الفنان والمنطلق الجمالي  أ.د محمد كريم الساعدي

     إنَّ البحث في الجمال ومفرداته ومنطلقاته الرئيسة من أجل تنمية الفرد وبناء معطياته الجميلة في حاضره ومستقبله، وكذلك استلهام كل ما هو قائم على الجماليات في ماضيها القريب والبعيد ، يعتمد على دراسة الفنون وواقعها وتأثيرها على الأفراد في المجتمعات من ناحية تصورات هؤلاء الأفراد لمفاهيم الجمال في حياتهم على المستويات الاجتماعية والإنسانية وغيرها . فالفن يعطي الأفراد مديات الوعي ، وبالوعي تبني المجتمعات حاضرها ومستقبلها انطلاقا من ماضيها ، وخصوصاً إذا كان الماضي قائم على اسس معرفية تعي أن الجمال أساس التحضر والتمدن ، وليس المبهرجات الخارجية الزائفة التي ليس لها وقع روحي وحسي على المتذوق الحقيقي للجمال .

          إنَّ الفرد في المنطلق التربوي مثلاً يعمل على صياغة سلوكياته على وفق مبادئ نفسية واجتماعية وأخلاقية حتى يكّون صورة جميلة من البناء السلوكي التربوي الذي يظهر في حياته اليومية ، وتطبيقاتها الأخلاقية في فضاءات عادة ما يمارس فيها السلوك القويم أمام الناس ، والممارسات من المنطلقات المهمة التي تبين طبيعة وجود الأفراد في مجتمعاتهم وما هي السمات النفسية والأخلاقية التي تنعكس في الجانب التربوي لديهم  ، ويوجد منطلق ثاني ، هو المنطلق التعليمي ، وما يراد به من دعم العلوم المختلفة في مجالات شتى تنتج لنا فرد متعلم قادر على بناء حياة كريمة لأبناء وطنه ، وتطوير وسائله في العيش الرغيد الذي يصبوا اليه كل الأنسان على هذا الكوكب ، كما يوجد منطلق ثالث مهم لابدّ أن يأخذه الأفراد بالحسبان الا هو المنطلق الذوقي الجمالي والذي هو صلب موضوع هذه المقالة ، وهذا المنطلق يبحث في تنمية مفهوم الجميل والهوية الجمالية لدى الأفراد والجماعات في المجتمعات الإنسانية وتاريخية المنطلق الجمالي والغائية من وراء هذا البحث الجمالي على حياة الأمم ، والكيفية التي اسس على أثرها هذا المبحث الجمالي والهوية الخاصة بكل أمة ، على الرغم من اختلاف استيعابهم لهذه المفاهيم الجمالية ، وما يجعل هذا المفهوم ، أي الجميل ، المبتغى المهم في تنمية مديات الأدراك الذوقي لدى افراد المجتمع ، حتى يظهر الفرد بمظهر لائق يصور كل ما يشاهده ،أو يتذوقه ،أو يلمسه ،أو يشمه ، أو يسمعه قابل لتحول جمالي يتعامل معه في صنع الحياة . فالجميل مصدر الجمال وموضوعه كائن في كل شيء إذا ما ادركناه بطريقة سليمة قائمة على التذوق النوعي والتربية السلوكية والأجتماعية ، والدراية المعرفية في هذا العالم ومفرداته المختلفة ، ودراستنا للجميل من أجل تبيان أهميته في صنع الهوية الجمالية وغايتها التاريخية من جهة ، وكذلك الاستفادة في تأسيس تصور لمفهوم الجميل كونه المرتكز المهم في الجمال .

