إن الحضارة الغربية بتاريخها الثقافي الطويل والحافل بإنجازاتها المتنوعة والمتعددة في مختلف المجالات ومنها المجالات الفكرية التي اثرت في تكوين المبادئ العقلانية لهذه الحضارة ، وفي رسم سياساتها وقواعدها الفلسفية وطرائقها المختلفة في تثبيت صورة العقل الغربي وافكاره الثابتة في وصف الجوانب التي كانت و تكون عليها التمركزات في هذه الحضارة ، وتحديد اهم المعوقات الواقفة في طريقة وآليات إبعادها ، ومن أهم هذه المعوقات التي حاول العقل الغربي مواجهتها ومحاربتها دون هوادة ، هي طموحات الامم الاخرى التي كانت تنافس معها على قيادة العالم ، ومن هنا وضع مفكري الغرب ومنذ البدايات الاولى صوراً ومسميات ثابتة للأخر والتي تعد الصورة الأولى للمواجهة معه ، وابعاده من ساحة المنافسة من خلال مبادئ قامت على تشويه صورة الاخر وانتماءاته الفكرية والاجتماعية والسياسية ، وقبلها الدينية.
ومن هذه الفكرة لأولى للتمايز نلاحظ ان عدد من الباحثين الذين سوف نورد آرائهم حول صور التشويه التي بدأها العالم الغربي فكرياً ضد الاخر ، ومن ابرز المناطق التي تعرضت للتشويه منذ الحقب الاولى للصراع الفكري للحضارة الانسانية هم ابناء منطقة التماس مع اليونان ومن ثم الرومان وما تبعها من الدول المسيحية والحروب الصليبية وعصور التنوير والثورات الاوربية وغيرها .
ومن الباحثين الذين قدموا لهذه الصورة في التمايز ما اورده (عمر كوش)في كتابه (اقلمة المفاهيم) ، والتي يرى فيها : ان مرتكزات الذات الغربية و تمركزها العرقي أثرت في مختلف معطيات وافرازات الثقافة الغربية ، فأنتجت ضروباً من الميزات التي حاولت تصنيفها وفق نظم تراتيبية وانساق فكرية وعقلية ،وخلقت معايير اقصائية للآخر وثقافته ، ثم قامت باستغلال مختلف الصلات بين الشعوب وطرق حياتها لصالح مقتضيات التمركز وقدموا روايات واقوالاً على معيار افضلية الانسان (المتمدن) على (غير المتمدن) وساد مصطلح الإنسان (المتوحش) ثم (البدائي) في أبحاث و دراسات التاريخ والانثروبولوجيا والأنثولوجيا.
إنّ هذه الترتيبية التي وصلت الى أوجها في القرن الحادي والعشرين لم تتشكل في العقل الغربي ومرتكزاته الفكرية والثقافية بشكل اعتباطي ، أو بمحض الصدفة لتصل الى الدراسات الحديثة في الانثروبولوجيا و الأنثولوجيا ، وكأن القضية لم يؤسس لها ، ولم يضع لها مرتكزات اخذت بالتطور تدريجياً الى أنّ وصلت الى الوقت الحاضر ، إنّ كل شئ مقصود في المنظومة الثقافية الغربية وأنساقها الفكرية و الثقافية ، وهذه المعايير الاقصائية اصبحت من الامور الثابتة التي يُقّيم عليها الآخر المغاير ثقافياً وأجتماعياً ودينياً ، بل حتى أنّ المواقف الاخرى بُنيت على وفق هذه المعايير وتقسيمها العالم الى جزء متمدن وآخر متخلف ، فالثقافة منذ الصراع الحضاري الأول أصبحت هي من المعايير التي تميز هذا الصراع ، دون أنّ يسعى العالم الغربي الى اثراء التنوع الثقافي العالمي لكنه جعله جزء من المعايير التمييزية في النظام الكوني ، الذي يقوده العقل الأبيض مقابل العقول الأخرى صاحبة المكانة الأدنى في النظام التراتبي العالمي .
