إنَّ حقيقة اشتراك معارف أخرى في بعض حدود علم التاريخ لإيجاد مشتركات بحثية في حياة الأنسان ، منها ما قدمته الفنون في بدايات التجارب الأولى ، قد أستفاد منها المؤرخ في زوايا معينة من هذه التجارب لتدوين بعض الحقائق من جهة ودعم مفردات أخرى عاش عليها الأنسان قد تصلح في توجيه مسارات تاريخية متداخلة مع هذه المعارف ، كذلك الأنثروبولوجيا وصيغها المعرفية واشتغالها في مفردات الحياة اليومية للمجتمعات البشرية الأولى ،أو ما لحقتها من مفردات أخرى ساهمت في دعم صور التاريخ، على اعتبارها مشتركة أيضاً مع مسارات مهمة حددت حقائق تاريخية مثل الرسوم والكتابات الأولى على جدران الكهوف وطرق الصيد التي دونت في فجر بدايات التجارب الفنية البكر ،أو ما انتج من طقوس فيها ملامح للفنون هي مشتركة بين المسارات الأنثروبولوجية والتاريخية ، وكذلك فن السير وغيرها من المشتركات مع العلوم والفنون الأخرى ، ” فالتاريخ مثلاً لا يعني بتدوين جميع الحقائق الخاصة بالحياة البشرية . فهو يترك حقائق الحياة الأجتماعية في المجتمعات البدائية ليستخرج منها علم (الأنثروبولوجيا) قوانينه ، ويتخلى الى (فن السير) ،أو (التراجم) عن الحقائق الخاصة بحياة الأفراد – على الرغم من أن حياة الأفراد جميعاً تقريباً تتصف بالأهمية والقيمة اللتين تجعلانها تستحق التسجيل ، لم يكن أصحابها قد عاشوا في المجتمعات البدائية بل في أحد المجتمعات المتحضرة التي تعدّ ، كما هو المتعارف ، ضمن دائرة التاريخ . هكذا فإن التاريخ يعنى ببعض حقائق الحياة البشرية وليس كلها “(1). غير أن المشتركات هي فعلاً تشكلت من حدث مادي في حياة الإنسان، مما جعلت الحوادث المادية تعطي لدراسة التاريخ بعدها الأنطولوجي الذي يحسم العديد من الرؤى ، وقد تكون بعيدة عن التطبيقات الفعلية لفهم الأنسان والتجربة التاريخية معاً ” وهكذا يصبح التاريخ حسب هذه النظرة ، عبارة عن سلسلة من الحوادث الناتجة عن شروط الإنسان المادية ، وموقفه منها ، لأن هذه الشروط تتبدل وتتعدل تبعاً لإدراك الإنسان نفسه ، كما أنه لا يجوز النظر الى الحياة والتاريخ من زاوية خارجية تقيد حرية الإنسان “(2)وتفرض عليه سياقات خارج عن ماديته التي أسهم بها الفن في شكل أساسي في تدوينها والتي شكلت منها أحداث التاريخ ، والتدوين ليس فقط الكتابة ، أي أدوات الكتابة، لكن مفهوم التدوين هنا يتعلق بالكيفية التي مارس بها الفنان صياغة الأحداث المختلفة التي انتجت تاريخاً كتب من خلاله الممارسات التي قام بها الفنان نفسه منذ اللحظة الأولى لتشكيل وعيه بالتاريخ وبالحياة بمختلف صورها .
إذن ، من أجل أيجاد فهم للتاريخ ، لابدّ أن يتكون أطار مفاهيمي لدى الفنان يكون فيه قادر على إيجاد صيغ تواصل مع أفق تشكيل المنظور التاريخي لكل الحوادث والأفعال التي شكلت وعيه وأساليبه في الحياة ، من يدوّن التاريخ بشكل مباشر ليس كمن يكتبه عن بعد ، وتقع على عاتق الفنان أن يكون واعياً ويمتلك فهماً لما سيدوّن عنه حتى لا يأتي من يكتب مسار أخر للوقائع أو يبدل صورها التي حاول الفنان تجسيدها من خلال عمله عليها ، بل يبقى نتاجه من يعبر عن القيمة في الوعي الجمالي للتجربة التاريخية الدالة التي من الممكن أن تتكرر في صورتها الجمالية بوصفها مقياس نوعي في تجارب أخرى مشابهة من حيث الوعي الجمالي لكن بتفرد عن سابقاتها، أو ما يأتي في طريقة إنتاج العمل الفني ذات التجربة التاريخية بعمل الفنان ذاته كون ” ما يعنيه تزامن الوعي الجمالي في هذا الصدد هو أن أعمال الحقب التاريخية المختلفة يمكن أن تكون موضوعاً لنفس التجربة الجمالية ، لأن المسألة هنا تتمثل في أن نحيا مرة ثانية هذه الخبرة والتعبير”(3). من الضروري أن يتشكل الوعي الجمالي للفنان بآفاق معرفته ومرجعيات تشكيل وعي متقصد للتجربة الإنسانية التي عاشها ، فالفنان بإعتباره إنسان له شخصية معنوية ولتاريخه ايضاً شخصية تكتسب وجودها من وجوده وتكاملها من فهمه ، حتى لا يكون تدوّينها غير سليم من الذي يدوّن لهذه التجربة عن بعد ،أي من خارج أطار التشكيل الذهني للتجربة ، الذي يجزئها ويضيف لها ما يشاء من مفاهيم قد تبعدها عن حدودها وطبيعتها التي شكلت وجودها ، فالأمانة تفرض على من يقرأها أن يفهمها على وفق أطارها الواقعي وفهمها السليم وتدوّينها على وفق تصورات واعيه بها دون اضفاء أمور أخرى عليها، هذه التجربة الفنية في أطارها التاريخي تصبح أشبه بالحادثة التاريخية ، التي تفهم في ضوء فهم طبيعة التاريخ الذي ينطلق من معنى ” فهم لكل حادثة تاريخية بعد أن نجمع أجزاءها ، وندرس مناخها والعوامل المكوّنة لها والشروط الضرورية لبروزها . علينا أن نفهم معناها ، دون أن نكتفي بالسرد ، فالحادثة التاريخية هي بذاتها شخصية تاريخية متكاملة ولها وجودها وحياتها ومقوماتها ، ولا يجوز تشويهها وتحريفها والحكم عليها بمفاهيم قبلية ومأخوذة من عصرنا نحن “(4)وليس من عصر الحادثة ذاتها . من يحاول أن يطبق مفاهيمه المعاصرة على أي حادثة في بعدها التاريخي وفهمه المعاصر لها سيكون هذا التطبيق محمل بانحيازيات ستغير من المضامين الحقيقة للواقع في أطارها الزمني ، فالحادثة التاريخية لها شخصيتها وكيانها وواقعها الذي لابدّ من التعامل وفقه والتفاعل من خلال استحضاره في لحظة ممارسة التطبيقات التي تفسر شكل الواقعة ونظم تشكيل صورها الذهنية في عقلية المتفاعل معها ، وليس على وفق ما يريده المتفاعل مع الواقع مما يسهم في الغاء الشكل التكويني لهذا الحدث التاريخي وتغيير ملامحه التي جعلت منه حدث مهم يراد مراجعته وفهم مضامينه وأثره في الوقت الحاضر.
إذن ،فلا بد من توضيح الفرق بين ثلاثة اساليب من الممكن أن تغير تفسير الحادثة وتؤثر عليها ، اذا لم نستخدم الاسلوب السليم في الفهم للحادثة التاريخية في هذا المجال ، ويعطي (أرنولد توينبي ) في كتابه ( بحث في التاريخ ) تبيان لهذه الأساليب ويقول : ” يوجد ثلاثة أساليب متباينة للنظر في أغراض تفكيرنا والتعبير عنها وعرضها ، ويدخل ضمن هذه الأغراض ظواهر الحياة البشرية . فأول هذه الأساليب تمحيص الحقائق وتدوينها ، والثاني توضيح هذه الحقائق بقوانين عامة يتوصل اليها بالبحث في تلك الحقائق بحثاً مقارناً ، والأسلوب الثالث (إعادة خلق) ، هذه الحقائق أو تجديدها تجديداً فنياً على هيئة قصة خيالية . والمفروض عموماً أن تمحيص الحقائق وتدوينها هو أسلوب التاريخ ، وأن الظواهر ضمن هذا الأسلوب هي الظواهر الأجتماعية من الحضارات . وإن استخراج القوانين العامة وتفسيرها هو أسلوب العلم ، وأن العلم المختص بدراسة الحياة البشرية هو (الانثروبولوجيا) ، أما الظواهر الداخلة في منهجيه العلمي فهي الظواهر الاجتماعية في المجتمعات البدائية. وأخيراً فإن الخيال هو منهج (الدراما ) والقصة أو الرواية ، وأن الظواهر الداخلة ضمن هذا المنهج هي العلاقات الشخصية بين الكوائن البشرية “(5). هذه الاساليب الثلاثة التي يشير اليها (توينبي) تحدد طبيعية الفهم في مجال التاريخ والتمييز بين الفهم التاريخي للتاريخ والحادثة التاريخية ، وبين اسلوبين أخرين لهما تقارب مع هذا الفهم للأشخاص الذين يحاولون دراسة التاريخ دون تحديد الأسلوب المختص بالدراسة التاريخية ، كون أن هذا التقارب يجعل من غير المختص في التمييز بين الأساليب الثلاثة يذهب الى تطبيق مفاهيمه القبلية على الحادثة التاريخية لاغياً شخصية الحادثة التاريخية لصالح ما يريد منها ذاتياً وليس الهدف الموضوعي الذي جعل من الظاهرة محل دراسة ونقاش في مجالها . يريد (توينبي) من المشتغل بهذا المجال أن يعمل مثلما يعمل صاحب الحفريات بدقة في استخدام الادوات البحثية والتفريق بين ما هو مادة أثرية لها عمقها في الدلالة التاريخية البعيدة ، وبين ما هو مزيف من الممكن ان يقلد ويدفن في نفس المكان المراد تنقيبه ، والتحديد والتمييز يأخذه المشتغل في فهم التجربة التاريخية والحادثة التي وقعت وابعادها من خلال (تمحيص الحقائق وتدوينها ) ، لأن العملية تكون الاسلوب الأمثل لدراسة الحادثة ،أو تلك للوصول الى الفهم التاريخي لها .
وباختصار فأننا نحدد الآتي في هذا المجال من خلال الاقتباس السابق لـ(توينبي):-
• التاريخ وأسلوبه هو التمحيص للحقيقة التاريخية من أجل الوصول الى تدوينها كما هي بكل موضوعية بعيداً عما يعد معلومات قبلية قد تفرض على هذه الحقائق فتبعدها عن مسارها الطبيعي الذي وقعت فيه الحادثة التاريخية.
• العلم وأسلوبه في استخراج القوانين العامة وتفسيرها لتوضيحها من خلال اشتغال هذه القوانين في تفسير الحقائق للوصول الى المقارنات البحثية الداخلة في هذا التفسير العلمي . ويشير الى أن هذا العمل يدخل في دراسة الحياة البشرية حتى أن كانت بدائية وتعود الى أقوام سالفة على وفق العمل الأنثروبولوجي في هذا المجال.
• الدراما ،أو القصة ،أو الرواية وأساليب إعادة الخلق لهذه الحقائق ،أو تجديدها في أطار فني يعطي المشتغل في هذا المجال تحويل الحقائق الى خيال للوصول بها الى منهج في طبيعة فهم العلاقات الشخصية بين الكوائن البشرية.
إنَّ قراءتنا لأفكار (توينبي) وتفحصنا لها تشير الى حقيقة واحدة وقعت في التاريخ أشتغل عليها ثلاثة من العاملين في مجالات ثلاثة (التاريخ ، العلم، الفن) فأنتجوا ثلاثة أساليب مختلفة :
• التمحيص للحقائق وتدوينها .
• القوانين من أجل المقارنة.
• وإعادة الخلق والتجديد من أجل الخيال) .
وكلها اتت من الحقيقة التاريخية التي وقعت فأفرزت عدد من الأتجاهات البحثية المختلفة ،وعلى المشتغل أن يفقهها حتى لا يخلط بين ما ينتج عن الحقيقة التاريخية من أشياء تجعل المتتبع يضيع في فهم مفرداتها وانتماءاتها لتلك الحادثة .
إذن ، يحتاج المتخصص في تمحيص الحقائق وتدوينها الى وعي بالتاريخ ذاته وأشتغالاته المعرفية وأدواته حتى يصل الى وعي تاريخي ينتج فهماً سليماً لهذا الأفق الممتد لحقائق التاريخ ، والكيفية التي نخرج بها من أطار الزيف ، ” فالوعي بالتاريخ هو تجنيد الوعي في مشروع تمثل العالم في مجمل تحققه الزماني ، أي امتحان قدرة التفكير على تشغيل ملكة التدوين والتحليل والاستقرار والاستنتاج التي ينعشها كوقائع ، يبدو التاريخ هنا نقطة أساسية يرتكز عليها كل وعي يروم العمق والشمول لأنه يغذي ذلك الوعي بالإحالات التي تسعف فيه المقارنة والتأمل وسائر العمليات المعقدة التي تنتج الفكر”(6). فالتدوين الذي يستند الى العمق التاريخي يفتح الوعي الى آفاق أخرى بعد أن تثبت التجربة التاريخية بوصفها حقيقة قائمة في ذاتها تدعم في تشكيل الوعي في الحادثة التاريخية ذاتها وتعطي العقل امكانية التحليل ولاستنتاج حتى يثبتها بوصفها وقائع تاريخية لها حدودها وتحويلها من ماضيها الى حاضر تكون فيه حية في بثها للتجارب التي يستفاد منها الأنسان في حياته وفي وعيه من خلال التأمل الذي ينتج فكراً ، ومن خلال المقارنة التي ليس كما قلنا سابقاً في استخداماتها العلمية ، لا بل في طبيعتها مع الأحداث التي تقع في وقتنا الحاضر وكيفية استلهام التجارب منها في استخلاص الجيد من الرديء من هذه التجارب التاريخية على وفق الوعي التاريخي بها وأهم ما يقدمه التاريخ من مداخيل معرفية لتطوير وعي الأنسان بماضيه وحاضره من أجل الأبتعاد عن الأخطاء التي وقع بها من هو قبله .
إنَّ صياغات الوعي بالتاريخ وأعادت بث التجارب تجعل من الفرد العامل في مجال التاريخ قارئاً يمتلك مقومات النقل الواعي بما هو منقول في الوقائع التاريخية ، ومن الممكن أن يكون أيضاً فنان في عملية تقديم هذه الحقائق ، فالفن صناعة الأحداث التي قد ترتبط بالخيال بشكل كبير ، والمؤرخ قد يعطي للفنان ملكة المساحة الواعية بالتاريخ بوصفه حوادث لها أطرها في المجال المعرفي على المستوى الوعي ، فكلاهما داعم للأخر من صنع الماضي في جزئه المتخيل هو الفنان ومن قدم المادة في شخصيتها الواقعية هو المؤرخ ، وكلاهما يعملان في مجال أبداعي يتشابه في بعده الواعي في التجارب المعرفية المقدمة ، لكن يبقى العمل في مجال التاريخ يصنع مبدعاً في ايجاد ارضية من الأحداث التي يستقى منها كل من الفنان والعالم وغيرهما ، وبذلك يكون المؤرخ فنان ايضاً كونه يصنع هذه الارضية والمائدة المعرفية التي يمحصها من الماضي .
إنَّ التشابه بين النشأة الأولى بالنسبة التاريخ بوصفه مجال ابداعي للمؤرخ يكون قريباً الى نشأة مجالات ابداعية أخرى ساهمت في الاستفادة من التاريخ وأفادته أيضاً كونها أصبح وسيلة ناقلة أيضاً لهذه الوقائع التاريخية ،أو داعمة لبعض من أحداثها التي قد تكون قد وقعت لكن الدهر قد شوه بعض من ملامحها ، وكل من التاريخ بوصفه سرداً للوقائع ، والملحمة بوصفها سرداً لأحداث يحتمل صحتها من جوانب أخرى فيها تدعم التاريخ ، ويقع التشابه في النشأة ، فنشأة ” التاريخ مثل (الدراما) والقصة من (الميثولوجيا) (الاساطير) ، وهي شكل بدائي في التعبير والإدراك يكون فيه الحد بين الحقيقة والخيال مختلطاً غير واضح (…) فمثلاً لقد قيل إن من يشرع في قراءة (الإلياذة) على أنها تأريخ يجدها ملأى بالخيال . ولكن يصح القول أيضاً أن من يشرع في قراءتها على أنها خيال يجدها ملأى بالتاريخ . وتشبه جميع التواريخ الإلياذة الى حد الذي لا يستطيع فيه (هذه التواريخ) أن تستغني عن عنصر الخيال بالمرة . وأن مجرد أختيار الحقائق وتنظيمها وعرضها لهو أسلوب يعود الى حقل القصة والخيال ، وأن رأي الجماهير مصيب في تمسكه بأنه ما من مؤرخ يستطيع أن يكون (مؤرخاً) عظيماً إذا لم يكن كذلك (فناناً) عظيماً “(7) ، في صنع مادة معرفية من يقرئها ويمحصها يكون قادراً على أن يقدمها من خلالها قيمة معرفية تضاهي عمل الفنان العظيم في مجال ابداعه . فالفنان مصمم مبدع في وعيه الإبداعي ، والمؤرخ أيضاً صانع مبدع في وعيه التاريخي ، بين الوعي الإبداعي والوعي التاريخي تشابه كبير في صنع التجارب المعرفية بين التمحيص لدى المؤرخ وإعادة الخلق لدى الفنان.
من طبيعة التواصل المعرفي بين القارئ سواء أكان مؤرخ أو فنان مع التاريخ يسير وفق حاجة قد تفرضها التجربة التاريخية ،أو موقف الفرد من هذا التاريخ في أيجاد ما يتلاءم مع احتياجاته لتجربة تاريخية ما ، وأن تنطبق على مواقف معاصرة من أجل الدلالة على من يؤيد مواقفه تجاه هذه القضايا المعصرة ، أو قد تكون لحاجات أخرى يسعى من يعمل في مجال التاريخ الى ايجاد ضالته في البحث بالحقائق الماضية وكيفية صياغة تجارب جديدة تفيد في هذا المجال الذي يسعى من ورائه الى أثبات ذاته من خلالها ، ولكن ليس على حساب موضوعية الحقيقة التاريخية . إنَّ الوعي التاريخي لدى الفرد لابدّ من الوصول الى ما يهمه من البحث في الحقائق التاريخية من أجل اثبات ما يريده ،أو تقديم وجبة معرفية للقارئ من وراء بحثه في التاريخ . فالحياة هي تاريخ مسطّر لا ينتهي وكأن الحياة هي ماكنة لأنتاج التاريخ ، والفرد يبحث فيها وفيما تنتجه من حقائق تاريخية لابدّ من دراستها . فالعملية لا تخلو من “أن الحياة بحاجة الى التاريخ : هذه الحقيقة لابدّ من الوعي بها ، ولابدّ في نفس الوقت من الوعي بمبدأ (…) وهو أن الإفراط في التعلق بالتاريخ يضر بالأحياء. إنَّ التاريخ يهم الأحياء لأسباب ثلاثة : لأنهم أولا ناشطون وطموحون ، ولأنهم ثانيا حريصون على المحافظة على الأشياء وعلى حب التقديس ، والسبب الثالث لأنهم يتألمون ولابدّ لهم من الخلاص “(8)، وطبيعة الفرد يسعى الى العمل المستمر من أجل اثبات ذاته ،مما يجد في التاريخ وحوادثه دفعة نحو العمل الطموح من خلال استلهام ما يمكن أن يفيد من التاريخ ، كما هو الحال في الحوادث التاريخية التي تخص المفاصل العلمية من اكتشافات ،واختراعات وغيرها في مجال الطب ، أو الهندسة ،أو الفيزياء ،أو حتى العلوم الإنسانية . وكذلك فإن البحث في اهتمام الفرد بالتاريخ قد يكون لحرصه على الرموز الموجود فيه ،أو حوادث أعطته امتداد حقيقي لوجود عمل على أحياء التاريخ بجدية مستمرة حتى يؤكد وجوده في ظل العمل على التغيرات التي تحصل على مستوى أثبات أو محو الهويات المحلية ، مثال على ذلك : في الوقت الحاضر نلاحظ ابناء الأمة العربية دائماً ما يتغنون بالماضي الذي كان قد جعلهم في وقت ما في ريادة العالم ، مقابل ما يتعرضون له اليوم من محاولات لمحو الهوية العربية مقابل الهيمنة الغربية على العالم . وتوجد أمثلة أخرى كثيرة في هذا المجال من الممكن أن يسوقها من يعمل على تعميق هذا الموضوع على مستوى الفرد ،أو الجماعة . أو قد يعمل الانسان على الهروب الى الماضي الذي يجد فيه مساحة جيدة لتجارب ناجحة قام بها أسلافه جعلته من الذين ينغلقون عليها بسبب أخفاقات الحاضر المعاش الذي قد يتسبب بأزمة أثبات وجود قد تزحزح عن جادة الصواب نتيجة للظروف التي يعيشها الأنسان في وقته الحاضر ، ونلاحظ عند بعض كتاب القصة ، أو الدراما ، وغيرهم دائماً ما ينغلقون على الماضي للخلاص من الحاضر باستحضار الموقف التاريخية دائماً بوصفها نوع من الخلاص في هذا المجال ، كاستحضار شخصية البطل الذي يعمل على تجسيد صورة المنقذ في مواقف معينة ، وفي الأدب أمثلة كثيرة ومنها ما حفل بها الأدب اليوناني في الألياذة وحروب طروادة ، لكن الانغلاق على حقيقة البطل اليوناني المخلّص جاءت نتيجة لغائية تاريخية عمل على الاستفادة منها في دعم اثبات الهوية على المستوى الثقافي في تأكيد تاريخية المرجعيات الغربية ، وكذلك على البعد الجمالي للهوية الاغريقية باعتبارها الهوية المؤسسة للذات الغربية في هذا المجال ، وكما سنتناولها في الفصلين القادمين .
المصادر
1. أرنولد توينبي : بحث في التاريخ ، المجلد الأول ، ترجمة : طه باقر ، بيروت : الفرات للنشر والتوزيع ، 2014، ص104.
2. د . حسين محمد سبيتي : أعلام فلسفة التاريخ ، بيروت : المكتب العالمي للطباعة والنشر والتوزيع ، 1996، ص47.
3. هشام معافة : التأويلية والفن عند هانس جورج غادامير ، الجزائر : منشورات الأختلاف ، 2010 ، ص176.
4. د . حسين محمد سبيتي: نفسه ، ص59.
5. أرنولد توينبي : بحث في التاريخ ، المجلد الأول ، نفسه ، ص 103.
6. د. عبد الله عبد اللاوي : حفريات الخطاب التاريخي العربي (المعرفة ، السلطة والتمثلات)، الجزائر : أبن النديم للنشر والتوزيع ، 2012، ص 19.
7. أرنولد توينبي : بحث في التاريخ ، المجلد الأول ، نفسه ، ص 104.
8. د . الهادي التيمومي : المدارس التاريخية الحديثة ، بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر ، 2013،ص29.