1894م في بناية عرفت فيما بعد بمستشفى الأمريكان.
ولكن هل هذه النشاطات التي كانت تقدم في المدارس التبشيرية وفي بناية الجماعة الإرسالية العربية لها دور مباشر في نشأة المسرح في ميسان؟ وهل كانت النشاطات الفنية التي تقدمها المؤسسات المذكورة سابقاً يحضرها عدد من الأهالي من غير المسيحيين ويتأثرون بما يشاهدونه ويحاولون تقليده ؟ أم لا يوجد شيء من هذا القبيل ؟ فالمصادر التي ذكرناها لم تشر بصورة مباشرة إلى مثل هكذا نشاطات ، والقصد في مثل هذه الإشارة ليس عدم وجود نشاط تمثيلي ، فكلنا يعلم إن الكنيسة ومن خلال الطقوس تقدم للمصلين شيئا من الدراما وكما مر ذكره سابقا ، ولكن الإشارة التي نريد إن نصل إليها هل كان أهالي ميسان من غير المسيحيين يشاركون في تلك الاحتفالات الدينية ؟ ويشاهدون الطقوس التي كانت تقام في الكنيسة؟ فلا يوجد دليل لدينا على ذلك . ولكن تصدر إشارات أخرى تؤكد اشتراك عدد من أبناء الأقلية المسيحية في العروض التي قدمت بعد نشأة المسرح في ميسان حيث اقتـــــصرت مشاركتهم في بادئ الأمر على تجسيد شخصيات نسائية كما في مسرحية (مجنون ليلى) التي قدمتها إعدادية العمارة في ثلاثينات القرن الماضي ، حيث جسد عبدا لمسيح شخصية ليلى ، وبنيامين إسحاق شخصية سلمى في هذه المسرحية وذلك لعدم وجود كادر نسائي يجسد تلك الشخصيات .
الصابئة :-
سكن الصابئة المندائيون في ميسان قبل مجيء الإسلام زمنا طويلا ، حيث يرى (ناصر عامر جندال) في بحثه عن الصابئة ، إن هذه الطائفة ” كانت تسكن بلاد الشام بعد وفاة النبي يحيى (مبارك اسمه)بسـبــــعين عام ، وقد وقع ظلم كبير على هذه الطائفة واضطهدت من قبل اليهود مما أدى ذلك للهجرة إلى حـــــران في سوريا ومن ثم إلى العراق حيث استقروا في منطقة تسمى(الطيب) وهي منطقة تقع شرق محافظة ميسان وتمتد إلى الحدود الإيرانية والتي كانت بعيدة عن أنظار الطغاة ، وقاموا ببناء معابدهم فيها، وتعد هذه المنطقة ملائمة لهم من حيث موارد الماء التي تيسر تطبيق طقوسهم الدينية.
وللصابئة طقوس دينية كانوا يؤدونها بشكل بعيدا عن أبناء الديانات الأخرى ، وتحديدا بالقرب من الأنهار ، ونتيجة لهذه السرية في أداء الطقس الديني المندائي ولعدم وجود مظاهر تمثيلية فيه ،أي أداء قصة معينة أمام الحاضرين كما في الديانتين المسيحية والإسلامية ،وهذا ما يؤكده المصدر المذكور سابقا، فلم تتطور تلك الطقوس الدينية لديهم لتتحول فيما بعد الى الطقوس ممسرحة ،مما يعطينا هذا الاستنتاج إن الطقوس الدينية المندائية لم يكن لها دور مباشر او غير مباشر في نشأة المسرح في ميسان. وكذلك لم تذكر لنا المصادر التي تناولت نشأة العملية التعليمية في العراق بصورة عامة وميسان بصورة خاصة ،إن مدارس للصابئة كانت موجودة فيها قبل نشوء المسرح ،ليقدموا فيها نشاطات فنية ومن ضمنها المسرح .
أما بعد نشأة المسرح في ميسان أي في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين ،فقد برزت أسماء من أبناء الصابئة ساهمت في تطوير هذا المسرح ومنهم (توفيق لازم الزهيري)الذي برز اسمه في أواخر العشرينات بين ممثلي متوسطة العمارة للبنين عندما كان طالبا فيها ،ثم انتقل في أواخر الثلاثينات إلى دار المعلمين الابتدائي/ الصف الريفي ، وهناك شارك الطلاب في تمثيل عدة روايات ومنذ تعيينه في ريف الكحلاء باشر ببناء مسرح مدرسي من القصب والبواري وقام بتدريب التلاميذ على المسرحيات التربوية ،وقام مع تلاميذه بسفرات مدرسية إلى مناطق أخرى من ريف الكحلاء لتقديم العروض المسرحية. ومن الملاحظ في هذا الاقتباس إن (توفيق لازم الزهيري) لم يتعلم من الطقوس الدينية الصابئية مسرحيا ، بل تلقى ذلك من خلال دراسته في متوسطة العمارة للبنين ، وكذلك في دار المعلمين الابتدائي/ الصف الريفي . وذلك يدل على أن أبناء الطائفة الصابئية لم يكن لهم دور واضح في نشأة المسرح في ميسان .