إن هذه الثقافة الإقصائية والصور التشويهية لها بدايات اولى في هذا المجال ، فقد أسهم الفلاسفة في اليونان في لبناتها الأولى للثقافة الاقصائية للعقل الغربي، إذ قسم(افلاطون) الشعوب الى شهوانية وعاقلة ، ووصف الشرقي بأنه شهواني ومغيب لعقله تحت مبدأ الشهوة ، أما (ارسطو) فقد قسم الشعوب الى شعوب شجاعة وهم اليونان و أخرى غير شجاعة وهم الشعوب الشرقية ، وقام تقسيمه على اساس مناخي جغرافي . ومن هذين النظرتين عند (افلاطون ، وارسطو) أصبحت هذه الشعوب ذات بعد شهواني غير شجاع يعيش تحت السلطة الدينية التي جعلت منهم خاضعين لأمور غيبية وفي ركود معرفي بعيد عن ساحة الحضارة العالمية ، لذا فأن (ول وايريل ديورانت) يصف هذه الرؤية عند اليونان في( قصة للحضارة) ، بأن الشعوب الشرقية كان يراها الفلاسفة اليونان بأن كل شعب من شعوبهم يرزح تحت حكم الطغاة المستبدين و يسلم أرواح بنية الى الخرافات والأوهام ولا يعرف من بواعث الحرية ، أو الحياة العقلية . وهذا السبب حدا باليونان الى ان يطلقوا عليهم بلا تمييز بينهم اسم البربري barbaroi اي الهمج . وهذا التمييز الذي يشمل على اقصائية استمرت حتى بعد ظهور الاسلام ، الا وهي أن الشرقي ما قبل الاسلام هو نفسه الشرقي بعد الاسلام الذي يتصف بالشهوة وعدم العقل ، وإبعاد العقل من الحضارة الشرقية (الاسلامية) ، كما إنّ وصف هذه الشعوب بأنها تعيش على الخرافات والاوهام وهي تسلم حياة أبنائها للطغاة ، أيضاً تستمر هذه الوصفات الجاهزة فيما بعد عند فلاسفة ومفكرين آخرين في الغرب ، وعلى الرغم من إنّ (برتراند رسل ) الفيلسوف الذي الف عدد كبير من المؤلفات التي تصف تاريخ الفلسفة والتقدم الفلسفي عند الشعوب الغربية ، يرى في كتابه ذو الجزأين (حكمة الغرب) تأييد لهذه النظرة ، والتي لا يعرف لماذا هذه الشعوب لا تعرف التقدم الحضاري في العلوم والفلسفة ، ويرى(رُسل) بأن حضارتا (مصر وبلاد الرافدين) نمت “على ضفاف انهار كبرى ، وكان يحكمها ملوك مؤلهون ، وأرستقراطية عسكرية وطبقة قوية من الكهنة كانت تشرف على المذاهب الدينية المعقدة التي كانت تعترف بآلهة متعددين ، اما السواد الاعظم من السكان فكانوا يزرعون الارض بالسخرة ، ولقد توصلت مصر القديمة و بابل الى بعض المعارف التي اقتبسها الاغريق فيما بعد، ولكن لم تتمكن اي منهما من الوصول الى علم ،أو فلسفة ، على أنه لا جدوى من التساؤل في هذا السياق عما اذا كان ذلك راجعاً الى افتقاد العبقرية لدى شعوب هذه المنطقة ، أم الى أوضاع أجتماعية لأن العاملين معاً كان لهما دورهما بلا شك ، وإنما يهمنا هو ان وظيفة الدين لم تكن تساعد على ممارسة المغامرة العقلية. وهذه الصورة التي ينقلها (برتراند رسل) هي مكملة لنظرة الفلاسفة اليونان (افلاطون و ارسطو) بأن شعوب منطقة الشرق الأوسط وعلى الرغم من بعض المعارف الى إنّ العامل الديني جعل من أبنائهم يرزحون تحت الحكم المستبد للملوك والطبقات الحاكمة التي كانوا أفرادها ممن يعيشون أدوار الالهة على الارض ، وهنا نتسائل الم يكن في اليونان عوامل دينية وتعدد الهه كانت تسيطر على حياة البشر ، وكما نقلتها لنا الأساطير والملاحم اليونانية كما في (الألياذة والأوديسا) و غيرهما، وكما نقلها لنا المسرح اليوناني في مسرحياته عند كتابة الأربعة (أسخيلوس ،سوفوكلس ،يوربيدس وارستوفانيس) وكيف كانت التضحية بالأبناء والابطال أيضاً للآلهة، الم تكن قصة تنفيذ حكم الاعدام بأحد الفلاسفة اليونانيين (سقراط) المعروفة هو بسبب دعوته الى تبديل نمط تفكير النشأة والشباب في المجتمع اليوناني والذي يتعارض مع الافكار الحاكمة آنذاك ، وغيرها من الامثلة في مجال مواجهه العقلية الحاكمة والتي كان للدين في (اثينا) نصيب في هذه العملية .
ولكن على الرغم من ذلك فقد كان توصيف الشعوب الاخرى يقع تحت الاستبعاد من دائرة الحوار الثقافي والحضاري ، وعودة مرة اخرى الى (ارسطو) الذي اسسه بعد (افلاطون) للتقسيم العرفي قاد ذلك (فيما بعد) الى تقسيم مكمل شمل فيه الاسلام ورسوله أيضاُ. اي ان التقسيم الارسطي قام على مفهوم العبودية الطبيعية و حرر الذات منها ، واخضع التقسيم في القرون الوسطى الأمر الى معيار الايمان فيصلاُ بين الذات والاخر ، ثم قام التفكير الغربي الحديث ، باعتماد مبدأ (الحضارة) ، ولهذا تتشكل ثنائيات متعارضة :اغريق/برابرة، احرار/عبيد، مؤمنون/كفار ،متحضرون/متخلفون ، وفي التقسيم الثالث (مؤمنون/كفار) كان الفكر الغربي المدعوم بالعقلية الدينية المسيحية تصف الاسلام ورسوله (ص) بالكفر، وإبعاد الشعوب المسلمة عن دائرة الايمان الغربي والثقافة الايمانية التي كان يدعو لها الغرب وفكره آنذاك، وهذا ما تم تدعيمه فيما بعد برؤى وافكار من قبل المفكرين الغربيين على مختلف انتماءاتهم سواء أكانت دينية أم دنيوية ، وفي هذا المجال سنأخذ مجموعة من الاسماء التي حاولت التأثير على تشكيل الوعي الغربي فيما يخص النظرة المشوه الى الرسول محمد(ص) بأوصاف شهوانية و قاتل وشرير ، وهذا ما نقله لنا الكاتب (اندرو هويتكروفت) في كتابه (الكفار)الذي يستعرض فيه تاريخ الصراع بين عالم المسيحية وعالم الاسلام ، اذ يرى المؤلف بأن الكاتب والأديب الإسباني (بول الفاروس)- هو من كتب رسائل عن حركة الشهداء في قرطبة – الذي صور النبي محمد (ص) بأنه مفرط بالحياة الجنسية ، وهذه الصورة قدمها من خلال كتابه عن سيرة حياة (ابولوجيوس) المسيح الذي بشر بالسلام، وينقل في كتابه ايضاً بان الرسول محمد(ص) هو من عَلم القتال بينما المسيح هو من علم الطهارة التي تقابل الشر والزنا والمتعة في حياة الرسول محمد(ص) حسب أدعاء (الفاروس). كما يستمر (اندرو هويتكروفت) بنقل الاوصاف المشينة التي كان يوصف بها المسلمون الذين اخذوا عن نبيهم هذه الصفات ، وهذه الصفات التي فيها الكثير من الاهانات وصور الشر حتى أنّ الاقوام البدائية لم توصف بها ، فكيف بأمة عظيمة كالإسلام ورسول كريم محمد (ص) من قبل الكتاب الغربيين الذين حاولوا أنّ يرسموا صورة سلبية عن الرسول (ص) في اذهان شعوبهم وهذه الصورة السلبية كانت تصف الرسول (ص) و المسلمين بأنهم : المسلمون منتفخون ، يسرفون في الاكل غاصبون طماعون في حيازة الممتلكات … لا شرف لهم ولا حقيقة . غير معتادين على الرحمة و العاطفة … وهم متقلبوا الاطوار ، لصوص ، مكارون ، والحقيقة انهم غارقون تماماً في ثمالة كافة انواع الدنس، يزدرون التواضع مثل الجنون ، يرفضون الطهارة كما لو كانت رجساً ، يستخفون بالعذرية كما لو كانت قذارة العهر والدعارة ، يضعون رذائل الجسد امام فضائل الروح، وهذه الاوصاف ينقلها (هويتكروف) عن كتاب (بول الفاروس).
إن هذه الاوصاف التي ساقها (الفاروس) كانت مستمدة من (حركة الشهداء) الذين ثاروا ضد الحكم الاسلامي من خلال بعض الكنائس التي كانت تدعو الى التطرف في مواجهة المسلمين في (قرطبة) ، وهنا حاول (بول الفاروس) ان يكتب سيرة حياة (الاسقف) وهو (ابولوجيوس) الذي كان احد اعضاء حركة المسماة بحركة الشهداء واراد هذا (الاسقف) الذي كتب عن هذه الحركة الذي أدان فيها المسلمين ، ووصفهم بأوصاف خارجة عن الواقعية التي كان يعيش في ظلها المسيحين في قرطبة. وهو ما ساقه (هويتكروف) في أن واقعية الحكم الاسلامي تحبذ هذا النوع من الحلول الوسط وكانت الكنيسة الراديكالية تروق لبعض المسيحيين ، بيد ان مثل هذه الكنيسة لم تكن تستطيع سوى ان تصبح بؤرة لمزيد من العنف . ولم يكن بإمكانها ان تحافظ على العلاقة المستقرة بين الحكومة والرعايا الخاضعين لها والتي تتيح للمسيحيين أنّ يمارسوا حياتهم اليومية في سلام.
اذن ، فأن ما قدمه (بول الفاروس) في كتابه ، هي آراء(يولوجيوس) الذي تأثر بها وحاول أنّ يقدمها على انها اوصاف حقيقة للمسلمين في قرطبة، وحاول من خلال هذه الاوصاف أنّ يقارن بين الرسول (ص) و المسيح بحسب الصور التي كان يعتقد بها عن الشخصيتين ،لذلك فأن ميزان الوصف لم يكن عادلاً ، بل كان فيه الكثير من الامور غير الحقيقة لا عن الرسول (ص) ولا عن المسلمين ، بل كانت القضية تعتمد كل الاعتماد على ما أراده المناوؤن للإسلام و للرسول (ص) من أنّ اوصاف مثل الزنا و الشهوانية والقتل ، والبعد عن الرحمة و العاطفة و التكبر والدنس والقذارة وغيرها من الاوصاف ، هل تعبر هذه الأوصاف عن حقيقة الشخصية المحمدية، أم انها كانت اوصاف جاهزة دون أنّ تكون واقعية وحقيقية عن هذه الشخصية العظيمة ؟ و هل أنّ بعض ما يقوم به من المسلمين هي بالضرورة تعبر عن شخصية الرسول (ص)؟ أم انها تصرفات خاصة تعبر عن صاحبها، أو اصحابها تجاه مجتمع ما سواء كان مسيحي ،أو يهودي ،أو غيرها من المجتمعات. ومن هنا نستشف أنّ كتابات (بول الفاروس) وهو الأديب الذي عاصر الحكم الاسلامي في (قرطبة) ، لم تأتي من واقعية وموضوعية في الحكم على الاسلام وعلى الرسول (ص) ، بل جاءت نتيجة تأثير الكاتب بذاتيته اولاً ، ثم بمن اعتقد بهم و كتاباتهم ثانياً، وكذلك التأثير بما كان يوظف في عقيدته ثالثاً في مجال وصف الرسول (ص) و المسلمين.
ومن المفكرين الاخرين الذين وصفوا الرسول بأوصاف بعيدة عن الحقيقة هو المفكر والكاتب والسياسي الإسباني (دون خوان مانويل – 1282/1348) ، الذي لم يخرج عن الصورة النمطية التي وصف بها الرسول (ص) في الغرب المسيحي آنذاك ، والتي عممت على وصف المسلمين فيما بعد ، وأصبحت من الايقونات الثابتة الدالة عليهم حتى الوقت الحاضر ، و هذا ما سنبينه فيما بعد في كتابنا هذا ، اذ كتب (مانويل) في هذا الصدد بعد صلب المسيح بوقت طويل ظهر رجل مزيف اسمه (محمد) . . . وكجزء من تعاليمه قدم لهم غفراناً كلياً للذنوب لكي يشبعوا نزواتهم الشهوانية الى مدى غير معقول بالمرة ، وكأنما الرسول (ص) على حد راي (مانويل) هو من شرع الرذيلة و فتح المجال أمام المسلمين لممارستها ليشبعوا نزواتهم الشهوانية ، وهذا الكلام الذي يصدر من (دوق) و سياسي وكاتب في اسبانيا التي كان يتواجد فيها المسلمون كحكام في فترة من الفترات ،فأن التأثير الذي حصل لمانويل كان من الطبيعي بما كان يقرأه عن الرسول (ص) والمسلمين إنّ يكتب مثل هكذا اوصاف عنهم ، وهذه الاوصاف الشهوانية التي تثبيت صحة تشريعها لديه وعدم تحريمها على اصحابه، وكانت تروج عن شخصية محمد (ص) في هذه الحقبة الزمنية من الصراع بين المسيحية والاسلام في الاندلس (اسبانيا) ، لكن السؤال الذي تطرحه في هذا المجال . أين مبدأ البحث عن الحقيقة لدى هكذا كاتب؟ و هل كانت الحياة الاسلامية في الاندلس مع الكم الكبير من الانجازات لم تشاهد فقط غير الحياة الشهوانية ؟ وكذلك أّلم يطلع (مانويل) وغيره من الكتاب والمفكرين على (القران الكريم) و المؤلفات الاسلامية الاخرى حتى يتبين للكاتب وغيره حقيقة شخصية الرسول(ص)! أم فقط اطلع الكاتب على المؤلفات التي كانت تدين المسلمين و تشوه صورة الرسول (ص) دون تحقيق مسبق على هذه الطروحات المؤدلجة في ذلك الزمان .