      فالجميل في السلوك هو أنطباع عال يتركه الفرد في الجماعة ، والجميل في الصنع هو أنطباع في الصنعة التي يتركه الصانع في المنتقي لهذه الأشياء المتقنة الصنع ، والجميل في المعرفة هو أنطباع يتركه المتقن للعلم في إنتاج معرفة صالحة وقادرة على التغيير في أسلوب وحياة المجتمع بصورة عامة والفرد بصورة خاصة . وكل هذه المتقنات تعطي أنطباع بالجميل المتقن في الأشياء ذاتها على مستوى المحسوسات والمدركات . وكل هذه المحسوسات والمدركات لابدّ أن تكّون على وفق ما هو جميل حتى تحقق غاياتها في الظهور والتقبل من قبل المتقصد لها . إذن ، فـ ” الجميل هو موضوع الجمال ، وقيل لا يوجد جميل بطبعه وإنما باعتبارات ، بحسب الثقافات ، وقيل هو المفيد أو النافع ، وقيل هو الحسي ، وقيل بل هو المعنوي ، وهو الخير . ثم إنَّ الجميل له سمات من حيث انتظام الشكل وما فيه من تناسق ، وهو الملائم لذاته والمتآلف مع غيره ، وهو الجذاب الذي يشد الناظر الى صورته يتأملها فيتعرف الى معانيها ، ثم أنه المبهج الذي يدخل السرور الى نفس متأملة ، والجميل فيه رشاقة ، وتآلف ، ووضاءة ، ويوقظ الحب في النفوس”(1) ، والعقول من خلال أضفاء مساحة من المعرفة الجمالية عن الأشياء الجميلة وصفاتها المعبرة عن الشيء الجميل ذاته .

       إنَّ الجميل يأتي في معان متعددة ، فهو يأتي في الحسي من خلال تلقي الحواس له ، كما في أعراض العمل الفني المتلقى حسياً ، مثل الرسم والنحت وغيرها من الفنون الجميلة ، وقد يكون الجميل معنوي كما في الأفكار والرؤى التي تنتج بالأصل من الحسي ، أو تأتي من الأفكار ذاتها ، وهذه الأفكار قد لا ترتبط بحسي ما ، فالخير مثلاً قد يكون فكرة في ذاته وليس بارتباطه بالواقع المادي الذي يرتد في الأفكار على المستوى العقلي .

         إنَّ الجميل في صوره المتعددة يعطي الأنطباع عنه في مجالات الفن مختلفة ، من خلال الآتي  :

  • فهو ما يرتبط بالفن بوصفه مادة .
  •  وما يرتبط بالفن بوصفه موضوع .
  •  وما يرتبط بالفن بوصفه فكرة قبل أن تتجسد انطولوجياً في المجال الفني المعين.

       إنَّ الجميل هو من تناغم شكله وتكوينه مع الأفكار التي ينطلق منها ، وهو ما يتناسق فيه الشكل مع لحظة ظهوره واكتماله للناظر ، فالجميل هو التناسق ،والتوافق، والتداخل ، وهو الكل المتكامل في موضوعاته وتكوينه في ظاهره وباطنه ، وهذا توافق يبعد التشويش عن الناظر ، والذي يبحث عن تناسقه وجمال أجزائه المتكاملة المكونة للكل في الظاهر للعيان ،وإنَّ كل هذه الأفكار وتطبيقاتها على مستوى الجميل الذي هو أساس موضوع الجمال وتكامله للباصر .

        إنَّ الهوية الجمالية  – وتصوراتها العامة بعيداً عن ربطنا لها بالتاريخ والغائية التاريخية – في طبيعتها تعتمد على الجميل في تكوينها كون الجميل يأتي ضمن سلوكيات الفرد أو الجماعة  في نتاجها المفيد أو النافع ،فإن لم يكن مفيد فهو بعيد عن الجميل حتى وإن كان هذا المفيد يدخل ضمن التصورات النفعية في بعض الاحيان والأحوال، بل يكون من ضمن المفاهيم التي تصنع صورة الجميل في ذاته وليس لمنفعة ما .

