إنَّ التباين في النظرة للاستشراق افرز تعريفات متباينة حول من يؤيده في إيجاد عبارات تظهر مدى ايجابياته واخرى معارضة ترى في تعريفية جوانب سلبية ، اذ يرى البعض من الذين ينحازون الى ايجابيات الاستشراق بأنه يشير الى “الاهتمام العلمي او الاكاديمي الغربي بالثقافات الشرقية او الاسيوية تحديداً بما في ذلك الشرقين الاقصى والادنى بما يتضمنه ذلك الاهتمام من دراسة وتحقيق وترجمة”(1)، وهذه النظرة التي جاءت قوية لتوجيه اصحاب الشأن انفسهم و من ضمنهم المستشرقين (مكسيموس رودنسون) في القرن العشرين الذي يرى في الاستشراق النظرة نفسها بقوله ان الاستشراق “هو التوجيه العلمي للبحث حول البلدان الاسلامية في الشرق و حضارتها” (2) من اجل الوصول الى معرفة هذه المساحات المعرفية التي تقع خارج الحدود الغربية ، ولكن السؤال المهم في هذا الجانب هل يكتفي الغربي بدراسة علمية اكاديمية للشرق حتى يفهمه من اجل التعايش السلمي دون ان يكون هنالك استغلال سيء لهذه المعرفة في سياقها السليم حتى لا يكون هنالك تحريف او تشويه لطبيعة التوجه الغربي في هذا المجال .
وفي هذا السياق كان الغرب و خصوصاً المسيحي يعتقد ان انشاء كراسي لدراسة اللغات الشرقية كان لغايات محدودة فتحت في عام (1312م) كراسي للدراسات الاستشراقية في جامعات غربية آنذاك ومنها (اكسفورد ، باريس، بولونيا وافينون) وغيرها، و اطلقت على اساسها الرحلات الاستشراقية العلمية في هذه المؤسسات الاكاديمية من اجل قرار اُتخذ من قبل مجمع الكنائس في فينا لاحتواء ما سمي بالتهديد الذي يمثله العالم الاسلامي للغرب المسيحي آنذاك هذا وان كانت اليد المهيمنة لفتح مثل هكذا دراسات ساهمت في رسم صورة غير حقيقية عن المعلومات التي استقاها المستشرقين عن الشرق ، او قد تكون قد اضُيفت معلومات و حُرفت معلومات عن الاسلام والشرق و منها في ترجمة النص القرآني الذي اشرف على ترجمته (بيتر المبجل) عام (1143م) ، وهذه الترجمة التي كانت بعيدة عن حقيقة النص القرآني ، وجاءت هذه الترجمة مُحرفة ومُشوهه بسبب التعصب الديني للمشرف على هذه الترجمة اذن فكيف في نصوص اخرى نُقلت وترجمت هي اقل مستوى من الحفظ من (القران الكريم) ؟ ، او عن المعلومات التي نُقلت من خلال المشاهدة ، اي النقل الذي لا يتضمن نصوص مدونة من قبل ابناء الشرق الاسلامي ، فهذه المعلومات ايضاً صورت بطريقة فيها الكثير من الشك على المستوى المعرفي والانساني والاخلاقي وغيرها ، اذا كان القران هو ترجمة بطريقة سلبية ومشوهه و وضع فيه بعض العبارات الخارجة عن سياق النص الاصلي و التي اُعتبرت هذه الترجمة هي متممه للحملات الصليبية التي بدأت عام (1096م) (3).
بطبيعة الحال ان نوايا المستشرقين ليست كلها سيئة و مشوهه كما يدعي البعض ، لكن الاشكالية التي تقع هنا بعد ان يتم جلب هذه المعلومات ، فإذا كانت منذ البداية هي ليست سليمة فهي تدعم الصورة التي شُكلت ضد الاخر الشرقي المسلم ، واذا كانت فيها الحيادية و الموضوعية فهي قد تًستخدم في فهم الاخر و اليات السيطرة عليه لذلك فأن الاستشراق كمصطلح فيه الكثير من الصور التي قد تُستخدم ضد الاخر في اي مجال معرفي الهدف منه تحليل المعارف والعلوم والآداب والفنون الشرقية وتوظيفها في اهداف اخرى ابعد عمقا مما هو ظاهر في نوايا الاستشراق والمستشرقين على وفق تحديدات (ادوارد سعيد) لثلاثة معاني للاستشراق في ضوء ثلاث مستويات معرفية لهذا المصطلح ، وهذه المعاني هي:-
1. الدلالة الاكاديمية التي تشير الى ان المستشرق هو كل من يدرس او يكتب او يبحث عن الشرق في جانب محدد او عام وفي كل ميدان من علم الانسان الى فقه اللغة.
و هذا النوع من الدراسات الاستشراقية فيها الايجابي و فيها السلبي ، لكن المضمون العام لهذا المعنى هو تحديد من هو المستشرق و على من يُطلق هذا المصطلح بشكل عام.
2. هناك معنى اعم : الاستشراق اسلوب من الفكر القائم على تمييز وجودي (انطولوجي ) و معرفي (ابستمولوجي) بين الشرق والغرب ، وهذا التمييز قبله شعراء وفنانون و فلاسفة و روائيون و سياسيون و اقتصاديون و اداريون.
و هذا النوع الثاني هو اعلى من التعريف الاول كونه يرى ان مصطلح الاستشراق هو ذات دلالة تمييزية بين طرفي صراع او نزاع على مستوى التفوق المعرفي ، وفي هذا النوع يقع التأويل المغاير و المختلف للأخر الشرقي المسلم ، وهذا النوع هو من يحضر من اجل رسم صورة نهائية لشكل الشرق الذي يجب ان يكون.
3. المصطلح يشير في هذا المعنى الى الحركة النشطة المنضبطة الدائرة بين المعنيين الجامعي والعام و الذ بدأ منذ اواخر القرن الثامن عشر : وهو هنا بمعنى المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق بإصدار تقارير حوله و اجازة اراء فيه وتدريسه و الاستقرار فيه وحكمه ، اي كأسلوب للسيطرة على الشرق واستبناءة و امتلاك السيادة عليه (4).
وفي هذا المعنى الثالث الذي اشتركت فيه المعتنيين الاول والثاني يبين المقاصد من طبيعة ونوايا الاستشراق كمعنى له دلالات ومدلولات معينة الهدف منها وضع اسس و اطر عامة لصورة الشرق في ذهنية مختلفة عنه، اي رسم شرق مسلم اخر ، يكون فيه اللصوص ابطالاً والابطال لصوصاً، يكون فيه الرجال العظام مشوهي الصورة والادنى منهم هو العظيم ، شرق تتغير فيه القيم السامية الى صور للإرهاب من خلال ما يثبت في ذهنية الغربي من اشكال بعيدة عن حقيقتها ، ونحن اليوم نجني ثمار هذه الصور التي اصبح فيها العربي المسلم بمظهره و ازياءه ولونه دلاله مقترنة بالإرهاب على مستوى العالم.
في ضوء هذه المعاني الثلاثة يتضح سياق الكتابة في هذا الفصل الذي يتناول فيه الاستشراق الذي لم يخلو بحسب النقطة الثالثة من صور التشويه التي تسهم في فرض اسلوب السيطرة من خلال هزهزة قيم وروح الفرد الشرقي المسلم وخصوصاً برجاله وتاريخه و معتقداته ، هذا المعنى الثالث الذي هو نتاج للمعنيين الاول الذي يدل في ظاهرة على البراءة في التعامل و الثاني على ما يخبئ من نوايا سلبية ، هذا المعنى الثالث الذي توجه به معنى الاستشراق والسيطرة كما هو واضح في شتى نواحي الحياة الفكرية و الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية والعسكرية و غيرها ، ومن خلال مسيرة المصطلح في هذه المعاني ذات المستويات الثلاثة لابد ان تكون هنالك اسباب لظهور و تبني و عائدية لها في الفكر الغربي ومعتقداته.
يشير صاحب كتاب (الاستشراق و التاريخ الاسلامي) الدكتور(فاروق عمر فوزي) الى ان هناك ثلاثة دوافع شكلت مبررات اساسية لبداية ظهور الاستشراق و ساهمت في تحديد معانيه و اظهار نواياه ، وهذه الدوافع الثلاثة لا تخرج بعيداً عن المعاني الثلاثة التي اشار اليها (ادوارد سعيد ) ، وهذه الدوافع حسب وصف (فاروق عمر فوزي) هي:-
1- الدافع العلمي : الذي جعل من المستشرقين يضعون الخطط الملائمة لدراسة الشرق الاسلامي سواء اكانت هذه الدراسات صادقة و محايدة او ذات مرجعيات فيها الكثير من الغموض في تجديد اهدافها الحقيقية ، وهنا يرى فاروق عمر فوزي بأن هذه الدراسات القيمة و التي تقدم فائدة في تفسير التاريخ الاسلامي ولكنه يضع علامة استفهام حول الشطحات و التحريفات او التشويهات في هذه الدراسات والتي ينسبها الى جهل وتقصير في فهم النصوص العربية ، او بسبب بيئة المستشرق او ثقافية او الافكار التي تأثر فيها عبر مسيرته العلمية ، وهنا تظهر حقيقة هذه الاسباب التي ساهمت حتى في الدافع العلمي في تحريف العديد من الحقائق . واذا حاولنا ان نستخلص هذه الاسباب التي ادت الى التشويه وهي :-
أ- سوء في التفسير للنصوص العربية وهذا ما جعل بيتر المبجل يقع في تشويه النص القرآني .
ب- البيئة التي ساهمت في رسم صورة الشرقي المسلم كونه منافس وعنصر يسهم في هدم الحضارة الغربية.
ت- النظريات الثقافية والافكار الغربية التي جعلت من الاخر مغاير ومختلف ثقافيا و فكرياً مما جعل العديد من المستشرقين يقعون رهينة لهذه الافكار المنحازة وغير الموضوعية في هذا المجال .
2- الدافع الديني التبشيري ، وهذا الدافع رسم سياسة التمايز العرقي والديني بين ابناء الحضارتين الشرقية والغربية ، اذ اصبحت المسيحية هي من تمثل الغرب بحضارته و افكاره وسياساته التي كان ابرزها الحروب الصليبية كمبرر لتغير صورة الشرق من اجل ان يكون العالم مسيحياً تحت دولة عالمية واحدة ، بهدف وضع المسيحيين في المرتبة الاولى بحسب التصنيفات العالمية للبشر و دياناتهم ، والذي رأى فيه رجال دين بأن هذه الديانة هي التي تأتي في المرتبة الاولى و المعتنقين لها هم من لهم الحق في حكم العالم ، وهذا ما توضح فيما بعدفي الساسة التي تبناها بعض رجال الدين الذين حكموا اوربا او حتى النظريات التي اطلقها بعض الباباوات و المفكرين و الادباء ، والتي توجت في افكار دانتي التي هي امتداد لأفكار رجال الدين في تأسيس دولة عالمية يكون فيها الحكم على كافة انحاء العالم في هذه الدولة العالمية . علماً ان هذه السياسات قسمت العالم من حيث الصدامات الحضارية الى عالمين غربي مسيحي وفي مقابله الشرق المسلم الذي كان في مواجهة فكرية وثقافية دائمة ، وفي هذا الدافع الثاني يذكر (فاروق عمر فوزي) ان قيام الاسلام كديانة و دولة شكل في عقل الغربي خطراً على اوربا واصبح مشكلة سياسة وحضارية عنيدة للغرب الاوربي المسيحي الذي كان عليه ان يضع الخطط لمجابهة الشرق المسلم عسكرياً وعقائدياً ، وكان للجانب العقائدي تأثير اكبر وخصوصاً قد شكل بعد ذلك قاعده فكريه واسعة يستقى منها الحقائق عن الاسلام ، وكما ذكرنا سابقاً ان مجمع الكنائس في فينا اسهم في انشاء كراس لدراسة الشرق ولغاته ، وكذلك انشئت مراكز اخرى مثل مركز لدراسة تاريخ الاسلام و عقيدته في (طليطلة) في الاندلس عام (1250م) ، بالإضافة الى ذلك قد وضعت خطط لتشويه و الاساءة للإسلام معتمدين في ذلك على ما جاء في كتابات القديس (يوحنا الدمشقي) و المؤرخ البيزنطي (ثيوفانيس) و(بارثلميوس الاوديسي) وهذه الكتابات لهؤلاء الكتاب وغيرهم قد وظفت بشكل دقيق واصبحت اكثر تنظيماً في المراكز الاوربية ، وهنا يؤكد (فاروق عمر فوزي) على هذه الحقيقة من خلال ما ذكره المؤرخ (ساثرين) في ان مواجهه الخطر الثقافي و الحضاري للاسلام يجب ان يكون من خلال تكثيف حملات التحريف و التزييف و التشويه والافتراء على الاسلام واهله ، مما دعا الى استمرار امثال هذه الكتابات المحرفة في العصور الحديثة .وهذا كله يشير الى طبيعة السياسة التي ساهمت في دفع الاستشراق ان تبنى عدد كبير من القائمين عليه لهذه السياسات في النظرة الى الاسلام و الى تشكيل صورة رسوله (محمد ص) في هذا المجال .
3- الدافع الاستعماري : لقد ساهم هذا الدافع في توجيه حركة الاستشراق الى وضع اليات و طرق جديدة في استخلاص المعلومات عن الشرق المسلم ، كون ان هذه الحركة قد اصبح لها مجال اوسع في الحكم كونها مدعومة هذه المرة بقوة عسكرية على ارض الواقع مما جعل استغلال الارض والفرد و الثقافة اسهل من السابق ، وتستمر حركة الاستشراق في رسم صورة مكملة للصورة السابقة وهي ان هذه الشعوب هي بعيدة عن الحضارة و بالتالي فان من اسباب تخلفها هي دينها وافكارها وثقافاتها وهنا يرى (فاروق عمر فوزي) بأن عدد من العاملين في حركة الاستشراق و القائمين على خدمة الاستعمار و الضالعة في ركبه كان لابد لها ان تقوم بدورها المرسوم و هو تصوير الشرق المسلم وشعوبه بصورة من التخلف الفطري وان توجد لدى ابناء هذه الديانة الاسلامية و ابناء الشرق بصورة عامة عدم الثقة بالنفس من خلال تبني ابناء هذه الحضارة للعقلية البسيطة و الساذجة القائمة على الخرافات و البعيدة عن التطور وجزء مهم من هذه الخرافات هي ما ساهم بها الدين الاسلامي ، و اظهار التفوق للفكر و الحضارة الغربية التي يجب ان تقوم هذه الشعوب على محاكاتها في كل شيء و الابتعاد عن الثقافة الأصلانية البعيدة عن التمدن ، واعتناق ديانة الغرب و نبذ ديانة الشرق وهي الديانة الاسلامية ، لذلك يساهم الاستشراق في كلا الحالتين ، اي انه بث معلومات تمجد الغرب وحضارته وديانته على ابناء الشرق المسلم ، و نقل معلومات الى ابناء الغرب فيها الكثير من التشويه و التحريف ، حتى يكون عدد كبير من المستشرقين قد اسهم في خدمة الاستعمار كما استفاد من ادوات الاستعمار في توسيع امتداداته المعرفية التي كان من الصعب ان يصل اليها دون الخدمة التي قدمها الاستعمار له (5) .
إن الخلفيات الفكرية و العقائدية و الثقافية التي استند اليها الاستشراق في تبرير مفاهيمه اتجاه الاسلام و نبيه (محمد ص) و اتجاه الشرق بصورة عامة ايضاً هي خلفيات قائمة على اساس التمييز و التعالي ، وتعتمد ايضاً في رؤياها على مبدأ الاختلاف السلبي الذي تميزه به الاخر بثقافته و دينه و عرقه و كافة التمييزات التي تخدم تقدمها ونظرتها ضد الاخر المسلم و الشرقي لذلك فأن كتاب (مصادر الاستشراق) لـ(علي بن ابراهيم النملة) يؤكد بأن مجموعة من الدراسات التي العربية و الاسلامية قد حذفت هذه الظاهرة اي ان خلفية الاستشراق و مصادره التي اخذ منها النظرة اتجاه الاسلام كانت غير سليمة و من هذه الدراسات دراسة (رضوان السيد) و عنوانها (الصراع على الاسلام) و كذلك دراسة (المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الاسلامي) لعبد العظيم عمود الدين ، وغيرهم ، لذلك فأن (علي بن ابراهيم) يرى ان “بعض الدارسين العرب و المسلمين لظاهرة الاستشراق التي تدرس الثقافة الاسلامية بخاصة ان هذه الظاهرة قد اتكأت كثيراً على (خلفية غير ايجابية) تجاه الاسلام و المسلمين وذلك حينما نظر الغرب ، منشأ ظاهرة الاستشراق الى الاسلام على انه التهديد العقدي و الثقافي الاول للوجود الثقافي و الحضاري للغرب” (6) . لذلك فأن العديد من النظريات وضعت من اجل دفع هذا الخطر الثقافي للوجود الغربي ، و وجه بالطريقة التي تجعل من الدارس للثقافة الاسلامية العربي بصورة خاصة و الشرقية بصورة عامة يقع في العديد من التخبطات و الاختلافات في فهم الظاهرة الثقافية الاسلامية كون من نظر لها و وضع اسس لدراستها في نظرياته الكثير من السلبيات التي تبعد القارئ عن جادة الصواب والحقيقة لان من وضع هذه الاسس في فهم الاخر المخالف ثقافياً ، وضع اسس تعتمد على مبدأين هما :
1- كون الاخر المختلف ثقافياً بعيد عن الحضارة الانسانية على وفق مفاهيم الغرب و نظرياته الحضارية.
2- ان هذا الاخر متخلف و همجي و يريد ان يزيل و يلغي حضارة الغرب بممارساته التي ثبت حضورها الى الوقت الراهن ومتى ضمن هذه الممارسات ان الاخر ارهابي ودينه ورسوله لا يعتمد على مبدأ المشاركة الحضارية مع الغرب . لذلك فان الصِدام الحضاري ابتداءً من ايام نشوء الحضارات الاولى وتقسيمها الى حضارات شرقية واخرى غربية مروراً بالحروب الصليبية و انتهاءً بدراسات عن صدام الحضارات و نهاية التاريخ و غيرها ، وهنا نصل الى نقطة مهمة مفادها “ظهور فكر اوربي لا يؤمن الا بالقهر و السيادة و التميز عرقياً و ثقافياً دون الاعتراف بعملية التبادل الثقافي او الاخذ و العطاء بين الحضارات البشرية المتنوعة ، كل هذه المفاهيم و غيرها سادت في المجتمع الاوربي اثرت عن قصد او دون قصد على كتابات المستشرقين و تفاسيرهم فيما يتعلق بالتاريخ الاسلامي عموماً ، و اوقعتهم في اخطاء منهجية و تاريخية” (7) ،وغيرها مما انعكس سلباً في رسم الصورة البعيدة عن الواقع الفعلي للاسلام ، ومن بين من تعرض للتشويه لتلك النظريات العدائية و الاستعلائية الغربية شخصية الرسول معتمدين بذلك على ما جاء من تحريفات ذكرت في سيرته الخالدة من اجل اكمال ما تبنته المؤسسة الغربية و تاريخها و انعكاسه في طريقة نقل الحديث و تصوير ملامح هذه الشخصية التي اقترنت بوصفها شخصية خارج السياقات الحضارية الغربية. ان القاعدة الفكرية والثقافية التي اعتمد عليها المستشرقون عدت قاعدة احادية النظرة كون ان هؤلاء المستشرقين كان امامهم عدة اهداف استناداً لهذه الخلفيات الفكرية ، وهنا القاعدة لا تنطبق على كل المستشرقين ، لكن تركيزنا على الذين حاولوا ان يسيروا في ركب الحركة الثقافية و الفكرية الغربية القائمة على الهيمنة و القهر ضد الاخر . ومن هذه الاهداف التي اصبحت شخصية امام المستشرقين هي :
1- ان العالم الشرقي متمثلاً بأقرب الناطق لإوربا وهو العالم الاسلامي يعيش بحالة من التخلف و الابتعاد عن الحضارة و هنا يكون هدف دمجه بالحضارة الغربية لا على سبيل التكافؤ و التكامل الثقافي ولكن على ان يكون تابعاً للحضارة صاحبة الركب الثقافي و الحضاري الاعلى و هي اوربا.
2- ان الهدف الثاني هو ان يتم تعديل كل ما هو محلي من افكار و فلسفات و ديانة و غيرها حتى يكون الاندماج و التغير لصالح الاعلى هو مشروع و قابل للإنجاز.
3- ان الهدف الثالث توظيف اكبر عدد من المعلومات التي تسهم على جعل الاخر قادر على ان يكون جزء من حالة الاندماج على مديات مختلفة ، ومنها ان نعيد صياغة ثقافته و افكاره و صياغة وبناء عقيدته بما تتلاءم مع المنظومة المعرفية و العقائدية الغربية .
4- هذه الاهداف تتحقق في ضوء الهدف الاساسي وهو ان صورة الشرق وديانته و عقيدته و ثقافته قد رسمت في ضوء المعتقدات الفكرية و الثقافية الغربية ، حتى يستطيع القائمين على هذا النظام العالمي مستقبلاً ترتيب وضع الشعوب في قائمة يكون فيها الغرب هو الاول تحت حجج مختلفة ، ومنها النظام الاري او الديانة المسيحية التي تعبد الاولى حسب الفكر الكاثوليكي و دولته العالمية ، او حسب الجنس الأرثوذكسي الابيض و احقيته في قيادة العالم وهكذا .
وهذه الاهداف مجتمعة قد خلفت ورائها “زخماً هائلاً من المعلومات المغلوطة في الغالب عن الاسلام والمسلمين ، كانت هي (القاعدة المعلوماتية) التي بنى عليها المتأخرون من المستشرقين وغيرهم دراساتهم التالية استند اليها صناع القرار في رسم سياساتهم في المنطقة (. . .) ولكن ظلت فكرة (تهديد) الاسلام مسيطرة ، ليس على مستوى العلماء و المحيط العلمي (الاكاديمي) فحسب ، ولكن على مستوى القيادات السياسية و التخطيط للعلاقات الغربية مع (العالم الاخر) التي استمدت معظم معلوماتها من الدراسات الاستشراقية المخصصة لهذه الاغراض او الدراسات الشاملة من الاسلام والمسلمين ، ولايزال هذا الاسلوب في استقاء المعلومات مسيطراً على الدراسات الغربية”(8) في مختلف الاوقات والحقب الزمنية في تصوير عقيدة الاسلام ، ومن اخطر هذه الصور التي جعلت من المسلم اليوم يعيش حالة من العزلة ومحاولة الدفاع عن نفسه في اثبات براءته امام الاخرين هي صورة الارهاب التي اصبحت مقترنة بالمسلم اليوم دون غيره من ابناء الديانات الاخر و اصبح هو من يقابل الغربي في الصراع الحضاري حسب تصنيفات العقل الغربي ، فالعربي هو الهمجي مقابل المتحضر وهو الارهابي مقابل المسالم صاحب الافكار التي تدعو الى الحياة والعربي المسلم يدعو الى القتل و العربي اصبح هو الجنسي صاحب الشهوة غير المنضبطة مقابل المتحضر والعاقل المثابر في بناء الانسانية و الحضارة وغيرها من الاوصاف التي انهل منها الفلاسفة والمفكرين والسياسيين و الفنانين في توظيفها في وصفهم للاسلام ورسوله (ص) .
