العقل الجديد والخيارات القادمة/ الأستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

هل الإنسانية بحاجة إ

لى مفهوم جديد في صياغة مفهوم للعقل بعد كل هذه الازمات ؟ وهل الانسان أصبح أمام أعتاب مرحلة جديدة من التغييرات بحيث لابدّ من تغيير مفاهيمه السابقة عن العقل ؟ . في ظل المتغيرات الكونية الحالية على مستويات عدة منها أقتصادية ملحة وصحية حرجة وسياسية متصارعة وتقنية منطلقة بقوة نحو تغير مفاهيم عديدة ومنها الزمان والمكان والافعال التي كلها دخلت في مجال الافتراض ، وفي مجال الرقميات التي أصبحت لا غنى عنها في الحياة البشرية اليومية ، فهل كل هذه المتغيرات يجب أن نعقلها بعقل يمتلك نفس صفات المراحل السابقة التي كانت تدعي مرة أن كل شيء يحصل على وفق قوى غيبة ميتافيزيقية ؟، أم على وفق عقل يدعي مركزية الثقافة العالمية، ولأنا المتمركزة في طرف من العالم على حساب الطرف الأخر؟ ،أم عقل عمل على نقد الذات وجلدها واشرك الاخر فيها ؟ . الأخر الذي أصبح فيما بعد شريكاً في كل هذه المتغيرات ، لكن شراكته أصبحت تأخذ صيغ أخرى في ميزان التقلبات الكونية اقتصاديا وصحياً وسياسياً وغيرها . فإذا كان للعقل وظيفة فهي استيعاب الآخر وفهمه ، وهذا الآخر سواء أكان غيبياً ميتافيزيقياً ، أو كان منفياً عن الذات المتمركزة ، أو كان حاضراً بعد غياب قسري عن الذات وشريكاً بالتدريج وصولاً الى القوة المشاركة في صنع الكيان الكلي للنظام العالمي .
فالعقل في مفاهيمه المتعددة والمتغيرة مرحليا ًيعني عَقَلَ (ما هو المخفي فيما وراء الطبيعة) ، و(عقل الذات) ، و(عقل الآخر) ، على أعتبار أن العقل وظيفته عقل الشيء في كل وجوداته وموجوداته ومراحله ، وعقل كل أمكنته ،وأزمنته ، وأسباب وجوده في هذه الحياة . وهل هذا الشيء هو المعادل الموضوعي للعقل حتى يختبر وجوده في الحياة ؟، ويسيطر على كل التغيرات والتغييرات التي تحصل بإرادته ؟، كما هي في مرحلة الانتقال الى عصر الأنوار من بعد أن جعل العقل (الفيلسوف الألماني عمانوئيل كنط 1724م – 1804م) المسيطر في هذا العصر ، بعدما كانت السيطرة للميتافيزيقية في صورتها الدينية على الرغم من أن العقل ومنذ (الفيلسوف اليوناني ارسطو طاليس ) الذي عده في كتاب (النفس) هو مستوى من مستوياتها ، وكما يقول في مفهوم العقل :” ولننظر الآن في جزء النفس الذي به تعرف وتفهم سواء أكان هذا الجزء مفارقاً أم لم يكن مفارقاً من حيث المقدار ، بل حسب العقل فقط . وعلينا أن نفحص ما يميز هذا الجزء وكيف يحصل التعقل . إذا كان التعقل إذن شبيهاً بالإحساس ، فيكون التفكير إمّا انفعالا عن المعقول ، وإما أمراً آخر من هذا الجنس ، يجب إذن أن يكون هذا الجزء من النفس لا ينفعل مع قدرته على قبول الصورة ، وأن يكون بالقوة شبيهاً بهذه الصورة دون أن يكون هذه الصورة نفسها، وأن يكون العقل بالنسبة الى المعقولات كنسبة الحس الى المحسوسات. يجب إذن أن يكون العقل بالضرورة من حيث إنه يعقل جميع الأشياء”(1) ، هذه الخيارات التي حددها (ارسطو طاليس) في مفهوم العقل وفهم طبيعة الاشياء جعلها في ذلك الوقت الصورة للعقل الكلاسيكي على وفق مبادئ المنطق الصوري الذي اتي به لدعم مفهوم العقل وأشتغالاته ، التي سيطرة على البناءات الفكرية للفترة الميتافيزيقية التي صمد فيها هذا المفهوم الى بدايات عصر الأنوار . وبعد ذلك اتى (عمانوئيل كنط) بمفهوم مغاير جعل من العقل هو المركز في فهم العالم وليس تابع الى أي جزء آخر ، أو صيغة أخرى تفسر العالم ، لذا فقد