للشعر تصورات يطلقها الشاعر في حدود تأثيراته الوجدانية التي من الممكن أن تكون مباشرة من خلال المواقف التي يمر بها يومياً ، وتترك أنطباعاً خاصاً له أثر في حياته الشخصية من خلال التاريخ الشخصي الذي مر بأحداث كثيرة بعضها مؤلم وبعضها فَرِح ، أو تاريخ عام يشترك فيه مع المجتمع وابنائه في افراحهم واحزانهم ، في مسراتهم ونكباتهم ، أو تكون القضية متخيلة كون الشعر يستند الى بعض الصور المتخيلة التي تدعم القصيدة من خارج الواقع المعاش وتكون جماليتها مختلفة تماماً كون الشاعر قد قدمها وأطلقها في أفق ألا توقع لدى المتذوق الذي لا يمكن أن يتفهمها الا في سياق أشتغالاتها الواقعية في بعض الاحيان ، أو ما يتخيله في ذاكرته التي تتفق ،أو تختلف في المعنى مع الشاعر . لذلك فإن مجالات العمل على جلب التصورات الداعمة للقصيدة كثيرة ومجالاتها متعددة ومتنوعة ، وهنا قد يتخذ الشاعر في الربط بين ما هو متصور وبين ما هو وجداني من رحم الواقع ، وبين ما عام وبين ما هو خاص في أنتاج صور شعرية يتحسسها في ضوء صور تشكل في ذاته معاناة كبيرة تجاه التاريخ الوطني ،أو الانساني الذي يمكن أن يضيع أمامه تاركاً في ذات الوقت حكايات مجهولة لا يمكن أن تشير اليها ، أو تدونها وقائع . فالمجهول قد يكون شيء قادم مخفي ، أو قد يكون ماض أختفى مع أصحابه الذين كان لهم أثر في عاطفة الأحبة الذين يتوقون لمعرفة ما كان لهم، أو أين تركوا ما يمكن أن يكونوا حاضرين فيه ، باعتبارهم عاطفة قد أصبحت مجهولة الهوية وقد طواها الزمن في مكانات شتى لا يبوح بها هذا الزمن ، ومن هنا يأتي لغز الحياة ،كمثل جندي مجهول لا يمكن أن تتكوّن صورته في ظل الصور الكثيرة في الأذهان المبعثرة ، وهنا تكمن المغامرة الشعرية في أنتاج تصورات عن المفقود الكلي من الجزئيات المبعثرة ، وسيبقى المعنى ويختفي الملمح في ضوء الكلي المرمز لذلك المفقود ، على اعتبار ” إن النمط العام ، الذي أرغب بالتأكيد عليه ، هو ذلك التصور عن الحياة ، أو الطبيعة ، كما لو كانت لغزاً لتركيب الصور. إننا نتمدّد وسط هذه القطع المتناثرة من اللغز . ولابدّ أن ثمة طريقة لتجميع هذه القطع مع بعضها البعض (…) أياً كانت الطريقة التي تفضل بها تصوره هو من حيث المبدأ قادر على جمع وتركيب كافة القطع المختلفة في شكل واحد متناسق، وأي أحد يتمكن فعل ذلك سيعرف ما هو العالم “(1) في تصوراته الكلية التي تختفي فيه الجزئيات التي تشبه عمل الجندي المجهول في تضحياته لصالح الكلي ، هي بطولة فردية مخفية لا يعرفها سوى الجندي المجهول والشاعر الذي يتصورها في لحظة التضحية التي تُذكر مع أسمه فقط كلما ذُكر صاحبها، وتبقى لحظة احتجاج ضد كل من أراد تصدر الأشياء في جهوزيتها دون أن يقدم شيء في تكوينها ، فهذا الاحتجاج الذي يطلقه الشاعر ضد بطولات زائفة للحاضرين ، هو احتجاج بصوت الجنود المجهولين، فهو تاريخ يتوازى مع كل نُصب العالم التي وضعت في قلوب العواصم المتحاربة. هذا الاحتجاج الذي يقارب صوت (ويليام بليك) الذي أطلقه سابقاً يحاكي فيه موضوع التضحية بالروح الانسانية لصالح الذين لا يستحقونها ، أي ” ما رغب فيه (بليك) ، مثل كل المتصوفة ، هو نوع من أستعادة السيطرة على الجانب الروحي والذي تجمّد نتيجة للانحلال البشري والأفعال الفاسدة لقتلة الروح الإنسانية (…) :
وبكى أطفالهم وبنوا
أضرحة في أماكن مقفرة ،
ووضعوا قوانين متعلقة ، وسموها
شرائع الله الأبدية “(2)
في هذا السياق تشتغل تصورات الشاعر (عبدالحسين بريسم) في مجموعته الشعرية التي أخذت عنوانها من قصيدته الموسومة ( تاريخ الجنود المجهولين ) وهي من طباعة (دار الصواف ) في العراق محافظة بابل ، سنة 2018 . إذ حاول الشاعر في هذه المجموعة الشعرية أن يكون مدوّن جيد للاحتجاج الذي يتضح في بعض عنوانات قصائده ومنها (تاريخ الجنود المجهولين ، أستدرجهم ولا تطع ، انتخابات الشهداء ، جثث طافية على نهر الفرات ) وغيرها من القصائد الأخرى في هذه المجموعة التي تصل الى (21) قصيدة . إذا عمل الشاعر على رصد حقبة تاريخية يطلق عليها (تاريخ الجنود المجهولين) ، يحاول أن يدونها بسياقه الشعري ، ويذكر فيها الحرب التي أخذت الجنود حطب لها . فالوطن حروبه كثيرة منذ بداية إعلان الدولة والى الآن مروراً بالسبعينات والثمانينات والتسعينات وحتى بداية القرن الجديد ، ولكل حرب نشيد يميزها عن غيرها من الحروب ، إذ يتجه ببوصلة الجندي المجهول الى أربعة اتجاهات يصور فيها الوطن، وفي أربعة من الفترات العجاف التي يبدأ زمنها الأول في شماله في فترة السبعينيات من القرن الماضي :
” في سبعينيات القرن الماضي
كانت بوصلة الحرب
تشير شمالاً
تأخذ الجنود حطباً
لدفء الجبال
وتعزف موسيقا عسكرية
أناشيدهم جماجم
مازالت أغاني الجنود
حنيناً عاطلاً
صدى لصوت مضى
أنا جندي عربي
بندقيتي في فمي”(3)
بندقيتي في فمي هو الصوت الذي أطلقه في رفض ما أراده أصحاب الحرب بأسم الوطن والوحدة ، فهذا الصوت المدوّن للرفض يتكرر في أتجاه أخر وهو شرق الوطن وحرب الثمان سنوات في صورة ثانية ، وصرخة أخرى لجندي مجهول في الشرق :
” وفي ثمانينياته
ولت وجهها الحرب
نحو الشرق
سنوات تنزف رجالاً
وملحاً
جنود البوابة الشرقية “(4)
جنود البوابة الشرقية الذين عاد منهم من عاد ،وقتل (مجهولاً) منهم من قتل ، ليستريح في غيابة الزمن الذي شمل الكثير من أبناء الوطن الذين شكلوا مع غيرهم الاتجاه الثالث من المجهول ، ولكن هذه المرة في الجنوب لتقطع معهم رؤوس النخيل أيضاً ، من بعد ما كان يميز الوطن في سواد أرضه ، أصبح نخيله بلا هوية أيضاً :
” نحو الجنوب
لتقطع رؤوس النخيل
وينمو رصاص الجنود
زرعوا قمصانهم العسكرية
على الطرقات
فما نما إلا العويل على خارطة الوطن”(5)
خارطة الوطن التي تتنظر اتجاهها الرابع حتى يكتمل تاريخ الجنود المجهولين ، فغرب الوطن هو المكان الذي ذهبوا اليه ، وأنشدوا كل أناشيد التضحية في الألفية الجديدة :
” في الألفية الثالثة
استمرت الحرب
اشتعالاً في غرب الوطن
تتوالد حروباً وصبية تائهين
تأشيرات موت مجاني
وعصبية قاتلة
يا للغرابة
أهذا وطن”(6)
(يا للغرابة أهذا وطن) ، هذه الخاتمة في القصيدة ، وهذا التساؤل الذي تركه لنا الشاعر، وكأنه يردد صوت ألاف الجنود المجهولين عبر تاريخ تضحياتهم الطويل ، وعبر (نُصبهم) التي غطت بأثارها أمكنة الوطن وتاريخه واتجاهاته الأربعة . وبهذا التساؤل في القصيدة صور الجندي المجهول مصير الوطن ، وثبت تساؤل أدانة عن صورته التي تلاشت لصالح العصبية القاتلة وأصحابها .
الهوامش
1. ايزايا برلين : جذور الرومانتيكية ، نقله الى العربية : سعود السويدا ، الكويت : جداول للنشر والتوزيع ، 2012، ص62.
2. المصدر نفسه ، ص107.
3. عبدالحسين بريسم : تاريخ الجنود المجهولين ، بابل : دار الصواف ،2018 ، ص14.
4. المصدر نفسه ، ص14،ص15.
5. نفسه ، ص15،ص16.
6. نفسه ، ص16.