إن اهم الاحكام التي اطلقها المستشرقون على الاسلام ودينه ورسوله (ص) ، كانت مأخوذة من فهم خاطئ للاسلام ذاته ، اي ان العديد من المستشرقين كانوا يبنون احكامهم في اخذ ما كُتب عن الاسلام من مصادر غير واقعية اي من مصادر بعيدة عن الاسلام ذاته ، لذلك فن اغلب هذه الاحكام كانت مستمدة من قواعد ومفاهيم ومرجعيات خارج السياق الذي بني عليه الاسلام ، وهنا يأتي (علي بن ابراهيم النملة) بأهم النقاط التي ساعدت على اطلاق الاحكام ضد الاسلام من بنى ومرجعيات تأثر بها المستشرق وهي :
1- انطلاق المستشرقين ابتداءً من الاديرة و الكنائس مما يؤكد الخلفية الدينية لظاهرة الاستشراق ، وهذه من اهم المرجعيات التي استند عليها المستشرقين ، كون ان الصراع الحضاري بين الشرق والغرب استند في مرحلة من المراحل على الصراع الديني ، وخير ممثل لتلك المرحلة هي الحروب الصليبية التي انطلقت بفعل هذا الصراع بين العرب المسلمين من جهة وبين الغرب المسيحي من جهة اخرى ، تحت مبدأ الظلم الذي يقع للجاليات المتبادلة للطرفين في الاراضي التي يعتقد بأنها تمثل احقية دينية لكل طرف منهما ، ومن ابرز هذه المناطق هي القدس ، والتي لايزال الصراع الحضاري مستمراً الى الان عليها .
2- كون المستشرقين ينطلقون ثقافياً من معتقدات لا تؤمن بالإسلام ديناً شاملاً لكل الاماكن و الازمنة ، اي يعتقدون بان عالمية الدين المسيحي هي من المفترض ان تنتشر و عالمية الدولة المسيحية ممثلة بالكاثوليكية التي تعني هذا الشيء هي من كان يحارب لأجلها الممالك والامارات و الشعوب الغربية ، فإكمال النقطة اولاً تأتي هذه النقطة التي تأخذ قوتها من مدى الافهام الديني الذي يميز الغرب دينياً و ثقافياً عن الاسلام الشرقي.
3- الشعور المستمر بالعداء من الاسلام و الديانات الاخرى ، وان الاسلام يهدد وجود هذه الاديان و رعاتها . وان هذا العداء اسهم بشكل فاعل في الصراع بين الديانتين وبين الحضارتين ، حتى ان المتتبع لكتاب صراع الحضارات لهنتغتون يركز على مفردة الصراع الحضاري الذي مثل بها الغرب بحضارة ذات امتداد مسيحي والشرق بحضارة ذات امتداد اسلامي و جعل الاسلام محور لصراع وصدام الحضارات ، واصبحت هذه القاعدة هي من ابرز المعتقدات التي سار عليها المستشرقين في السابق و عدد مهم من الفلاسفة و المفكرين و خصوصاً في الجوانب الاجتماعية و السياسية .
4- اعتماد المستشرفين المتأخرين في مصادر معلوماتهم عن الاسلام و المسلمين على المستشرقين المتقدمين زمنياً ممن عُرف عنهم عداؤهم المفضوح للاسلام و المسلمين ، مما ساعد هذا في بناء مرجعيات تكاد تكون ثابتة في اصل الاحكام ضد الاسلام، بل ان بعضها مازال مستمر و مستقر في الذهنية و العقلية الغربية ، وخصوصاً في كون المسلم يشكل خطراً دائماً وثابتاً عند الغرب المتمدن والمتحضر ضد الغرب المسيحي ذات الاختلاف الديني و الحضاري ، ومن اهم هذه الثوابت التي جعلت الاسلام العدو الاول في نظرهم هو مفهوم الارهاب و هو مفهوم اصبح يعبر بشكل واضح عن الاسلام في النظرة الغربية التي لم تستطيع التخلص من هذه المقاربة المشؤومة التي جلبت على كلا الطرفين صراعاً مريراً بعيد كل البعد من التلاقي الحضاري و الثقافي بين الطرفين ، وادخل العالم بأجمعه في دوامة لانهاية لها ، حتى ان مفردة الارهاب تظهر بقوة مع كل حادث عرضي او غير مقصود يقع في اي دولة غربية ، واول من يتم ملاحقتهم في هذا الشأن هم الجاليات المسلمة القريبة من الحادث ، حتى و ان كان هذا الحادث تقف خلفه صراعات سياسية او مخابراتية بعيدة عن المفهوم الديني و ليس للاسلام دخل فيها .
5- جهل معظم المستشرقين لغة الاسلام الام و هي اللغة العربية ، وخصوصاً اللغات الشرقية مثل الفارسية و التركية و بعض لغات الشرق كالتي يتحدث بها الافغان ودول اسيا الوسطى و غيرهم ممن دخلوا الاسلام ، ان سوء الفهم لبعض المصطلحات هذه اللغات جعلت من التفسير و التأميل و الاضافات تحرف العديد من المعاني استناداً لمرجعيات متبناة من قبل المستشرقين ، مثال على ذلك ترجمة القران التي اصبحت معتمدة في عقول واذهان بعض المستشرقين و تعبر عن حقيقة تعاملهم مع الاسلام كديانة ، ومع صورة الرسول (ص) كقائد ورسول ونبي للدولة الاسلامية في الشرق ، و تعد ترجمة القران لـ(بطرس المبجل) من الترجمات المشوهة والمسيئة للاسلام و رسوله ، والتي اصبحت من المعتمدات في مجال فهم اللغة العربية و فهم النص القرآني الذي نزل فيها ، والتي انطلقت هذه الترجمة من رحم الصراع والعداء بين الاسلام و المسيحية في ذروة الصراع اللاهوتي بين الديانتين ، لذلك فأن من مرجعيات الفهم الخاطئ الاعتماد على هكذا ترجمات جعلت اللغة العربية المتبناة من المستشرقين تبتعد في نقل الصورة الحقيقية عن الاسلام والرسول (ص) الى الغرب وشعوبه ، والى المستشرقين المتأخرين الذين وضعوا هذه الاحكام كقواعد مهمة في فهم الاسلام و حياة المسلمين ، وتصرفوا على ضوئها في مجال دراسة الاسلام في المنطقة العربية و غيرها من المناطق التي وصل اليها الاسلام (9).
الهوامش
1. الرويلي ، ميجان ، د. سعد البازعي : دليل الناقد الأدبي ، الدار البيضاء ، المركز الثقافي العربي ، ط5، 2007 ، ص33.
2. زماني ، محمد حسن : “الاستشراق والدراسات الاسلامية لدى الغربيين”، ترجمة : محمد نور الدين عبد المنعم ، القاهرة : المشروع القومي للترجمة ، ص43،2010.
3. ينظر: الرويلي، ميجان: المصدر السابق،ص33.
4. ينظر : الالوسي ، حسام يحي الدين ، ملاحظات حول الاستشراق ودارسيه ، بحث ضمن كتاب و اشكالية العلاقة الثقافية مع الغرب ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1997، ص61-62.
5. ينظر، فوزي، فاروق عمر: الاستشراق والتاريخ الاسلامي، عمان الاهلية للنشر والتوزيع، 1998، ص31-38.
6. النملة ، علي بن ابراهيم : مصادر الاستشراق و المستشرقين و مصدر قيمهم، لبيروت : بيان للنشر و التوزيع والاعلام ، ط2،2010 ،ص80-81.
7. فوزي، فاروق عمر : المصدر السابق ، ص28.
8. النملة، علي بن ابراهيم: المصدر السابق، ص83.
9. ينظر: المصدر نفسه ،ص120-121.