من الأمور التي تتوافر عادة في الفنان مصطلح الوعي الذي على أساسه يعمل في البحث في التجارب وغائيتها التاريخية وطبيعتها ومتغيراتها في مجالات متعددة سواء أكانت في وقت الفنان الحاضر ، أو ما يقع خارج الزمن الآني ، مما يتشكل من خلال البعد الزمني صورة عن مساراته السابقة وعن مسارات أخرى أكثر قرباً أو بعداً من التجربة المدوّنة، ويبحث في تاريخ قد مضى ، ولكنه ما يزال موجود وماثل في ذهنه وعقله ووجدانه ووعيه . والوعي الذي يشكل حصيلة التجارب الإنسانية السابقة وأشتغالاتها في الوقت الحالي وكيفية صياغتها في تجارب جديدة من خلال الوعي بالماضي الذي هو ” جزء من الوجود التاريخي . فالإنسان لا يصبح له ماضياً إلا عندما يكون على وعي بإن له ماضياً ، لأنه بدون ذلك الوعي لا يمكن الحديث عن حوار وعن أختيار ، وخلافاً لذلك ، فإن الأفراد والمجتمعات يحملون داخل أنفسهم ماضياً يجهلونه ويخضعون له سلبياً ، وهم يوفرون ربما لملاحظٍ من الخارج جملة من التحولات شبيهة بتحولات الأجناس الحيوانية التي يمكن تصنيفها ضمن نظام زمني . إنهم ما لم يعوا بمن هم ، وماذا كانوا عليه في الماضي ، فإنهم لن يرتقوا الى المصاف الخاص للتاريخ .إنَّ الإنسان هو إذن فاعل في مجال المعرفة التاريخية والموضوع في الآن نفسه”(1). بما أن الفنان في مقدمة الأفراد في الوعي ،إذن فهو من أكثر أبناء جنسه حساسية لهذه التغيرات ، وهو من يعي حقيقة التاريخ من خلال تشكيل فهم واعي صاغ تجاربه على أساس ما حمله هذا التاريخ من صور متعددة تصلح لمواقف معينة وقعت في الزمن الحالي .
إنَّ الفنان الذي يعمل على خلق نظام أبداعي في المساهمة في تشكيل الذهن البشري على أسس من إعادة صياغة التجارب التي من الممكن أن تدخل في أنتاج وعي متقدم عن باقي أفراد المجتمع ، وهو من يرى على وفق هذه الرؤية بإن التاريخ ليس كل شيء حدث في الماضي فهنالك العديد من الأحداث التي ليس لها فائدة في الوقت الحاضر فهي لا تعد جزءً محفزاً لتجارب الأنسان الآنية كونها لا تعد من الضروريات التي من الواجب تكرارها في الحياة الحالية كونها من الممكن أن لا يكون لوجودها أثر في تطوير تفكير الأنسان مالم ترتبط مع موضوع يراد أن ينهض به المجتمع في حياة أفراده وتأكيد هويتهم ، ويعمل الفنان من خلال خلق حساسية الأنتماء لدى أفراد المجتمع بالانتماء حتى تعطي للحياة تجارب مصاغة على وفق أفكار يكون فيها جانب تجدد للرؤية لدى أبناء المجتمع الواحد ،والفنان الباصر الذي يشتغل على إيجاد مدلولات الحياة القادمة في صياغات فنية وجمالية يكون لها موقف صياغة الهوية وغائيتها التاريخية وتأثيرها في مجالات أخرى تقرب المجتمع من الارتقاء نحو التقدم. ويعمل الفنان في مخاضاته على خلق مجال تأثيري ،على أعتبار “إنَّ تشكيل الفضاء الجمالي المستقل أمر لم يكن من الممكن تحقيقه لولا الاعتراف التدريجي بالفنان كذات مبدعة وحرة (…) إنَّ هذه الاستقلالية كانت نتيجة تحرر المجال الجمالي من مجالات العلم والأخلاق والسياسة ، كما أن الكثير من العوامل الاقتصادية ، والأيديولوجية الاجتماعية والثقافية قد أسهمت في تحقيق هذا التطور التدريجي عبر تاريخ الفن الغربي “(2) . إنَّ الفضاء الجمالي الصانع لمخيال التجارب الفنية المدّونة هو من يتناول موضوعات لها تأثير في حياة الأفراد والجماعات من أجل الارتقاء بذائقة الأنتماء وليس كل الموضوعات والأشياء من الممكن أن يتضمنها هذا الفضاء الجمالي ، فمثلاً توجد أشياء على رغم صغرها فإن لها تأثير كبير في تاريخ الفن والتجارب المدونة ساهمت في توضيح خط التباين بين طبيعة الشعوب وانتماءاتها العرقية وغيرها ، على الرغم من أن البعض من التجارب الفنية لا تأخذ من الوقائع التاريخية محتواها الفعلي لكنها قد أثر في أبراز التميز كما في مسرحية (عطيل) لـ (شكسبير) التي ساهمت بتوضيح التمييز العرقي بين (عطيل) العربي المغربي ، وبين أبناء المجتمع الأوربي في البندقية في إيطاليا ، أحداثها قد لا تكون حقيقة ولكن أثرها في إظهار قيمة التمييز كان صارخاً ، وكانت ذروة القصة في قطعة القماش الصغيرة (المنديل) الذي كشفت كل صفات (عطيل) التي يريدها شكسبير في مخياله الغربي المحمل بتجارب فعلية عن هذا التمييز.
المصادر
1. د . الهادي التيمومي : المدارس التاريخية الحديثة ، بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر ، 2013، ص29.
2. مارك جيمنيز : الجمالية المعاصرة ، الاتجاهات والرهانات ، ترجمة : د كمال بو منير ، بيروت : منشورات ضفاف ، 2012، ص27