       إنَّ الجميل في المحسوس والمدرك لدى الناظر على مختلف تصوراته يجذب الناظر اليه من خلال صوره وما تحملها من معان متعددة في أذهان عدد من المتلقين يمكن أن تختلف ثقافتهم ، ولكن تتشابه انجذاباهم نحو الجميل في عمل ما ،وعملية الانجذاب التي يتركها الجميل لدى الناظر تتسم بأمور تتشكل من العمل الفني ذاته ، ومن الأمور التي من الممكن أن يشترك فيها الكثير على الرغم من ثقافاتهم المختلفة هي:( الرشاقة ، السمّو، التآلف ، ويقظة الإحساس بالحب في النفوس المختلفة انتماءً والمتفقة في النظرة لهذا الجميل ) ، مما يولد لحظة من التكامل النوعي لدى كل ناظر حسب ثقافته التي ليس من الممكن أن تختلف فيها صفات وسمات الجميل العامة ،وليس ما يختص بثقافة أو حضارة معينة  ، مما تعطي تكامل كمي في عدد المشاهدات المتنوعة لهذا الجميل ، ويوجد الكثير من الأعمال الفنية التي احتوت على هذا الجميل على مستوى عالمي رغم تنوع الثقافات ، كما في سمات الجميل في اللوحة العالمية (الموناليزا) للرسام الإيطالي (ليوناردو دافنشي) ، أو اعمال الكاتب المسرحي الإنكليزي (شكسبير) في أعماله المسرحية مثل (هاملت) و(روميو وجولييت) وغيرها ، وكذلك في بعض أعمال فن العمارة القديمة في بابل ومصر واليونان ، مثل الجنائن المعلقة ، والأهرامات والمعابد وغيرها ، أو كما في العصور المسيحية والإسلامية ، في جماليات البناء والتزيين في الكنائس والمساجد ، وكذلك في البناء الموسيقي العالمي ،مثل البناء السيمفوني في سيمفونيات (بتهوفن ، وباخ )، أو البناء الاوبرالي مثل (بحيرة البجع) عند (جايكوفسكي) وغيرها من الأمثلة.

         والجميل كما في الجزئيات مهم ، هو أيضاً في الكليات مهم ، أي في الكليات غير المنظورة بالعين المجردة ، فعلى مستوى الديانات السماوية ، فالجميل هو صفة مهمة وعالية القيمة لديها ، كون الخالق قد أطلق على نفسه هذه الصفة ، وهي صفة الجميل ، “والجميل من أسمائه تعالى وفي الحديث (إنَّ الله جميل يحب الجمال) وجماله تعالى هو أوصافه في لطفه ورحمته . والجميل أخلاقيا هو المرتفع عن الدنايا ، وهو الذي يوافق عليه الناس ، ويسر أكبر عدد من الناس”(2) ، وفي العودة الى صفة الجميل للخالق تعطي دلالة على اتساق هذه الصفة التي فضّلها الخالق وجعلها متساوقة مع ما خلق ، فكل خلقه جميل ، وكل ما خلق لا نجد فيه ما يبعده عن هذه الصفة ، فكلامه جميل وصفاته جميلة وأفعاله جميلة ، فهو أله الجمال الذي ينطلق منه صفة الجميل ، وهذا ما جعل الجميل أساس خلقه وصورة صنعه التي لا يمكن أن تبتعد هذه الصفة عن تكوين وخلق هذا الكون على الرغم من أن الانسان لم يصل الى سر عظمة هذا الكون وأبعاده ، والحقيقة التي لا تنتهي لحد معين ، بل تنتهي الى فكرة محددة ، وهي أن كل شيء صنع على وفق مقادير محددة ،ولا يمكن أن تتجاوز الأشياء لهذه المقادير حتى لا تكون قبيحة ، فهذا الكون المحكم هو من جميل صنعه. 

الهوامش

  1. 1. د عبد المنعم الحفني : المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة ، القاهرة : مكتبة مدبولي ، 2000، ص257.
  2. 2. نفسه  ، ص 257.
0 Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *