إنَّ المعرفة بالأشياء والاحداث والوقائع هي من اختصاص بني البشر ، تلك الحيوات الناطقة الذين يرتبطون بمفهوم الحيوانية جنساً والناطقية فصلاً ، والذي يحقق المفاهيم على مستوى الوعي وأدراكها ومن ثم تطبيقاتها في مجالات العمل في شتى المجالات في الحياة العامة ، والبحث عن المعرفة أعطت الاشتغالات المختلفة والادراكات في المجالات المتنوعة فهماً مختلفاً لدى عدد من المشتغلين في الحقل المعرفي على مستوى الافعال ، وكل حسب تصوراته المختلفة التي انتجت بالتالي تصورات متغايرة في الفهم متباعدة في التطبيق والانتاج والغائية المعرفية . فالفرد في الشرق مثلاً يختلف عن الفرد في الغرب على الرغم من التشابه في التكوينات الجسمانية والصورة الخارجية ، سواء أكانت على مستوى الجنس ،أو الفعل، لكن الاختلاف يكمن في آلية التصورات في ايجاد التطور والتعامل مع المواقف حتى على مستوى المرجعيات التاريخية ، أو البايولوجية ، أو حتى على مستوى الطبقات الاجتماعية وكيفية تصنيفها ليس على مستوى البيئة الوحدة فقط ، بل على مستوى البيئات الاكبر حجم، والمقصود بها على مستوى الاتجاهات الاربعة ،فالفرد في الشمال أكثر تطوراً من الفرد في الجنوب باعتقاد بعض الفلاسفة والمفكرين ومنهم الفيلسوف الألماني (يوهان جوتفريد هردر) الذي تأثر بعدد من الفلاسفة ومنهم (أرسطو) الذين جعلوا للطبيعة أثر في التغيرات التي تحدث للشعوب ، لذلك يرون بأن “الجنوب هو موطن الكسل بسبب الحرارة السائدة فيه ، وأن الشمال هو موطن العمل والنشاط بدافع البرودة ، وأنه قدر الشعوب الجنوبية أن تغزوها الشعوب الشمالية بإستمرار وأن من الطبيعي أن يكون العبيد من الجنوب والسادة من الشمال”(1)، والفرد في الغرب أكثر معرفة ونمو فكري وعقلي من الفرد في الشرق الذي يصفه بعض من المفكرين بأنه اقل تطوراً في الفكر والمعرفة بسبب الاستبداد الذي يمارس ضده ، بل البعض يعتقد بأن الفرد في الشرق هو راض بهذا الاستبداد كونه لا يسعى الى البحث عن تحقيق ذاته الا من خلال أيجاد وضع يكون فيه هو تابعاً لشخصية الملك المستبد الذي يصور نفسه إله ، أو نصف إله ، وهذا ما يؤكده الفيلسوف الألماني (هيغل) ” الذي ركزه في مفهوم التاريخ ، وجعل عنصر التفوق في الحضارة الغربية من خلال مفهوم (الروح المطلقة) ، التي وصلت عند الشعوب الجرمانية الغربية الى أعلى درجات الحرية والتطور بعد أن كان يعبّر عنها بشكل رمزي في الحضارات الشرقية القديمة بسبب استبداد حكامها وشعوبها الذين لا يعلمون الروح ، أو أن الأنسان بوصفه إنساناً ، هو حر في ذاته ، ولأنهم لا يعرفون فأنهم ليسوا أحراراً ، أنهم يعلمون فقط أن الحاكم الوحيد هو حر ، ولهذا السبب فأن مثل هذه الحرية ليست سوى نزوة وبربرية ، لأنها بلا قوة عاطفية ،أو عذوبة عاطفية لا تعدو هي نفسها أن تكون حادثة طبيعية ،أو نزوة، وهذا الفرد الوحيد لم يكون سوى مستبد ، وليس رجلاً حراً”(2). هذا التصورات المختلفة جعلت من بوادر الاختلاف في مفهوم الفرد والجماعة تتوسع وتبنى فجوات عميقة في هذه التصورات بين الاتجاهات الاربعة ، بل وتتطور هذه الاختلافات في داخل المجتمعات ذاتها ، وهي انعكاس لتلك التصورات العامة ، التي اصبحت اكثر حدة في التطبيق وخاصة مع تطور المدنية في هذه المجتمعات. لذلك جاءت الغائية والتمركز حول الذات في بناء صورة عن طبيعة الحياة التي ينشأها من خلال هذا التطور بالذات وقابلية التمركز حوله ، وهذه الذات التي نعني بها هنا هي ليست ذات فردية ، بل هي ذات تعبر عن روح الأمة ، أي بما معنى أنها ذات أمة تتمركز حول نفسها في محاولة لإيجاد تصور عام لتطور روح أمة ما عبر الحفاظ على ذاتها وتقديسها بنظر ابنائها من جهة وبنظر الأخرين المنافسين لها ، هذا التمييز والتعلية المتقصدة للذات في روح الأمة وهو من أجل تكوين صورة عن الهوية التي يجب أن يسهم أبناء الأمة في الحفاظ عليها تكمن خلفها غائية تاريخية من أجل أظهار التفوق على الآخر، وهذه الصورة موجودة عن كل أمة واعية بذاتها وروح تطورها وتشكلها عبر تجارب التاريخ في أحداثها التي شكل ملامح هويتها على وفق الغائية التاريخية .
إنَّ بعض الأمم عملت على تطوير الهوية بالاستناد الى ملامح التنافس مع الآخر الذي جعلت منه مقياساً في بعض الأحيان لمعرفة التفوق الذي تمارسه ضد الآخر، وبالتالي فالمنافسة على مدار الصراع هي الهاجس الذي يسهم في نمو الذات في أمة ما ومقياس تطورها ورصد التطور من خلال رسم الهوية وإعطائها ملامح أكثر توهجاً في كل فترة من فترات التاريخ حتى يصل مفهومها الى أعلى مستويات التفوق في صناعة الهوية ورفع مستوى الأنتماء اليها من خلال جعلها تشكل محور الوعي لدى الجماعة والانتماء لروح الأمة. إنَّ ” مسألة تعيين الهوية ليست أبداً مسألة تأكيد على هوية متعّينة مسبقاً ولا هي نبوءة تحقق ذاتها ، إنها على الدوام إنتاج صورة للهوية وتغيير الذات باتجاه اتخاذها تلك الصورة ، والحاجة الى تعيين الهوية ، أي الحاجة الى أن تكون مقابلاً لآخر “(3) . إنَّ إنتاج هوية في ضوء ما يخلق من صناعتها تكوين بؤرة للتمركز حولها مما يعني ايجاد طرق ومسارات من أجل النزوح اليها والتشكل في داخلها من أجل انتاجها من خلال عملية تراكمية معنية بعدد من الممارسات الخاصة بها في مجال التأكيد عليها .
إنَّ الحاجة لتعيين الهوية على وفق الغائية التاريخية تبقى حاجة ملحة نابعة من طبيعة الاشتغال الفكري العقلي والمادي الجسدي ومن خلال ممارسات في ترتيب الأحداث والوقائع الخاصة بعلاقة الذات بالآخر، في ضوء هذه العلاقة تتشكل ذهنية التمركز حول الذات حسب طبيعة الممارسات التي تدخل في مجال تشكيلها . أن هذا التمركز الذي ينعكس خطاباً في رسم ملامح الذات نفسها ، أي أن التمركز لا يستطيع من يعمل عليه من الخروج عنه في أظهار تعددية في الافكار الأخرى التي من الممكن أن تكون أداة في تهشيم صورة التمركز عند الآخر الذي يبحث عن ثغرات من الممكن أن تسهم في جعله متفوقاً ، وتكون هذه الروح التي تشكل الذات الواعية في غياب عن دورها إذا ما عمل الآخر على تفكيك خطابها وتبيان مكمن الضعف فيها ، والتمركز حول الذات يوجد خطاب متماسك قادر على أن يشكل وعي في أصل الحالة المراد التمركز حولها ، ويأتي فعل أنتاج الغائية التاريخية لهذا التمركز في الذات على إيجاد ملامح تاريخية قادرة على شرح هذا التمركز وأهمية الخطابات المنتجة في هذا المجال ، وهذه ايضاً من مهام الذات المؤسسة للخطابات والداعم لها في تحديد الوقائع التاريخية المراد توظيفها في الأفعال المتمركزة ، واختيارها في تكوين الوعي التأسيسي للهوية التاريخية للذات المؤسسة في مختلف المجالات ومنها في الدين واللغة والتعليم والفنون وغيرها من مجالاتها الفاعلة ” فالذات المؤسسة ، وهي تخترق سمك ، أو جمود الأشياء الفارغة ، هي التي تلتقط ، عبر الحدس ، المعنى الموضوع فيها ، وهي أيضاً من تؤسس – خارج الزمن – آفاقاً من الدلالات لا يكون على التاريخ ،فيما بعد ، سوى أن يقوم بتوضيحها ، آفاقاً من الدلالات تعثر فيها القضايا والعلوم والمجموعات الاستدلالية ، في النهاية على أساسها”(4)تبنى صورة إنتاج الهوية التي من الطبيعي أن تتجه لها ذوات العاملين على الأندماج فيها ومقارنتها ومقابلتها أيضاً بالآخر . والذوات التي تتجه صوب تشكيل التمركز في إنتاج ،أو تشكيل ذات متمركزة على تلك الذوات أن تمر بمرحلة من مراحل التشكيل التي تربط بين الابتكار والتمركز والعلاقة المتبادلة بينهما في تأطير تلك العلاقة المتبادلة بمدلولات من تواريخ متعاقبة في رسم تلك العلاقة وجعل المدلولات ذات البعد التاريخي أشارات من أجل دعم فكرة التمركز في الذات نفسها ،والمراحل هي تعطي للذات المؤسسة بعدها وغائيتها التاريخية في إنتاج الأحداث الأولى ومن ثم إعادة إنتاجها في المرة الثانية ومن بعدها يصبح الظهور في ضوء العلاقة التبادلية فيما بينهما من أجل أنتاج خطاب يشكل أساس لعبة الظهور وتبادل العلاقات بين ما يراد تأكيده في مسيرة أنتاج خطابات الذات المؤسسة .وهذا الخطاب سواء أكان ” ضمن فلسفة الذات المؤسسة ،أو ضمن فلسفة التجربة الأصلية ،أو ضمن فلسفة التوسط الشمولي ، فإنه ليس إلا لعبة ، لعبة كتابة في الحالة الأولى ، ولعبة قراءة في الحالة الثانية ، ولعبة تبادل في الحالة الثالثة ، وهذا التبادل ، وهذه القراءة ، وهذه الكتابة ، لا تستعمل أبداً إلا العلامات “(5) في إنتاج خطابات لها صفة الأستمرارية في إيجاد صورة دالة على التمركز حول الذات لدى الجماعات المؤسسة في رؤية تواصلية مع التاريخ في مجال الظهور والتواجد في ساحة إنتاج الهوية التاريخية الدالة على الذات المؤسسة .
إن الهدف المعني من وراء تأكيد الانجذاب نحو الذات المؤسسة في تأصيل عماية التمركز فيها هدفه المعني هو الوصول الى مبدأ تطابق بين أهداف التمركز وظهور الهوية التاريخية للجماعة المبتكرة لهذه الهوية ، وتدخل عملية أخرى في هذا المضمار هي عملية بحث عما هو متباعد ومشوش للظهور الهوياتي من أجل خلق قطيعة معه ومحاولة جذب ما هو متطابق في مسألة تأكيد الهوية وغائيتها التاريخية ، والمسألة من الممكن أن تفيد الطابع النفسي للجماعة التي تأتي فيما بعد من أجل التواصل مع الذات المؤسسة في مجال إنتاج الهوية القارة في البعد الجمعي والذاكرة الفعالة المتواصلة مع التاريخ المؤيد والداعم للتمركز في داخل الذات المؤسسة وهويتها التاريخية . إنَّ مبدأ التطابق يؤسس لعقلية باعثة في النشاط المعرفي لأنشاء خطابات دالة ومنتجه داعمة للذات المتمركزة على أعتبار ” إنَّ المطابقة هي آلية نفسية ، ترتبط أساساً بالذات الجماعية في مسعاها لتأسيس أو تأصيل ذاتها ، قد تنشأ مع بداية تشكل الذات وحضارتها ، فتحاول تأصيل قوتها وتاريخها بالارتباط بالقديم ،أو بنقده وتحليله ، وبالتالي تجاوزه، أو عن طريق القطيعة المعرفية معه ، وقد تظهر المطابقة بعد ضياع النموذج الخاص وتراجع الحضارة ، فتلجأ الذات الى هذه الآلية وذلك باستعادة نموذج من الماضي فتطابقه ، أو تلتمس نموذجها من صاحب الحضارة ، ولكن الفرق شاسع بين أن تؤصل الذات ذاتها وهي في مرحلة القوة وبين أن تبحث عن نموذج لها بعد أن ضيعت نموذجها”(6) بعد أن ابتعدت عن النماذج بطرق مختلفة .
نستطيع أن نستنبط من الكلام السابق أربعة طرائق في التطابق من الممكن أن يعمل عليها من يمتلك التأسيس في تشكيل ذات متمركزة حول هوية ما ، وهي كالآتي:
• الطريقة الأولى : أن تعمل الذات الجماعية في البحث في تاريخها ، فتحاول أن تأصله من أجل بعث حضارتها من جديد للوصول الى ذات جماعية لها حضورها الأصيل من دون أن تطلب أنموذجاً تقتدي به لتشكيل ذاتها الجماعية والتمركز حوله في إنتاج هويتها الدالة عليها.
• الطريقة الثاني : أن تعمل الذات الجماعية على استعارة أنموذجاً جديداً يكون دالاً عليها بعد أن ضيعت نموذجها الذي يؤيد وجودها التاريخي في مجال تشكيل هويتها الحضارية .
• الطريقة ثالثة : من الممكن أن تكون الجماعة قد شكلت ذاتها من أنموذج ليس لها لكنها زيفت حقائق في التاريخ ونسبت وقائع ليست لها عن قصد الى تاريخها ، وأصبحت بالتالي تتباهى به وهو بعيد عنها، بعد أن استخدمت وسائل وطرق مختلفة من التزييف في جعله جزءً من ماضيها .
• الطريقة رابعة: في أن الذات الجماعية عندما استعارت أنموذجاً حضارياً من تاريخ آخر وأصبح جزء من هويتها وبعد أن ضعفت الحضارة التي استعير منها الأنموذج ، نسبته الحضارة المستعيرة لها وأصبح يشكل جزءً من هويتها .
إنَّ التاريخ فيه الكثير من الهويات غير واضحت المعالم في بدايات النشوء ، وتشكيل الهوية التاريخية والتمركز حولها في أنتاج ذات مؤسسة تدّعي لها التقدم والحضارة على حساب الآخر الذي ضعف في فترة من فترات دوره الحضاري ، مما أستغل وظهر فيما بعد وهو بعيد عن هويته الأصلانية التي أسسها في فترة قوته وظهوره الدال عليه في التاريخ . لكن بعد ذلك من الممكن أن يُستغل تاريخه وتراثه ووقائعه لصالح المنتصر الذي حول ما لديه من نماذج دالة عليه بعد تشويهها الى نماذج آخرى بعيد كل البعد عما كانت عليه في السابق . ووفق هذه الطرائق الأربعة التي ذكرناها تشكلت العديد من الهويات التاريخية وتم التمركز حول ذواتها في هذا المجال ، وللجماعات دور في تشكيل هوية والتمركز حولها ، كما في وصف بعض الفلاسفة لسكان الشرق والغرب وكذلك الشمال والجنوب وعاداتهم التي من الممكن أن تسهم في تحديد طريقة تمركزهم حول هوياتهم والغائية التاريخية من التمركز.
المصادر
1. د. محمد كريم الساعدي : الاشكالية الثقافية لخطاب ما بعد الكولونيالية ، البصرة : دار الفنون والآداب للطباعة والنشر والتوزيع ، دمشق : دار أفكار للطباعة والنشر والتوزيع ، ، 2016، ص30،ص31.
2. نفسه ، ص31.
3. هومي .ك. بابا : موقع الثقافة ، ترجمة : ثائر ديب ، الدار البيضاء ، المركز الثقافي العربي ، 2006، ص104.
4. ميشيل فوكو : نظام الخطاب ، ترجمة : د . محمد سبيلا ، بيروت : دار التنوير للباعة والنشر والتوزيع ، 2007، ص 35.
5. نفسه ، ص36.
6. منير مهادي : نقد التمركز وفكرة الأختلاف ، مقاربة في مشروع عبدالله إبراهيم ، الجزائر : ابن النديم للنشر والتوزيع ، 2013، ص41.