إنَّ الانطلاقة الأفلاطونية في وصف ظاهرة تجارب الفن التشكيلي العراقي للناقد والأديب (نصير الشيخ) في كتابه ( النافذة والظلال / قراءات في تجارب مختارة من التشكيل العراقي ) الصادر من دار (أمل الجديدة للطباعة والنشر والتوزيع في 2019) ، ينطلق فيه من الإهداء الأفلاطوني الذي يقول: ( ثمة شعلة تضيء بالجمال أغوار الكهوف البعيدة الى الأرواح التي حلت بفنائي) ، ليتبادر منها السؤال الآتي : هل الوجود الإنساني في هذا العالم الذي تجسدت به الأسطورة على لسان سقراط في الجمهورية هي من أعطت ملامح التصور للناقد في الكشف عن الجمال الجوهري مقابل مواضيع الجمال العديدة ؟ . فأسطورة الكهف الأفلاطونية تشير الى العالم المحسوس والظلال تعني المعرفة الحسية التي تؤدي الى عالم المثل الافلاطوني . والناقد يشير الى البحث في تجارب الفن التشكيلي العراقي في الجمال الجوهري الذي تشترك فيه النماذج المختارة في هذا الكتاب ، أنطلاقاً من رؤية الكاتب عندما يتصور طبيعة الفن ، ومن هؤلاء الذين يتعاملون به ،إذ يصف ” الشعراء والفنانون هم أقدر الناس على تصور مُثل الأنواع تصوراً كاملاً واضحاً ، كلما أزداد العالم الواقعي نقصاً في أعينهم ازداد عالمهم الخيالي روعة وبهاء ، ولا غرابة أن تجتمع في الرجل الواحد ذي الحس المرهف مرارة النقد لما هو واقع وسمو المُثل التي يود لو جاءت الدنيا على غرارها ” ( نصير الشيخ : النافذة والظلال : ص 12) . إنَّ هذا التلاقي بين الرؤية الأفلاطونية ورؤية الناقد في قراءات التجارب التشكيلية ، هو تلاقي قصدي من قبل الكاتب ، على الرغم من أن أفلاطون رفض محاكاة بعض أنواع الفنون بصورة خاصة كونها تحاكي الطبيعة التي من الممكن أن نستغني عن هذه المحاكاة بجمال الطبيعة ذاتها ،إذ ” وضع أفلاطون آراء تعكس طبيعة فلسفته ورؤيته للفن ، فيرى أنه لنحكم على عمل فني يجب أن نعرف الحقيقة المثالية الخالدة ، أو الأصل الثابت الواضح في العقل ، لا المظهر الحسي المتغير ، لأن الأشياء المحسوسة ما هي إلا ظلال وانعكاس لجواهرها الموجودة في عالم المثل ،فإذا كان الفن انعكاساً لانعكاس ، وظل لظل ، وإذا كان محاكاة للطبيعة فلدينا الطبيعة بكامل صورها ، ونحن بغنى عن الفن المقلد لها” (إنصاف جميل الربضي : علم الجمال بين الفلسفة والإبداع : ص28) . لكن ما اراده الكاتب (الشيخ) من التصور الأفلاطوني في التحليل للأعمال المختارة هو أن يركز على الجوهر الجمالي الذي يربط التجربة الجمالية في الفن التشكيلي العراقي ، وليس التركيز على الجمالية الحسية التي من الممكن أن لا تغني التجربة العراقية كونها قد تدخل في مشكلة الأبداع والتقليد في بعض الأعمال والتي من الممكن أن يكون التقليد بعيد عن الإبداع في بعض التجارب التشكيلية العراقية . كذلك يأخذ (الشيخ) من (افلاطون) البناء الحواري في انتاج نص نقدي عن بعض التجارب الفنية ومنها تجربة الفنان (عاصم عبد الأمير) ، التي توضحت في أعماله فكرة الجمال الأسمى والذات التي تستقي من عمقها الفكري والروحي وما هو في الحول ، إذ يرى أن ” لا وجود لذات خلاقة متفجرة دون أن تكون بؤرة استقطاب مرنة لما هو في الداخل ، وما هو الماحول .. وكلما اغتنمت الذات من منابعها كان خطابها أكثر ادهاشاً . لهذا تحتاج الأعمال الكبيرة الى ذات هي الأخرى كبيرة كي تستشرف شواطئها العميقة ” ( نصير الشيخ : ص 33) . وهنا ما أراده الكاتب أن يقرأ الحوار الخاص بأعمال (عاصم عبد الأمير) على أساس هذه الذات وظلال نوافذها في عمقها المعرفي .
أما في التجربة الأخرى للفنان الراحل (أمير الشيخ) التشكيلية ، التي صّور من خلالها لوحاته ذات الدلالات والرمز التي تعبر عن مرحلة زمنية في تاريخ الفن العراقي ، فأعماله التشكيلية هي ذات موسيقى خاصة تميزت بالشمولية من حيث الموضوعات ودلالاتها الفكرية مع ارتباطها بعالمها المحلي العراقي والأسئلة التي تعبر عن مكنونات النفس ،إذ تعد ” اللوحة ، معنى شمولياً بالنسبة لديه ، انغماراً صوفياً في مكوناتها ومكنوناتها حد ذوبان الزمن في محترفه في الغرفة العليا من البيت (الشناشيل الخشبية) وهي – أي اللوحة – ساعة تنفيذها حلول في اللآمرئي بالنسبة اليه ، وإشهار للطاقة الفاعلة في تجسيد افكاره المغرقة في السؤال والصراخ ، رحلة سرمدية “( نصير الشيخ : ص 50) .
وفي تجربة الرسامة (حنان الشندي) يناقش الكاتب الحلم الذي يتناول الانعزال عن خرابات الحياة وضجيج الحروب وردم فجاجاتها وما يستتبعها من أزمنة استهلاكية ، فاللون وتدرجاته والأشكال التي تختفي في داخل هذه الألوان تحاكي الأفكار المرتكزة في ذهنية الفنانة وتجربتها التشكيلية . وفي تجارب فن النحت للفنان الراحل (أحمد البياتي) والفنان (عباس جابر) يناقش الكاتب البنى التكوينية وجماليتها على الرغم من اختلاف التجربة النحتية لكل فنان ، فالراحل (أحمد البياتي) في اشتغالاته مع المادة المستخدمة في منحوتاته تناقش جماليات ومستويات تعبير خاصة ببيئته محلية وكما في نصب (المرأة العراقية ) وتكتيكات الأشتغال النحتي في طيات ملابسها واكسسواراتها الشعبية ، لكن دلالة الطير الذي يشير الى الحرية له بعد مفاهيمي مهم في سحب هذا النصب من محليته المفرطة الى افكار مثالية مشتركة في الفهم الجمالي . أما النحات (عباس جابر) فأن تجاربه النحتية تتميز – حسب رأي الكاتب – ببعدها الاحتجاجي وتعبيرات راسخة في المادة المستخدمة وهي الطين على العكس من (أحمد البياتي) الذي وظف أكثر من مادة مثل الحديد والرخام في أعماله النحتية .
كتاب النافذة والظلال يحتوي على تجارب تشكيلية أخرى ومنها احتفالية اللون والجسد للفنان (صباح شغيت) الذي أتخذ من الأنسان بعنوانه الأسمى نموذجاً تشكيلياً في أعماله الفنية ، والفنان (علي ياسين يوسف) ومتخيلاته الصورية وتجسيداته الجمالية ذات البعد التعبيري الذي يشير الى الأنسان الأول ذات البدايات الطقسية في الكهوف واللغة الأولى في صراخ البرية .
إنَّ الناقد (نصير الشيخ) بمحاولاته الأولى في قراءة المنجز الإبداعي في التجارب التشكيلية حاول أن يقدم صورة نقدية لا تعتمد المنهج الأكاديمي الصارم ، لكنها جاءت قراءة حرة متخذاً من قراءة مغايرة لتصورات اسطورة الكهف وظلالها اسلوب محدد له في وضع حدود لهذه القراءة الجمالية التي سلط الضوء فيها على بعض التجارب التي ابتعد عنها القلم النقدي الأكاديمي بشكل كبير .