نقل السيطرة اليه ،خلال هذه الفترة التي امتدت مع الحقبة الصناعية وصولاً الى منتصف القرن الماضي ، إذ رأى (كنط) في كتابه (نقد العقل المحض) بأن ” العقل هو القدرة التي تمنحنا مبادئ المعرفة القبلية ، فإن العقل المحض هو ذاك الذي يتضمن مبادئ شيء ما على نحو قبلي تماماً . وأن (أورغانوناً ) للعقل المحض سيّكُون مجموعة المبادئ التي بموجبها يمكن للمعارف القبلية المحضة أن تُكتسب أو تقوم حقاً . والتطبيق المفصل لمثل هذا (الأورغانون) سيعطي سِستاماً للعقل المحض”(2). لذلك أنتج مفهوماً جديداً للعقل في مرحلة سميت بالحداثة ، أو سلطة العقل المطلقة ،وعَقَلَ فيها العقل ما حوله ،وانتج سلطة مارست من خلالها نظاماً خاصاً في استغلال الاشياء في الصناعة ، واكتساب المعارف بعدما أبعدت سلطة العقل كل منافس لها من الساحة العالمية ، وعملت على ايجاد المعارف وبناء النظم في مختلف مجالات الحياة ، ودجنت الكثير من (الطبيعة والبشر) وجعلت هذه السلطة العقلية نسقها في مستويين هما : (الانسان الآخر الذي يقع خارج حدود العقل الغربي ونظامه القائم على الثنائيات ، والمستوى الثاني إخضاع الطبيعة وأستغلالها لصالح التطور الذي أنشده العقل الغرب الذي استعمر الاراضي في سبيل استغلالها وتقديم ما يعتقده الافضل للذات الغربية ) ، حتى وأن كان على حساب الآخر (اللاشريك) في مفهوم هذا العقل وسلطته المطلقة . لكن ما انتجه هذا العقل في هذه المرحلة جعل من هذين المستويين منافس أساسي له ، حتى أنتهت مرحلة الهيمنة ، وأصبح الآخر شريك في التقلبات التي فرضت على أيجاد مفهوم جديد للعقل ، في مرحلة ما بعد الحداثة وتفكيك المفهوم السابق للعقل وسلطته المطلقة في أطار آليات بناء جديد ومعارف أخرى جديدة في كافة المستويات ، وهذا العقل الجديد المشارك للآخر في بناء المعرفة ، هو العقل المضاد للسلطة ومركزها ، ” فهذا العقل مطالب من حيث المبدأ ، بعدم ممارسة أي رقابة ، وعليه الأنفلات منها ،(..) هذا الحد بين العقل الذي يمارس الرقابة والعقل الغريب منها”(3) ، عمل هذا (العقل الغريب) عن الحداثة والرقابة والسلطة في ظل المتغيرات الجوهرية لتشكيل اليات البحث في الغياب ومرمزاته وبعث الحياة من جديد في الآخر وتوسيع مشاركته في القيادة المعرفية العالمية ، على الرغم من آثار سيطرة (عقل الحداثة وسلطته) التي لم تنتهي ، ومارست الكثير من الجهود في بقاء استمرار العقل بصيغته السابقة ، مما أوجد هذا صراع وتنافس بين الأثنين خلق فوضى في العديد من المفاهيم على كافة المستويات ، ومنها الصيغ الجديدة في مفهوم البناء الأسري من خلال القبول بزواج المثليين ، والتي فقدت العائلة على إثره ترتيبها المتكون من (أب وأم وأولاد) ، أصبحت الآن متكونة من (رجل ورجل آخر وأولاد يتبناهم المتزوجون) ، أو امرأة وامرأة أخرى ويتبنين أولاد ) في الدول التي أقرت هذا الزواج لتصبح الأسرة مفككة بالأصل ، كونها لم تأتي عن طريق التكوين الطبيعي للأسرة ، وأدخلت مفاهيم أخرى غريبة في حقل ما بعد الحداثة في كل قطاعات الحياة ، أذا أصبحت مفاهيم العولمة ودمج العوالم ، وفقدان الثقافات الوطنية ، والعمل وقوانينه وغيرها كلها تخض الى مبدأ التصارع الذي حمل معه تدمير غير مبرر للطبيعة والبيئة ، وازدادت الحروب الجانبية على أساس الطائفة والعرق والقومية ، وأصبح البحث في تجزئة المتجزأ هو الشغل الشاغل للإنسان في صورته الحديثة ، هذا الكائن الضعيف أمام التقنيات المسيطرة على كل تفاصيل حياته وجزئياته .وبذلك وصل العالم الى مرحلة الانغلاق التي تصاحبها الفوضى والتغير في كل المفاهيم ، أصبح الإنسان بعقله (الما بعد حداثوي) في أماكن كثيرة من العالم وبتعدديته المفرطة يبحث عن تحول كيفي في أنتاج عقل جديد ، عقل يرى في الأخر شريك لكن هل هذا الأخر الشريك هو الشريك الافتراضي كما في (دمى المعاشرة الجنسية) الجديدة التي ليست من صنف البشر فقط في شكلها الخارجي؟ ، أم في الصورة المرئية في وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبح فيها الفرد أكثر عزلة عائلية ؟، وأصبح لا يستطيع مفارقة أجهزته الرقمية التي يراها أكثر من أن يرى عائلته حتى وهو في البيت ، أو مع زملائه في العمل ، أو مع أصدقائه في الشارع ؟ . وعلى الرغم من توفر المعلومات حد التخمة في برامج البحث الألكتروني مثل (google) وغيرها لكن الفرد يبقى عاجز عن تثقيف نفسه ، وتطوير مدركاته العقلية ، ويفشل في اغلب الأحيان في أول اختبار الكتروني كما هو في أنظمة (التعلم عن بعد) ، والفشل يصيب حتى مؤسساته الصحية في أول اختبار حقيقي أمام (جائحة) عالمية ، اصبح ضحاياها بالملايين .
إذن، فما هو مفهوم العقل الجديد الذي يحتاجه الإنسان حتى يعقل الآخر الجديد بصيغه الأخرى مثل (الرقمية ،والتقنية ،والافتراض) . فهل من الممكن أن لا يخضع هذا العقل في الفترة الافتراضية لتحديدات (ارسطو ، وكنط ، وجاك دريدا)؟ ، أم أن هذا العقل لابدّ أن يكون خاضع المفهوم المناصفة بين عالمين هما الافتراض والواقع ؟ . وهنا من الممكن أن نتنبأ بصراع جديد قد يكون أكثر دمار للإنسان نفسه ، يكون بين المساحتين المعرفيتين (الواقع ، والافتراض) مما يجعل الإنسان ذاته ممزق بين هاتين الصورتين . هذا على مستوى الفرد . أما على المستوى العالمي ، فقد بانت ملامح هذا الصراع وخاصة على العالم الافتراضي الرقمي بين القوى العالمية مثل (أمريكا ، والصين ) ، وبين الشركات العاملة التابعة اهما في هذا القطاع الحيوي الذي بدأ يدر ارباحاً هائلة على الجهة التي تسيطر عليه ، من مبدأ أن أغلب سكان العالم أصبحت تستخدم هذه التقنيات بشكل يومي ودون انقطاع .
ونعود الى التساؤلات حول ما نوع العقل الجديد المطلوب إيجاده في هذه المرحلة بعد خيار العقول الثلاثة ( الكلاسيكي ، والحداثوي، وما بعد الحداثوي) ، هل هو مفهوم العقل المشترك بين (الواقع والافتراض) ، فالرقمية أصبحت ضرورة في الحياة ، فهل ينتج لنا العالم الجديد بعدما قدم مفاهيم جديدة في مجالات الشريك (اللاأدمي ، أو الدميوي) كما في (المرأة الدمية) ، وليس من الصعب أن ينتج لنا عقل رقمي ليسحبنا من الواقع المعاش ، الى عالم افتراضي قدموه لنا صناع السينما في العديد من أفلام الخيال العلمي وغيرها من التي تناقش الإنسان الرقمي الذي يمتلك معرفة رقمية من خلال (شرائح) توظف في جسم الإنسان حتى يكون أكثر معرفة وتقنية من الأنسان العادي . كل هذه الخيارات في مفهوم العقل الجديد مطروحة ، لكن نتائج ما قد تصل اليه الأمور قد تكون غير مسيطر عليها ، وستكون مدمرة تماماً لمفاهيمنا الإنسانية ولطبيعة كوكب الأرض .
الهوامش
1. ارسطو طاليس : كتاب النفس ، ترجمة : أحمد فؤاد الأهواني ، القاهرة : المركز القومي للترجمة ، 2015، ص108 .
2. عمانوئيل كنط : نقد العقل المحض ، ترجمة : موسى وهبة ، بيروت : مركز الانماء القومي ، ب، ت ، ص54.
3. جاك دريدا : عن الحق في الفلسفة ، ترجمة : د. عز الدين الخطابي ، بيروت : المنظمة العربية للترجمة ، 2010، ص385.

0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *